من هم يا ترى المبشرون بإرجاء التقاعد إلى ما بعد الستين؟ هم فئة من الانتفاعيين، ينطبق عليها اصطلاح فئة «إفساد الإصلاح»، أكرمها السيد: ابن كيران بهذا التأجيل من حيث يدري أو لا يدري، وهم في الأصل جماعات الشر والعدوان، بلحى ومن غيرها، في مختلف القطاعات، في المقاطعات الحضرية والجماعات الترابية كما في المدارس التعليمية… يعدون بالآلاف، ولا يقيمون وزنا للمسؤوليات الملقاة على عاتقهم، ما إن زفت لهم البشرى حتى عمت الزغاريد بيوتهم، انفتحت شهيتهم واتسعت بطونهم، وهم صنفان يعوزهم الوازع الأخلاقي ويفتقرون إلى الضمير المهني، يجمعهم أكل السحت وتغليب المصالح الذاتية على المصلحة العامة للوطن، صنف منهم لا هاجس له عدا الثراء الفاحش عن طريق الرشوة والمحسوبية، وما إلى ذلك من الطرق غير الشرعية، باستغلال مناصبهم العليا في تسيير مصالح خارجية أو إدارات عمومية… والصنف الثاني ممن يحصلون على رواتبهم الشهرية مقابل خدمة رؤسائهم ونيل رضاهم بتقديم الهدايا، وعبر مجموعة من الممارسات الدنيئة أبسطها التجسس على زملائهم، لا يجشمون أنفسهم عناء تحريك القلم بين أصابعهم إلا للتوقيع عن حضورهم الشكلي، وهم في واقع الأمر «أشباح» من نوع خاص، بنظارات شمسية وقبعات مزركشة ووردية، تعج بأسمائهم اللوائح في الإدارات وفي الأرصدة البنكية، ولا تجد لهم بصمات على المكاتب في مهامهم الوهمية، يمارسون السمسرة ونشاطات تجارية خارج مقرات العمل وأحيانا داخلها… ومثل هؤلاء المنحرفين إذا ما سمح لهم بمواصلة «العمل» لفترة إضافية، سيستمرون لا محالة في نشر المزيد من الفساد، التأثير على زملائهم وإثارة مشاعرهم، استنزاف المال العام وتلويث سمعة الإدارة المغربية، دونما الاضطلاع بواجباتهم المهنية بشكل طبيعي، بينما البلاد تزخر بالطاقات الشبابية في مختلف التخصصات، تلتحف عباءة البطالة وتمضي أجمل أيام عمرها تحت مياه الأمطار وحرارة الشمس، في الاعتصام والاحتجاج بدون طائل، عدا ما تتعرض له من تنكيل وعنف مفرط على أيدي رجال الأمن، على مرأى ومسمع من المارة مغاربة وأجانب، في الشوارع وأمام مجلس النواب بعاصمة البلاد… صحيح أنه كلما تأخرنا في مباشرة عملية إصلاح أنظمة التقاعد، ستكون الكلفة الاجتماعية والسياسية مرتفعة وباهظة، وأن الضرورة تقتضي تعبئة وانخراط كافة الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والاقتصاديين والمدنيين، لكن ما ليس صحيحا هو أن يستمر السيد رئيس الحكومة في عناده، يستهتر بآراء الآخرين وينفرد باتخاذ القرارات، فموضوع إنقاذ صناديق التقاعد أعمق وأخطر من أن يظل أسير مزايدات سياسوية وحسابات ضيقة، لأنه قضية حساسة تهم مختلف الأطياف وتستلزم إجماعا وطنيا، ولا فرق بين أغلبية وأقلية إلا بالتقوى… وإذا كانت بعض الدول، اعتبارا لما للتقاعد من انعكاسات نفسية، لجأت في معالجتها للمشكل، باقتراح طرق علمية تروم إعداد المقبلين على التقاعد نفسيا، لاستقبال مرحلة ما بعد نهاية العمل في ظروف طبيعية، والتأقلم مع أجوائها بسلاسة عبر تقاعد مرحلي، بالتقليل من أيام العمل الأسبوعية والتقليص من عدد الساعات اليومية خلال العامين الأخيرين، فإن دراسة أمريكية أشارت في إحدى النشرات، إلى أن الأشخاص الذين يواصلون الاشتغال بعد الإحالة على المعاش، سواء بتوقيت جزئي أو في مهن موسمية، يتمتعون بحيوية أكثر، ويعانون من مشاكل صحية بدرجة أقل من المتقاعدين الآخرين، غير المنخرطين في جمعيات وأندية تتيح لهم مجال الاستفادة من تجديد نشاطاتهم اليومية: ممارسة الرياضة، حضور عروض وأشرطة سينمائية، ندوات تربوية، لقاءات تواصلية ورحلات جماعية… ومادام هذا الإرجاء إجراء بقدر ما ينفع البعض يضر آخرين، فما المانع من السير على هدي المغادرة الطوعية؟ ذلك أن طبيعة الوظائف والمهام تختلف باختلاف القطاعات والجنس، فالتدريس مثلا ليس هو تعبئة الوثائق في المكاتب المكيفة، وعليه أقترح أن يخضع رفع سن التقاعد لبعض الخصائص المعتمدة في المغادرة السالفة الذكر: كالطابع الإرادي، ويتم بتعبير الموظف عن رغبته كتابة، والطابع التحفيزي عبر الاستفادة من امتياز مالي، ثم الطابع الانتقائي الذي يتعين بموجبه تشكيل لجن تتميز بالنزاهة والصرامة في الاختيار، لسد الطريق أمام منعدمي الضمير… فإصلاح أنظمة التقاعد مسألة معقدة، تستدعي فضلا عن منهج التشاركية، التفكير العميق قبل اتخاذ أي قرار غير منصف…