منذ أكتوبر 1999 حين ألقى جلالة الملك محمد السادس خطابه بالدارالبيضاء على مسامع المنتخبين والنخبة الاقتصادية والإدارية مشيرا جلالته في ذات الخطاب إلى مصطلح:»المفهوم الجديد للسلطة» الذي أحدث ساعتها ضجة إعلامية، نضج الحديث عن الدور المحوري للإدارة الترابية في تدبير الحياة اليومية للمواطنين، وأصبحت المطالب الشعبية أكثر وضوحا بشأن التخلي عن الصورة السلبية التي تكرست عبر عقود من الممارسة المخزنية القائمة على التسلط ومصادرة كل الحقوق المدنية والاجتماعية والاقتصادية للمواطنين، وتغليب الهاجس الأمني في كل مقاربة لشؤون المجتمع، والقمع، وإفساد التجارب الانتخابية، والإثراء غير المشروع. وقد واكبت الصحافة بعد الخطاب الملكي على امتداد التراب الوطني مدى تطبيق المفهوم الجديد للسلطة، من خلال رصد سلوكيات وتصرفات بعض المسؤولين الذين ظلوا متمسكين بالمفهوم القديم خلافا للتوجيهات الملكية الواردة صراحة في خطاب الدارالبيضاء . ويجدر بنا في الظرف الراهن بمناسبة الحركة الانتقالية الجزئية لرجال السلطة بالعديد من أقاليم ومناطق المملكة أن نطرح بعض القضايا بخصوص العلاقة بين المواطنين ورجال السلطة، وانعكاسات هذه العلاقة إيجابا أو سلبا على التنمية المحلية بجميع أبعادها. ولعله من المفيد الإشارة إلى أن العديد من رجال السلطة لا يتقيدون بتعليمات الإدارة ونصوص القانون وروحه، بقدر ما يتدخل مزاجهم الشخصي في ممارسة السلطة، وبالتالي ينزلقون نحو الشطط والتعسف، وإذا كانت وزارة الداخلية تصدر قرارات تأديبية في حق بعض رجال السلطة الذين يثبت إخلالهم بواجباتهم المهنية، فإنها (أي الوزارة) كثيرا ما تتغاضى عن طيش بعض رجال السلطة وسوء تدبيرهم للمجال الترابي، مما يعيد الصورة السلبية للمخزن إلى الواجهة بين الحين والآخر، في بعض المناطق من وطننا الحبيب. ومن المؤكد أن تعديل وتجديد برامج التكوين بالمعهد الملكي للإدارة الترابية بالقنيطرة بما في ذلك إدماج مادة حقوق الإنسان ليس كافيا لقطع الصلة مع الممارسات القديمة التي عمقت الهوة بين المواطنين والمخزن، لأن ممارسة السلطة بمفهومها السلطوي التعسفي والفوقي مسألة عقليات بالية ومتجاوزة، وللأسف نجد مثل هذه العقليات حتى لدى الخريجين الجدد، ناهيك عن أفراد من الجيل السابق لرجال السلطة والذين شق عليهم الانتقال من صورة الرجل المخيف إلى رجل الحوار والإقناع والإنصات للمواطن، واحترام كرامته قبل كل شيء . إن المفهوم الجديد للسلطة يقتضي من المسؤول في الإدارة الترابية أن يكون مقتنعا بصفته مواطنا أن الدولة لن تحافظ على وجودها إلا إذا كانت دولة حق وقانون، لأن هضم الحقوق والشطط في استعمال السلطة يهدد السلم الاجتماعي وجهاز الدولة والاستقرار بشكل عام. ويقتضي هذا المفهوم أيضا التحلي بالقيم الأخلاقية والعمل بنوع من الجدية والمصداقية، ونبذ الوعود الكاذبة أو التستر خلف السلطة للاستبداد بالرأي الخاطئ وتمرير المغالطات وفرض الأمر الواقع. هذه المصداقية لا تتأتى إلا بسياسة القرب المجالي، ومعالجة المشاكل بمراعاة الخصوصيات المحلية، وتغليب المصلحة العامة، وفهم انشغالات المواطنين، والتعامل معهم وفق ما يخوله لهم القانون من مساواة في الحقوق… إن رجال السلطة هم المرآة الحقيقية للدولة وهذا الأمر يلقي على عاتقهم مهام صعبة، فهم مطالبون بحكم وظيفتهم بالمحافظة على هيبة الدولة، وفي الوقت نفسه تقديم صورة إيجابية للإدارة الترابية في مجال التنمية البشرية محليا و جهويا ووطنيا. ولم يعد القائد أو الباشا ذلك الرجل ذو الأمر المطاع غير القابل للجدل والمنفلت من العقاب والذي يضرب له ألف حساب وحساب أينما حل وارتحل، بل هو مجرد مواطن مكلف بوظيفة يجب أن تكون مصلحة وطنه فوق كل اعتبار، ومصلحة الوطن تقتضي الحوار الجاد والمسؤول مع كل الشركاء من منتخبين وأحزاب وجمعيات، والتنسيق بين جهودها لأجل تحقيق التنمية المنشودة. هذه المهمة الوطنية النبيلة لا تتحقق إلا بواسطة رجال يفترض أن تكون لديهم روح وطنية عالية لا تغريهم حيوية المنصب في تسلق أدراج السلم الاجتماعي عبر فرض الإتاوات على الأعيان أو التقرب إليهم لتقاسم الامتيازات معهم إلى غير ذلك من الممارسات التي لطخت وجه السلطة بالوحل… يضاف إلى ذلك أن الحكامة الجيدة لرجل السلطة تتطلب منه بالضرورة التسلح باليقظة والحماس ومقاربة الواقع الاقتصادي والاجتماعي للمجال الترابي بموضوعية ومرونة وانفتاح على إمكانيات الاستثمار، وعدم تغليب الهاجس الأمني … وإذا كانت وزارة الداخلية تنظم الحركة الانتقالية في صفوف رجال السلطة بهدف إعادة الانتشار، وخلق دينامية جديدة في الإدارة الترابية، والحيلولة دون تأسيس علاقات صداقة أو قرب لرجل السلطة مع أفراد أو جهات بنفوذه الترابي، فالواقع أن بعض المفسدين من أعيان المناطق وبعض المنتخبين يهيئون الهدايا لرجل السلطة قبل حلوله بمقر عمله قصد ضمان تواطئه معهم في المحافظة على امتيازاتهم وفسادهم الانتخابي … مما يجعل تلك الحركة الانتقالية أحيانا بدون جدوى مادام القائد هو القائد أينما تم تعيينه … ومن المؤكد أن سلك رجال السلطة حافل بالكفاءات العالية وذوي الروح الوطنية الخالصة، وهناك العديد من رجال السلطة على امتداد التراب الوطني الذين جسدوا المفهوم الجديد للسلطة بشهادة المواطنين، هؤلاء الرجال بحاجة إلى دعم من مختلف الفعاليات المحلية قصد المشاركة في محاصرة العقليات القديمة التي مازالت تقاوم التغيير، وتضييق دائرتها للتعجيل برحيلها من مشهد الإدارة الترابية.