في المغرب وجدان عام يدمن افتراض سوء النية، لا شيء يصدقه، وكل شيء يراه مؤامرة مخدومة بإتقان. لست أدري، ربما هي حالة مرضية، موروثة عن ماض ثقيل من فقدان الثقة. حين وقع تفجير أركانة الإرهابي، اعتبره مرضى التشكيك أولا وأخيرا، «مخططا مخابراتيا لوقف زحف الشارع»، مثلما رأوا في الاهتمام السياسي والإعلامي بتحطم طائرة القوات المسلحة قرب كلميم، «محاولة للفت أنظار الشعب عن مطالبه ودفعه إلي التعاطف مع النظام»، أعرض فقط هاتين الحالتين لتوصيف هذه الحالة الوجدانية قبل أن أنتقل إلى ما يهمني في الموضوع، فحين عرض مشروع الدستور للاستفتاء وكثرت قوانينه التنظيمية كما بدت بعض فصوله عامة فضفاضة، قالوا أيضا إنها «ألغام مخزنية للإلتفاف علي الدستور، وإفراغه من مضمونه حتي يبقى الملك هو صاحب كل السلط»، وفي الأسبوعين الأخيرين من يوليوز، مارست آلة المؤامرة والتشكيك إبداعاتها الكاريكاتيرية، إن التأخر في نشر الدستور الجديد في الجريدة الرسمية، «سببه الرغبة في إعادة إنتاج ممارسات قديمة قبل الإلتزام بمقتضياته». والحكاية وما فيها أن الملك اختار أن يكون للنشر دلالة رمزية، أراد أن يبدأ مفعول الدستور في نفس يوم الإحتفال بتوليه العرش، والقصد من ذلك، حسبما بدا لهذا العبد الضعيف، هو أن تكون ولادة الملكية الجديدة من رحم الممارسة الدستورية الجديدة مقرونة بتعبيرات عرش متجدد، وكم كانت فعلا خطوة جديرة بالتقدير والإعجاب، ففي أول يوم لدخول الدستور الجديد حيز التنفيذ، يكون الملك أول من يطبق الدستور علي نفسه، كأنه يريد أن يقول للآخرين، لا تترددوا، الأمور جدية على هذا النحو، والهندسة الدستورية الجديدة، ليست تكتيكا أو مناورة، حسب لغة دعاة التيئيس والعدمية، على كل واحد منا أن يمارس صلاحياته ويعطي النموذج لما ينبغي أن يكون عليه المغرب السياسي الجديد، قرأت خطاب العرش أكثر من مرة وفي ذهني سؤال واحد: «هل ما زال الملك هو الآمر الناهي كما في دستور الملكية التنفيدية؟، وكما في ادعاءات من لم يكلفوا أنفسهم عناء قراءة الدستور وتحليله قبل الحكم عليه؟». كنت خائفا من أن أحبط وأخرج من ثنايا الخطاب مطأطأ الرأس، لكني كنت سعيدا حقا وأنا أستجمع خلاصاتي، فعكس الخطب الملكية السابقة لم أجد في الخطاب الجديد لمحمد السادس أي استعمال للأفعال الآمرة الأمر، لم يأمر الحكومة بوضع هذا القانون أو ذاك، ولم يصدر أوامره إلى البرلمان ...لقد اكتفى بإعطاء توجيهات وملاحظات بل حتي متمنيات، إما أنها من صميم مسؤوليات رئيس دولة، أو أنها صلاحيات دستورية حصرية، وحتى طموحات مواطن بدرجة ملك، لم يعد الملك يتحدث من خارج الدستور، احترم اختصاصات الحكومة والبرلمان، واحترم أن الدستور الجديد يجعل اللعبة مفتوحة، مارس أدواره وترك للآخرين مسؤولياتهم، لكنه قالها بوضوح، تراجع الملكية إلي الخلف يفرض نخبة سياسية جديدة لتفعيل الدستور ،ويفرض على المواطنين تحمل مسؤولياتهم وعلي الأحزاب «تجمع راسها»، وحتى يصدق هؤلاء أن اللعبة «جد في جد» لا مجال فيها للعودة إلى الوراء، وحتى لا يحتموا في كسلهم بالمخاوف من التأويل الرجعي لما بقي ناقصا أو فضفاضا في الدستور قالها بوضوح، «يجب تطبيق الدستور روحا ومنطوقا»، والفقهاء الدستوريون يعرفون ما تعنيه روح الدستور في مقابل جسده، إذا تعذر فهم النص الحر فيجب شرحه بروح الدستور، ودستورنا الجديد روحه ديمقراطية، والخيار الديمقراطي من الثوابت. واللي ما بغاش يفهم، الملك تيقول بصراحة أخرى «الالتزام بسمو الدستور روحا ومنطوقا، كنهج قويم ووحيد لتطبيقه. ومن ثم، نعتبر أن أي ممارسة أو تأويل، مناف لجوهره الديمقراطي يعد خرقا مرفوضا مخالفا لإرادتنا، ملكا وشعبا». الملك دار خدمتو واللي عليه، أرا لينا دابا المعقول في الضفة الأخرى من اللعبة السياسية والدستورية، أنا مع الفكرة القوية والمباشرة اللي جات في خطاب العرش، إذا كان «لكل زمن رجاله ونساءه، ولكل عهد مؤسساته وهيئاته. فإن دستور 2011، بصفته دستورا متقدما من الجيل الجديد للدساتير، يستلزم بالمقابل جيلا جديدا من النخب المؤهلة، المتشبعة بثقافة وأخلاقيات سياسية جديدة»، سيادنا، الملك تنازل عن سلطات واسعة وعن مركزيته في النظام السياسي، الدور الآن على الزعماء الخالدين أو الذين يتناوبون على الخلود الحزبي، شكون غادي يلعن الشيطان ويقول «باركة نخلي الشباب يخدمو شوية»، من سيراجع القانون الداخلي لحزبه ليحول نفوذه المطلق إلي الهيئات التقريرية للحزب ويؤسس «الملكية البرلمانية» داخل حزبه؟ من سيبتعد قليلا عن الكراسي الوثيرة في صالونات ومكاتب الرباط وينزل إلى القرى وأحياء الهامش ... ليصالح المواطنين والشباب مع السياسة؟ شكون غادي يشمر على ذراعو ويقدم لينا برنامج متكامل ولا يختبئ خلف مقولة «الخطاب الملكي هو برنامجي الإنتخابي» . شكون غادي يكون رئيس حكومة ويقدر يدير خدمتو ويدافع على عرامو... شكون وشكون وشكون، هذه بعض الأسئلة الأصعب في مرحلة ما بعد دخول الدستور حيز التنفيذ.