الاحتقان جاء بعد أسابيع من الاحتجاجات التي أصبحت في حكم «العادي والمألوف»، وبعد أن ظلت الجهات المسؤولة إياها مصرة على صم آذانها، تجاه الاتهامات المتبادلة بين المحتجين ومصالح الوكالة المستقلة لتوزيع الماء والكهرباء(الراديما). الطرف الأول يدفع بكون «الراديما» قد أخلفت الوعد، وتنكرت لكل التزاماتها السابقة المتضمنة بالبلاغ الصادر عن مصالح الولاية على عهد الوالي السابق، مع اصدار فواتير ملتهبة، فيما المؤسسة تصر من جهتها بأنه «قد أوفى حر ما وعد» مرجعة ارتفاع منسوب فواتير الكهرباء برسم الشهور الصيفية، إلى التزامن مع شهر رمضان وموجة الحر التي شهدتها المدينة، وجعلت الزبناء يقبلون على استهلاك «التريسينتي» بوفرة شديدة . في خضم هذا التجاذب بين طرفي المعادلة، طالبت العديد من الجهات بضرورة تدخل الجهات المسؤولة محليا وعلى رأسها مصالح الولاية على خط الاتهامات،ولعب دور الحكم للكشف عن الجهة التي «ليست على شيء في دفوعاتها»،وإلزامها بالرجوع لمنطق الحق والصواب تفاديا لكل ما من شأنه، لتظل الدعوة مجرد صيحة في واد ، ويظل المسؤولون إياهم في خانة«قد أسمعت لو ناديت حيا… لكن لاحياة لمن تنادي«. بعد تجاهل الأمر برمته، وترك دائرة الاحتجاجات تتسع على راتق فضاءات المدينة، قررت الجهات ذاتها زوال الجمعة المنصرم، الخروج من دائرة الحياد، والإدلاء بدلوها في الموضوع، عبر اعتماد سياسة «العين الحمراء» ومواجهة جحافل المحتجين بمنطق «العصا لمن عصا»، وبالتالي إدخال منطقة سيدي يوسف بن علي الشاسعة، ومن خلفها كل فضاءات المدينة الحمراء، خانة الاشتعال والانفلات. احتجاجات المراكشيين ضد ارتفاع أثمنة فواتير الماء والكهرباء، والسياسة التي ظلت تنهجها إدارة «الراديما» في حق زبنائها ليست وليدة اليوم، حيث عاشت فضاءات مراكش خلال أشهر عديدة، موجة احتقان امتدت إلى إغلاق جل الوكالات التجارية التابعة للمؤسسة، مع الامتناع عن أداء الأثمنة المتضمنة بفواتير الاستهلاك. غير أن سياسة محمد مهيدية الوالي السابق، عرفت كيف تسل شوكة القضية بلا دم، وعمل طيلة أشهر الاحتجاج على فتح قنوات الاتصال والتواصل مع المحتجين انتهت بإلزام «الراديما» بتوقيع بلاغ تضمن جملة مكتسبات من قبيل: إنجاز دراسة معمقة للفواتير ذات المبالغ الكبرى، لتحديد أسبابها الحقيقية ،واتخاذ الإجراءات المناسبة على ضوء النتائج التقنية التي سيتم التوصل إليها . الفواتير المرتبطة باستهلاك مرتفع مثبت وغير متنازع فيه، تمنح لأصحابها تسهيلات في أداء مستحقاتها على مدى سنة، مع تخفيض غرامة القطع من 120 إلى 60 درهم فقط، وكذا اعتماد نظام الفوترة الشهرية، حيث لا تتعدى المدة المحتسبة الثلاثين يوما. تمكين الساكنة من الربط الاجتماعي في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ودعم اقتناء المصابيح ذات الاستهلاك المنخفض عبر تخفيض ثمنها من17 إلى8 دراهم فقط، من خلال ذات المبادرة، مع منح عدادات إضافية للمنازل التي تقطنها عدة أسر، في إطار عمليات الإيصالات الاجتماعية التي تمكن من الاستفادة من الربط بشبكة الكهرباء بمبلغ2.500درهم وبشبكة الماء بمبلغ2000 درهم تسدد على إقساط شهرية لمدة 5 سنوات، مع اعتماد أكبر قدر من التسهيلات الإدارية لتوسيع عدد المستفيدين. الالتزام بتكثيف أشغال الصيانة وتجديد شبكة الماء والكهرباء والتطهير السائل، وتوفير العدادات المسبقة الدفع لتسهيل التحكم في الاستهلاك في أقرب الآجال، مع إحداث لجنة مختلطة لتتبع تفعيل كل هذه القرارات ودراسة كل المشاكل العالقة والاقتراحات المطروحة. حلول كانت قد لقيت ترحيبا كبيرا من طرف ساكنة المدينة، وانتهت بإخلاء فضاءات كل الملحقات التابعة ل«الراديما»، التي ظلت مسيجة بطوابير المحتجين،مع إعادة الهدوء للشارع والقلوب معا. »باستثناء الإلتزام بعملية الربط الاجتماعي، وتخفيض الغرامة المالية الناتجة عن قطع التيار نتيجة التأخر في الأداء، فإن مصالح «الراديما» قد أهملت باقي الاتفاقات، وظلت ترميها بنيران غلاء ما أنزل بها واقع الاستهلاك من سلطان» يؤكد أحد المحتجين، وبالتالي اضطرار الساكنة إلى تأسيس تنسيقية تجمع بين منطقتي سيدي يوسف بن علي والداوديات للدود عن المكتسبات، و تنفيذ الالتزامات. بعض مسؤولي «الراديما» الذين تم ربط الاتصال بهم لأخذ رأيهم في الموضوع، ووضعهم في صورة الانتقادات الموجهة لإدارة المؤسسة، نفوا جملة وتفصيلا كل هذه المؤاخذات والملاحظات، معتبرين أن إدارة الوكالة المستقلة لتوزيع الماء والكهرباء، قد وضعت كل إمكاناتها اللوجيستيكية والمادية للنهوض بالالتزامات المتضمنة بالبلاغ، بل ولإبداء حسن النية والتخفيف عن المواطنين من ذوي الدخل المحدود والمتوسط وتمكين أصحاب المحلات التجارية من الربط بخدمة الماء والكهرباء بمبالغ زهيدة لا تتجاوز 3800 درهم، يتم أداؤها بالتقسيط المريح على امتداد سبع سنوات. دون احتساب، طبعا ، إعفاء المواطنين الذين لا تتجاوز قيمة استهلاكاتهم 200 درهم، من أداء ضريبة السمعي البصري. مطلب مراجعة أثمنة الأشطر، وتسعيرة الاستهلاك،اعتبرها المسؤولون المعنيون مطالب تدخل في خانة «فوق طاقتك لاتلام»، على اعتبار أنها إجراءات تدخل في صلب اختصاصات المصالح المركزية والوزارة الوصية، وبالتالي فإن إدارة «الراديما» لاتملك حال موافقة هذه الجهات سوى الدعوة للمحتجين ب« الله يربح،الله يسخر.« اتفاق نجح مؤقتا في نزع فتيل التوتر وتمتيع المدينة وساكنتها بهدنة لم يكتب لها أن تعمر طويلا حين عادت ساكنة منطقة سيدي يوسف بن علي ومعها ساكنة منطقة الحي المحمدي الشمالي والجنوبي للجهر بكلمة: «اللهم إن هذا لمنكر» احتجاجا على ارتفاع أسعار فواتير الكهرباء برسم الفترة الصيفية الأخيرة. أحداث يوم الجمعة الأخير والتي اندلعت شرارتها مباشرة بعد أداء صلاة الجمعة ، أسفرت إثرها المواجهات العنيفة بين المحتجين والقوات العمومية عن إصابة أزيد من 60 عنصرا في صفوف قوات الأمن وصفت حالة أربعة منهم بالخطيرة مما استدعى نقلهم على وجهة السرعة إلى المستشفى العسكري ابن سينا بمراكش، كما تم تسجيل إصابات متفاوتة الخطورة في صفوف السكان المحتجين ناهزت 18 مصابا أحيلوا جميعا على مصالح المستعجلات الطبية بمستشفى ابن طفيل بالمدينة، وهي الأحداث التي لم يسلم منها مصور «الأحداث المغربية» عبد النبي الوراق الذي أصيب بجروح إثر تعرضه للرشق بالحجارة وهو يؤدي عمله الصحفي. تصاعد حالة الاحتقان والغليان الشعبي في صفوف المحتجين الذين أبدوا مقاومة شديدة إزاء نداءات وتعليمات السلطات الأمنية بالمدينة ، اضطر القوات العمومية وعناصر مكافحة الشغب إلى الاستعانة بالغازات المسيلة للدموع وخراطيم المياه من أجل تفريق حشود المحتجين مما أسفر عن اعتقال أزيد من 47 متظاهرا خلال يومي الجمعة والسبت، قبل أن يتم إطلاق سراح أغلبهم مساء السبت، فيما أمرت النيابة العامة بالاحتفاظ بسبعة عناصر تحت المراقبة القضائية للاشتباه في تزعمهم لأحداث الشغب. وبالمقابل دشنت عناصر الشرطة القضائية حملة تمشيطية مساء يوم الجمعة وطيلة يوم السبت، داخل بعض أحياء المنطقة في حق بعض المبحوث عنهم للاشتباه في ضلوعهم في الأحداث، لاسيما بدرب الكبص وحي العساس ودرب بوعلام وشارع حمان الفطواكي وساحة مسجد بن قدور بذات المنطقة. وفي مبادرة غير محسوبة العواقب، اقتحم عشرات المحتجين بعض المؤسسات التعليمية بشارع المدارس كالإعدادية الثانوية يعقوب المنصور والثانوية التأهيلية يوسف بن تاشفين وبعض المؤسسات التعليمية الابتدائية وقاموا بإخراج التلاميذ بالقوة لتحريضهم على المشاركة في الاحتجاجات مما تسبب في خلق موجة من الهلع والخوف داخل أوساط الطلبة والتلاميذ، لا سيما القاصرين منهم الذين وجدوا أنفسهم في قلب المواجهة مع القوات العمومية. وبالنظر إلى توسع حالة الاحتقان التي شملت أطفال المدارس، وتفاديا لتكرار أحداث يوم الجمعة، اضطر محمد فوزي والي جهة مراكش بتنسيق مع محمد المعزوز مدير الأكاديمية الجهوية ونائب الوزارة بالمدينة إلى إصدار قرار يقضي بتوقيف الدراسة بالمنطقة انطلاقا من السبت الماضي إلى إشعار آخر. وبقدرة قادر، تعرضت الفضاءات الداخلية والخارجية للمؤسسات التعليمية للرشق بالحجارة ولأعمال تخريبية لمنشآتها وتجهيزاتها الأساسية، كما تسبب هذا الشغب الطفولي في تكسير الواجهات الزجاجية للأقسام الدراسية وبعض المحلات التجارية المجاورة، فيما لم تسلم بعض السيارات التي كانت مركونة على طول شارع المدارس من التخريب وسرقة بعض محتوياتها، إلى جانب الاعتداء على سيارتين تابعتين للمصالح الأمنية اللتين انقلبتا رأسا على عقب، قبل أن يعمد المحتجون إلى إحراق مخفر للشرطة بشارع المصلى وإتلاف مختلف محتوياته وتجهيزاته. الحملة التمشيطية التي دشنتها السلطات الأمنية طيلة يوم السبت الماضي لملاحقة وتعقب بعض المطلوبين عن طريق تجنيد فرق أمنية من الصقور والدراجين كادت أن تودي بحياة عنصر من الدراجين بعدما وجد نفسه محاصرا وسط الجماهير الهائجة بقلب الحدث، حيث عمد بعض المحتجين إلى الاعتداء عليه بالضرب كما تعرضت دراجته النارية إلى الاحتراق عن آخرها، قبل أن يطلق سراحه بمبادرة من بعض ذوي النيات الحسنة بالمنطقة. وفي نفس السياق أقدم عشرات الشباب المحتجين يوم السبت الماضي، إلى إزالة واقتلاع أزيد من 160 عدادا للكهرباء والماء، التي كانت مثبتة بواجهات المنازل والمحلات التجارية لاسيما بدرب بوعلام والعساس تعبيرا منهم على رفضهم للخدمات المقدمة من طرف «الراديما» التي اتهموها بعدم بالوفاء بالتزاماتها مع هيئة المجتمع المدني بالمنطقة الأمر الذي فسح المجال لأجواء من الفوضى والتسيب إثر حرمان العديد من الأسر من خدمات الماء والكهرباء، وهو ما اضطرهم حسب مصادرنا إلى نهج سياسة (بريكولاج) عن طريق ربط الأسلاك الكهربائية بطرق غير قانونية وغير شرعية مع ما قد يترتب عن هذه العملية من أخطار وتبعات غير محسوبة العواقب. وأمام هذا الوضع المحتقن والمرشح للمزيد من التصعيد، كانت التنسيقية المحلية للهيئات السياسية والمجتمع المدني قد أصدرت بلاغا ليلة الخميس الماضي، حددت من خلاله مما وصفته بعض الأشكال الاحتجاجية الراديكالية التي قد تجر المنطقة إلى مواجهات وأحداث يعلم الله نتائجها، وطالبت من خلال بيان لها بفتح حوار مسؤول وجدي مع الممثلين الحقيقيين للساكنة، لقطع الطريق عن من وصفهم البلاغ ببعض «الوجوه التي تسعى جاهدة إلى جر المنطقة إلى مواجهات عنيفة تعيد إلى الأذهان أحداث سنة 1984»، وهو ما دفع والي جهة مراكش إلى عقد اجتماع طارئ يوم السبت الماضي، بحضور بعض المنتخبين والبرلمانيين دعا من خلاله المسؤول الأول بالجهة إلى فتح حوارات مع المحتجين والإنصات إلى مطالبهم في أفق احتواء حالة الاحتقان التي تشهدها المدينة التي تستعد لاستقبال شخصيات عالمية ونجوم ومشاهير من العيار الثقيل بمناسبة احتفالات رأس ا لسنة. ويرى بعض الملاحظين والمتتبعين للشأن المحلي بالمدينة الحمراء أن ما حصل من أحداث دامية ومواجهات عنيفة بمنطقة سيدي يوسف بن علي كان من الممكن احتواؤه وتفاديه لو لم ترتكب أخطاء وصفت ب«القاتلة» على مستوى التعاطي مع هذا الملف الاجتماعي الشائك بمنطق التسكين وبكم حاجة قضيناها بتركها، إلا أن وقعت الفأس في الرأس وهو ما اعتبره بعض الملاحظين والمهتمين بالشأن المحلي بأن أحداث سيدي يوسف بن علي بمثابة (رسالة مشفرة إلى عبد الإله بن كيران زعيم الحكومة الشبه الملتحية). ويذكر أنه ومباشرة بعد إصدار وزارة الداخلية لبلاغ لها حول الأحداث الأليمة بالمنطقة والتي وصفتها بالمظاهرة غير المرخصة سارعت الإدارة العامة للأمن الوطني إلى إيفاد لجنة مكونة من خمسة مسؤولين أمنيين كبار التي حلت مساء السبت الماضي بالمنطقة، واجتمعت إثر ذلك مع كبار المسؤولين بالمدينة من أجل وضع استراتيجية أمنية بديلة قصد امتصاص غضب الساكنة واحتواء حالة الاحتقان التي تخيم على المنطقة خوفا من اتساع دائرتها لتشمل لا قدر الله مناطق أخرى بالمدينة الحمراء التي تحولت خلال هذا الأسبوع إلى قبلة سياحية مفضلة بمناسبة (البوناني). مع العلم أن المدينة عاشت طيلة هذا الأسبوع على إيقاع احتجاجات غير مسبوقة همت الحي الجامعي وساكني الأراضي السلالية بمنطقة آيت ايمور الذين انتفضوا بدورهم ضد إدارة الأملاك المخزنية. مراكش: محمد موقس