AHDATH.INFO – خاص أقف في نفس المكان مُرغما. بجانبي والدي الذي يستعرض على الناس أوراقا طبية تشخص حالتي، رغم أنه لم يأخذني إلى الطبيب يوما، ولا عرفنا إلى الآن لما تتضخم أطرافي بشكل مرعب هكذا! يذكرني كل يوم، وهو يدفعني فوق الكرسي المتحرك المتهالك إلى هناك، بأن اسمي الجديد هو ذاك المكتوب عليها، وليس الذي سمتني به جدتي.. فأطأطئ رأسي الكبير أنني سأفعل، وأعده أنني سألتفت إليه حين يناديني به أمام الناس.. بدل أن أنسى كما فعلت آخر مرة. جدتي كانت إنسانة تقية بعكسه هو؛ لذلك فإنها كانت تحمد الله وتشكره كلما نظرت في وجهي، وكأنها بذلك تؤكد لله أنها راضية بقدره. لم تغضب مني يوما، ولا حسستني أنني ثقل عليها، ولا سبت والدتي لأنها وضعت لهم مخلوقا مشوها مثلي، ثم ماتت. بل كانت بفيض حنانها، تمثل كل نساء العالمين.. أم وأخت وجدة وصديقة وممرضة. أتذكر كيف وبختني حين سألتها ذات ليلة: "ماذا لو لم يكن للفقراء مثلنا في هذا العالم شيء اسمه التسوّل، يا جدتي؟ أكيد أن أبي كان سيتركنا نموت من الجوع!". استعاذت بالله كثيرا. حضنتني، ثم ظلت تطلب منه أن يسامحني على جهلي برحمته الواسعة.. إلى أن نامت. لم أسألها مرة أخرى ذلك السؤال، لكنني كثيرا ما كنت أعيد التفكير فيه مع رنة كل قطعة نقدية تُرمى في طاستي. رنة جديدة تقطع تفكيري. درهم، درهمان، ثلاثة دراهم… رنات كثيرة ذات لحن متناسق، تدفعني إلى التفكير في نفس السؤال من جديد.. قبل أن أحس بقرصة في جنبي الأيمن، جعلتني ألتفت ناحية أبي، لأمرر بعد ذلك ما وُضع أمامي على جبهتي ثم أقبله، قبل أن أعيده ثانية إلى طاسة التسول وأنا أهمهم بكلمات غير مفهومة، لذاك الرجل الأنيق الذي وقف أمامي ينتظر دعاء مقابل ماله الكثير. أغمض عيني وأنا أحرك شفتي ورأسي، كدليل على خشوعي العميق في الدعاء. فقط الله هو من كان يعرف أنني كنت أكذب لحظتها كما أفعل دائما.. لكنه لم يكن ليغضب مني؛ فقد كان يعرف مثلي أن الناس يتسابقون علي، لأنهم يرون في دعاء طفل نحيل ومتسخ ومقعد.. صك غفران لذنوبهم وسيئاتهم، وحجابا يبعد كل أذى عن أولادهم الأصحاء والجميلين. كنت أمقت ذلك الإحساس الذي يجتاحني، حين ألمح نظرة خوف من امرأة حامل تبتعد عني مسرعة.. وهي تطلب الستر لكي لا تلد مثلي، أو شفقة من أحدهم وهو يجر أطفاله الصغار بعيدا، بعد أن يرمي درهما أمامي.. وكأنما نظرهم إلي قد يتسبب في رؤيتهم للكوابيس ليلا، أو ربما قد يصيبهم بعقدة نفسية مدى الحياة. كنت أراهم جميعا تافهين ومقززين، وكثيرا ما كنت أحلم بأن أرمي في وجوههم دراهمهم.. وأنا أصرخ "ليس إنسانا ناقصا ذاك الذي تمطرون عليه دراهمكم، بل الناقص عمقكم حين يبخل بالحب عليه!".