منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، أصبح السكن الاجتماعي يشكل أحد الرهانات الأساسية للدولة، بغية ضمان نوع من التوازن السوسيو-اقتصادي داخلها، بعدما تنبهت متأخرة لذلك الارتباط العضوي بين الكرامة والسكن، لتطلق مبادرات عديدة تشجع المنعشين –أو المنهشين- العقاريين على التوجه صوب السكن الاجتماعي. ومن هنا سيبدأ الزحف الإسمنتي الذي سيغير وجه مدن بأكملها، ويغير معها أشياء عديدة داخل البنية السوسيولوجية للمجتمع المغربي. أتذكر في طفولتي أنه كانت أمام الحي الذي نسكن فيه، مساحات خضراء شاسعة مترامية الأطراف، وكنت كلما صعدت إلى السطح إلا وامتدت أحلامي بعيدا، امتداد اللون الأخضر أمامي، وعندما أخرج إلى اللعب مع أصدقائي تكبر الأحلام، وتتقوى الأواصر بيننا. لم يكن لعبنا مجرد تفريغ لحاجيات سيكولوجية، بقدر ما كان بناء لعلاقات اجتماعية وإنسانية، تتوطد أكثر فأكثر يوم العطلة الأسبوعية عندما تخرج عائلاتنا إلى النزهة، فيمتزج عالم الكبار بالصغار، وينفتح العالم أمام أعيننا. وفجأة، نبت الإسمنت، وأصبحت كلما صعدت إلى السطح إلا وينغلق الأفق أمامي، «رجل يضرب زوجته، غسيل وسخ على حبل أوسخ منه...». هذه هي الصور التي عوضت أحلامي الكبرى والممتدة. تغير شكل لعبنا الطفولي وطعمه، إذ أصبحنا نلعب في دروب ضيقة تحت وابل من الشتائم والأدعية، التي يسوقها إلينا سكان الحي بسبب إزعاجنا لهم. لقد أصبح لعبنا نقمة جعلتنا ننطوي على أنفسنا ويتغير العالم في أعيننا، لتبدأ علاقاتنا بالتلاشي، ويفترق عنا عالم الكبار أيضا، فلم تعد العائلات تلتقي، وتحول عالمنا الكبير في الحي، إلى عوالم صغيرة معزولة عن بعضها، قبل أن تتيه إلى الأبد. لعله من المؤسف أن الدولة المغربية أثناء معالجتها لقضية السكن ببلادنا، لم تأخذ بعين الاعتبار أهمية المجالات المفتوحة في بناء الشخصية الفردية، والمنظومة القيمية المؤطرة له، لقد انصب اهتمامها الأساس على الاستجابة لضغط الطلب –طلب المواطنين وطلب مافيات العقار- دونما اهتمام بآثاره السوسيولوجية والسيكولوجية على السكان، إذ غاب عن وعيها خطورة روح الانغلاق والفردانية التي تزرعها أشكال السكن الجديد داخل الفرد المغربي، كما غاب عنها أيضا أن من يولد وينمو في مجالات مفتوحة، تفتح العالم أمام عينيه، يستحيل عليه أن يتحول يوما إلى متطرف، أو حاقد على المجتمع أو الآخر، لأنه ومنذ صغره كان يرى العالم كبيرا، مختلفا أمامه. وإذا كنا نتفهم عدم مراعاة الدولة لهذه الجوانب فيما مضى بسبب نهجها لمنهج آخر في تسوية القضايا الكبرى، أو لاستفادتها بشكل من الأشكال من مظاهر التطرف والفردانية والانغلاق-التي يكون السكن المعاصر واجتثات المجالات الخضراء اللبنة الأولى في تكونها- في مواجهة قوى المعارضة الحاملة آنذاك لمشروع «تنويري»، فإن ما لا نفهمه هو تجاهل الدولة لهذا الأمر في الوقت الذي أصبح فيه التطرف واحدا من أهم الأخطار التي تهدد الدولة وتوازناتها الأمنية. إن إعادة الاعتبار للمجالات المفتوحة يعني من بين ما يعنيه إعادة الاعتبار إلى مجموعة من القيم التي أصبحت –منذ زمن- حبيسة جدران السكن الاجتماعي. إنه إعادة صياغة لبعض من قيم الإنسان المغربي بعدما أصبح يعيش مرحلة نكوص تدمر كل ما حولها، وأول ما تدمره هو قيم الانتماء والوطنية والتضامن والإحساس بالآخر، في مقابل زرع أنانية وفردانية مقيتة، لا يمكن أن تساهم أبدا في التأسيس لأي مشروع نهضوي. وأخيرا نقول للدولة وللمنعشين العقاريين: أيها السادة افتحوا العالم أمام أعيننا، واجعلوا الأحلام تكبر داخلنا، دعونا نحس بإنسانيتنا، الله يرحم بها الوالدين.