في الدستور الجديد لم يعد الملك سلطة تشريعية، ولاهو بقي سلطة تنفيذية مطلقة، الخطاب يستحضر قواعد اللعبة الدستورية الجديدة، وبسبب ذلك كان حذرا في صياغاته وفي اختياره لنوعية الجمل الفعلية في تحديد مرحلة ما بعد الدستور. هناك ملاحظة لافتة في الخطاب، فعكس الخطب الملكية السابقة ، لايتضمن خطاب العرش جملا فعلية آمرة، كما لم يصدر تعليمات قطعية، بل يكتفي بوضع قواعد هي من صميم اختصاصه الدستوري، ويرسم توجيهات هي من قلب مسؤوليات رئيس دولة. فحين تحدث عن التقيد بالدستور روحا ومنطوقا، وعن رفض أي تأويل لاديمقراطي لنصوصه أو قوانينه التنظيمية، مارس الملك ذلك لأنه «يسهر على احترام الدستور» و «على صيانة الاختيار الديمقراطي» وفق مقتضيات الفصل 42 من الدستور الجديد. وفي مسألة القوانين ، لم يأمر الخطاب بالإسراع بوضع هذا القانون أو ذاك، ولم يحدد مضمون ما يجب أن تكون عليه القوانين، إنه يستحضر أنه لم يعد الممثل الأسمي للأمة ماكان يسمح له بالتشريع أو إعطاء أوامر تشريع، لقد توقف عند حدود كونه رئيس دولة، مهمته الحرص على السير العادي للمؤسسات الدستورية، ومجالات التشريع التي أشار إليها هي من صميم ضمان سير الدولة. في تبريره لضرورة التعجيل بالإنتخابات، لم يشر الملك إلي إكراهات الإستثمار والإقتصاد ولا إلى ضغط العمل التشريعي، لقد اختار خطاب االعرش أن يمارس ذك انطلاقا من وظيفته التحكيمية المنصوص عليها في الفصل 42 من الدستور الجديد، فبين الحكومة التي تدعو إلى انتخابات في أكتوبر وأحزاب معارضة لذلك تريدها في مارس، قام بالتحكيم بين الطرفين، وأعطى مبررات انزياحه لموقف الحكومة. وحتي في تبرير موقف الحكومة، تحدث بلغة رئيس الدولة حين أشار إلى أن التأخر يهدر الثقة ويضع فرص التنمية، كما تحدث بلغة الدستور حين أشار إلي أن طول المدة الإنتقالية يتعاض مع الطابع المؤقت للأحكام الإنتقالية في الدستور. ومن داخل الدستور دائما، يعطي الأولوية لوضع القوانين التنظيمية للمحكمة الدستورية والمجلس الأعلي للسلطة القضائية، فالسير العادي لمؤسسات الدولة يقتضي أن تخضع القوانين التنظيمية للإنتخابات المحلية والجهوية لرقابة المجلس الدستوري، والمنازعات الإنتخابية تقتضي فصلا قضائيا قبل تنصيب المؤسسات المنتخبة، لذلك يملي واجب رئيس الدولة، وليس الممثل الأسمى للأمة، أن يصدر الملك توجيهاته بخصوص أولويات التشريع. علي طول الخطاب يظل الملك حريصا علي الإكتفاء بأدواره الدستورية الجديدة حتي أنه تخلص بسرعة من مروث دستور1996، حين يتحدث عن الإقتصاد والتنمية الإجتماعية، ما ينفك يحيل علي الدستور الذي أصبح يلزمه بأن يمارس صلاحياته في نطاق ما يحدده الدستور وما يعطيه إياه من اختصاصات، فحديثه عن «رفع التحدي الأكبر, للتصدي للبطالة والفقر, والهشاشة والأمية, وذلك من خلال إطلاق جيل جديد من الإصلاحات العميقة» ينطلق فيه من مرجعية الشرعية الدستورية حين يتحدث بعبارة «توسيع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية, التي جاء بها الدستور الجديد». وفي نفس المقام يضع حديثه عن توجهات الإقتصاد، فهو إن كان يشير إلى أن » التعاقد الاقتصادي الجديد, يقتضي الاهتمام بمنظومة الإنتاج الاقتصادي, وإذكاء روح المبادرة الحرة, خاصة من خلال تشجيع المقاولات الصغرى والمتوسطة» فإنه يمارس ذلك فقط للتذكير «بما ينسجم مع روح الدستور الجديد, الذي يكرس دولة القانون في مجال الأعمال, ومجموعة من الحقوق والهيئات الاقتصادية». في الخطاب قضايا يجزم فيها الملك ويؤكد أنها «ستظل أسبقية الأسبقيات» يتعلق الأمر هنا بقضية الصحراء ومقترح الحكم الذاتي بالأقاليم الجنوبية، وبتوجهات السياسة الخارجية، والواقع أن ذلك يتم في إظار التقيد بمقتضيات الدستور الجديد، فالدستور ينص في الفصل 42على أن «الملك هو ضامن استقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة» وبنفس القدر يجعل منه الممثل الأسمى للدولة في علاقاتها الخارجية، ورئيس المجلس الوزاري التي تحدد فيه السياسة العامة للدولة. ماذا إذن بعد أن تراجع الملك إلي الوراء وفق ما يمليه عليه الدستور الجديد؟ الجواب يتضمنه الخطاب نفسه، وفي تفاصيل الوصفة يتعين «إرساء مؤسسات ناجعة وذات مصداقية» و«تأهيل وتعبئة كل الفاعلين, ليصبح هذا الدستور واقعا ملموسا»،كما أن «الأحزاب السياسية مدعوة لمضاعفة جهودها لتحقيق مصالحة المواطنين, وخاصة الشباب, مع العمل السياسي» وبشكل أوضح فإن على الناخبين «النهوض بالأمانة الجسيمة،لحسن اختيار ممثليهم»لأن على الجميع «أن يستشعروا أن الأحزاب والاختيارات التي يريدها الشعب, والمؤسسات المنبثقة عن إرادته, هي التي ستتولى الحكم نيابة عنه»، في سياق كل ذلك، ثمة عبارة فضل الخطاب أن يتركها لتكون في الختام ، إن « دستور 2011، بصفته دستورا متقدما من الجيل الجديد للدساتير, يستلزم بالمقابل جيلا جديدا من النخب المؤهلة، المتشبعة بثقافة وأخلاقيات سياسية جديدة». وبالفعل ذلك هو مربط الفرس في الصرح الدستوري الجديد. يونس دافقير