أثار تصدي الدولة المغربية للعملية التبشيرية التي عرفتها منطقة عين اللوح مؤخرا ردود أفعال متعددة من لدن كتاب التدخل السريع، تجاوزت منطق الردود لتسقط في آثار الرضوض على الظاهرة والمتمثلة في جروح وخدوش وكسور، وقد كانت هذه الرضوض نتيجة استئساد كتاب التدخل السريع من المهربين الدينيين، وكذا استئساد بعض العلمانيين الجاهليين بأصوليتهم، وإذا ما أمعنا النظر في دوافع هذه الرضوض الناتجة عن فعل التصدي للتبشير، فإننا سنقف على جهالة معجونة بعجرفة أصولية تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة. ولعل ما يزيد من احمرار هذه الرضوض وزرقتها وتدفق جراحاتها هو أن بعض الأقلام أصبحت تسلخ بعض ما تنشره جريدتنا لتعيد نشره بأسلوخة تحمل صفة الأطروحة في مجلات على اعتبار أنها أصبحت تتمعش من هذه الأسلوخة تحت عنوان: «التخصص في الشأن الديني»، مما يقف شاهدا على خوائها المهول إلى حد يثير لدى المتلقي الغيثان ومما يبرهن أن الكثير من هذه الأقلام تمارس الطباعة ولا تمارس الكتابة، والظاهر من استئساد المهربين الدينيين بنفخهم المتواصل في البوق من طرفه العريض فيما يتعلق بالتبشير يقف دليلا وشاهدا ونذيرا على جهالتهم الجهلاء الممزوجة بالكبرياء الأصولي للقضية التي ما فتئنا نحيط بها ونستشعرها والمتمركزة أساسا حول الهوية المغربية فحينما نشير إلى مالكية المغاربة وأشعريتهم وتصوفهم الجنيدي يسارع المهربون من منطلقهم التبشيري الأصولي الذي يدعي امتلاك الحقيقة الدينية إلى المزايدة على المغاربة في هذا التصريف المذهبي على المستويات السلوكية التعبدية الفردية والاجتماعية لتطل من هذه المزايدة جهالتهم الجهلاء المعجونة بالأصولية حول مدلول الإسلام المغربي، والاختيار المذهبي المؤسساتي للدولة المغربية، ذلك أنه من الحماقة أن يظن البعض أننا في تأكيدنا المتكرر على مالكية المغاربة وأشعريتهم وجنيديتهم، نرى بأن هذا الاختيار هو اختيار أصولي يقضي بالحسم عبر هذا الدرب دون سواه إلى حد يمكن اكتساب الخلاص الفردي والفوز الجماعي المغربي بالجنة والرضا الإلهي دون سواه من الاختيارات المذهبية والدينية الإسلامية وغير الإسلامية من مسيحية ويهودية. وإذا كان الأمر كذلك فإن حوار الأديان وحوار الحضارات وحوار الثقافات والمذاهب لن يتعدى الممارسات السينمائية والمسرحية، إذا كنا نلجه ولوج الموقن بامتلاك الحقيقة الدينية والفوز الفردي بمفاتيح الجنة. ولعل الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء للمهربين تكمن في أنهم يظنون أننا حينما نتصدى للوهابية وللشافعية الإخوانية بأننا نرى بأن الحنبلية والشافعية مذاهب ضالة، وأن المالكية المغربية هي الاختيار الإلهي الصحيح، وما دونه باطل ولربما نسي هؤلاء بأن الهوية المغربية حينما استقبلت الإسلام وواجهت خطر الإبادة قد تحصنت بالحنبلية في صورتها المتطرفة الخارجية حينما اعتنقت الإباضية التي مازال أتباعها إلى الآن موجودون في «وادي ميزاب» بالجزائر على اعتبار أنها كانت جوابا إيديولوجيا متدينا يقضي بالمساواة ويقضي بالتصدي للإيديولوجية القومجية العربية التي أرادت إبادة الأمازيغية بلبوس ديني، فما كان على الأمازيغ إلا أن تبنوا الإيديولوجية الخارجية الإباضية لتحصين الهوية المغربية في اتجاه المساواة القومية بلبوس ديني مضاعف وحينما زال الخطر المهدد للهوية المغربية طور المغاربة من نظرهم الديني ليعانقوا المالكية بعد أن بصموها ببصمات تخول لهم الحفاظ على المغربة وبأكثر فاعلية ومرونة من المذهب الإباضي الخارجي، أي أن اختيار المذهب المالكي من لدن المغاربة وعلمائهم لم يكن اختيارا أصوليا يرى في هذا المذهب بأنه الوحيد الذي هو على حق ويدخل الجنة، وغيره من المذاهب ضالة وتدخل النار. ي قول العلامة سيدي عبد الهادي التازي في هذا الشأن: «... وبهذا نفسر مزاحمة عدد من المذاهب في المغرب لمذهب السلف... وفي صدر تلك المذاهب مذهب الخوارج الذي تلقته طائفة من المغاربة أول القرن الثاني بصدر رحب، لما قدم لهم من مغريات ظهرت لهم محققة للغرض الذي كانوا ينشدونه من الإسلام، ومن تلك المذاهب أيضا مذهب الاعتزال...، فقد وجد هذا المذهب أيضا بسرعة متناهية صداه في المغرب، وأمسى له رؤساء وزعماء.. ومذهب أبي حنيفة ومذهب الأوزاعي ومذهب داود الظاهري». وهذا يدل على أن اختيار المغاربة للمالكية لم يكن اختيارا أعمى يقوم على الجهل بالمذاهب الأخرى، إنما كان اختيارا قائما على منهج المقارنات والموازنات وتشخيص المصلحة الدنيوية بالأساس. لقد كانت المالكية المغربية عاملا وحدويا دنيويا أكثر مما كانت عاملا ينبني على نظرية الفوز الفردي بالجنة، وهو ما يؤكده الأستاذ حسن الصقلي بقوله: «... ولم تتغذ المالكية في الغرب الإسلامي بالمبادئ العامة فقط، بل تجاوزتها إلى أن تصبح مذهبا عمليا استقى مادته وروحه من الجذور العميقة الأصلية الخاصة بشعوب وأمم هذه الأقاليم وعمل بجد على حل النوازل الشخصية التي تطرأ في الحياة الاجتماعية لكل يوم متجنبا بعض الشيء الانزلاق إلى النظريات العامة، إن هذا المنطق العقلي العملي جعل من الفقه المالكي فقها موضوعيا إيجابيا بلغت درجة جعلته يقف في صف أكثر القوانين الموضوعية العصرية تطورا ولا يتأخر عنها في شيء بتاتا». ولعل أكبر هدية للمالكية المغربية هي الإقرار بعمل أهل المغرب الذي مرر العرف المحلي المغربي الإيجابي وصبغته بصبغة دينية مذهبية مغربية، ولكم أن تلاحظوا أن كفر المهربين الدينيين بالمغربة وهويتها التي تتغذى من العرف هو أنهم لما سمعوا تأكيدنا على مالكية المغاربة في التصدي للوهابية المهربة، سارعوا إلى تهريب الفقه المالكي المشرقي ليجلدوا الشعب المغربي بتلك السياط وليصبحوا قائلين ها هو ذا المذهب المالكي فأين أنتم منه؟ ولنجيبهم إن ما شكل الهوية المالكية المغربية ليست النصوص الفقهية المالكية المشرقية، بل هي التكييف العلمائي المغربي للمالكية وفق المدرسة والخصوصية المغربية، وهو ما سبقت لنا الإشارة إليه في مخالفة المدرسة المالكية المغربية للمدرسة المالكية المصرية والمالكية العراقيةأيضا. بقي لنا سؤال جوهري مفاده: كيف يمكن التوفيق بين مبدأ الحريات الفردية كأساس مركزي من أسس الحداثة والديمقراطية والانفتاح والعصرنة، وبين الاختيار المذهبي المالكي المغربي الذي يقضي بالتصدي للتهريب الديني الوهابي والتبشيري المسيحي مثلما جرى مؤخرا؟ وهو سؤال يتطلب من المتطوع للإجابة عنه شرطين أساسيين: أولهما: الوضوح، وثانيهما الدقة والتفصيل والمتابعة. وفيما يتعلق بالشرط الأول لا يمكن لمدعي الحداثة والديمقراطية أن يتحفظ على مبدأ الحريات الفردية، وهو ما تقربه بكل وضوح، وإذا كان الجواب بهذا الوضوح فلماذا نواجه المبشرين من الوهابيين والمتمسحين؟ لكن هذا الإقرار يحتاج منا إلى تدقيق مفاده أنه لابد من الإشارة إلى أن إقرار الدولة بالوحدة المذهبية هو إقرار على مستوى هوية البلد وشخصيته وكيانه المعنوي، كما أنه إقرار على المستوى المؤسساتي بدءا بالمؤسسات الدينية والسياسية والتعليمية والإعلامية، لكن حداثة هذا الإقرار الدولتي المؤسساتي تكمن في أنها لا تمارس رقابة فردية وقسرية تقتضي بتفتيش قلوب المواطنين وعقولهم وفرض رقابة على ممارساتهم العقائدية على مستوى حرياتهم الفردية أي أن الدولة لا تخصص دركا عقائديا وبوليسا دينيا ومذهبيا يفرض حملات تفتيشية على المواطنين في منازلهم ومحلاتهم كما هو الشأن في الدول ذات الصبغة الأصولية، وكما هو الشأن لدى المهربين الدينيين في منهجهم وسلوكهم السياسي الذي يتحرك وفق مقاربة رقابية عقائدية فكرية وسلوكية على الناس، ذلك بأن الدولة لا تعاقب من لا يصلي أو لا يزكي كما أنها لا تمارس المساءلة العقائدية للناس على مستوى حرياتهم الفردية، لكن السؤال ما فتئ يطاردنا: لماذا تعتقل السلطة الجماعة المفطرة «مالي» في رمضان الماضي؟ ولماذا تعتقل المبشرين الممسحين مؤخرا وترحلهم من البلد؟ ولماذا تعتقل الوهابيين وتداهم التجمعات في المنازل؟ سنجيب عن هذه الأسئلة بالتتابع بدءا بمواجهة التبشير الذي أثار النقاش مؤخرا: لقد كان من الضروري على السلطة التي اعتقلت الأجانب المبشرين ورحتلهم من «عين اللوح» بدل ذلك أن تنظم لهم دروسا ومحاضرات تواصلية من لدن الأساتذة المغاربة المتخصصين لتعريفهم بالإسهام العلمائي المغربي الأمازيغي في الاعتقاد والفكر المسيحي العالمي، والروماني منه بصورة أخص، وبالخصوص على عهد المرجع المسيحي الأمازيغي الأعظم «أغسطين» الذي ينتمي إلى «أغسطا» بسوق أهراس بالجزائر، والتي مازالت تحتفظ إلى الآن بآثار كنيسته وبضريحه، والذي شكلت اجتهاداته وفكره ثورة كبرى في الفكر المسيحي، إلى الآن، وأنا على يقين أن هؤلاء الأجانب يجهلون هذا النبوغ المغاربي الأمازيغي في بناء الفكر المسيحي. وإنه لمن دواعي استحمار المغاربة أن يأتي أجانب بأقراص وكراسات مهربة دينيا ليعرفوا المغاربة بعظمة المسيحية وبديانته. ولهذا نادينا مرارا بضرورة برمجة الإسهام التاريخي المغربي الأمازيغي المسيحي واليهودي في البرامج والمقررات المدرسية ليعي التلميذ المغربي شموخه التاريخي ونضجه الديني الحضاري، وعلى مستوى البرامج الإعلامية كذلك، وهو ما ستكون له نتائج مضادة للتبشير القائم على استحمار المغاربة عبر مواد أصولية مهربة. أما الإشكال الثاني في حركة التبشير فهو قائم على أجندة سياسية وليست علمية ولا دينية، فأن تأتي مجموعة أجنبية تحت غطاء إحساني لممارسة التبشير يعني أن الأمر قائم على خداع الدولة واستبلاد الناس فهل يمكن تبشير الإنسان المغربي بالمسيحية عبر إطعام بطنه؟ أي أن تجعل أقراص (cd) وكراسات تبشيرية وسط كسرة خبز لتبشره وتستقطبه لأهل الجنة؟ وإضافة إلى الأجندة السياسية المتخفية وراء التبشير والقاضية بخلق مجتمع طائفي احترابي ممزق وبناء على معطيات ومعلومات مغلوطة، كما توجد في النشاط التبشيري أجندة أصولية تدعي امتلاك الحقيقة الدينية لمنح صكوك الغفران للناس وتأشيرات الفوز الفردي والجماعي بالجنة، تحت أغطية استحمارية إحسانية تتخفى وراء كسرة خبز أو سراويل وألبسة صوفية.