وقبل المرور من هذه النقطة، لابد أن نشير إلى قضية مهمة تتعلق بإدارة العلامة الخمليشي لدار الحديث الحسنية والتي كان لها تأثير كبير في اتجاه إيجابي على مستوى الهيكلة القانونية والتنظيم الإداري للمؤسسة، ولكن الغريب هو أن هذا التنظيم والتجديد للدار ظل حبيس الإدارة، ولم يكن له أي تأثير على المنحى التكويني والتعليمي للطلبة من الخريجين، ولم نلمس أي أثر للمنحى الاجتهادي للعلامة الخمليشي على المسار الدراسي الأكاديمي والمنهجي الذي كان منتظرا أن يبرز على تكوين الطلبة والخريجين، وهو ما يمكن إرجاعه إلى عاملين: أولهما هو أن استقدام العلامة الخمليشي للدار كان لغرض إداري مرسوم ومحدد، وهو تنظيم وهيكلة قانونية لإدارة الدار فقط، التي ظلت تشتغل لعقود بدون قانون تنظيمي، وثانيهما هو أنه لم يسمح للخمليشي الوصول إلى الأسلاك الدراسية داخل الدار، والتي ظلت محاطة ومحتكرة من لدن التهريب الديني، ولعل تتبعنا لمسار الخريجين ولأطاريحهم ولحركيتهم العلمية والثقافية والمدنية قد بينت مدى تعزيز هؤلاء لجبهة التهريب الديني السياسوية والمتفيقهة باستغلال الدار أكثر فأكثر. من جهة أخرى، قد يختصر البعض النقاش بإلقاء المسؤولية في قضية « أمينة الفيلالي» على أمير المؤمنين في اتجاهين: فالعلمانيون يلقون المسؤولية من باب أن ملك البلاد وأمير المؤمنين هو الراعي لعملية التحول والتحديث الديمقراطي، داخل مؤسسات البلاد والراعي لحقوق المواطنين في اتجاه حداثي فضلا عن تأمين الهوية الثقافية للبلاد. أما الاتجاه الثاني في إلقاء المسؤولية على أمير المؤمنين فيدفع فيه المهربون الدينيون بمختلف أشكالهم وألوانهم، من المتفيقهين الذين يركنون في مؤسسات الأوقاف والمجالس العلمية والمؤسسات العلمية، رغم تظاهرهم بالابتعاد عن الأحزاب السياسية والمعارك الانتخابية، إضافة للمهربين الدينيين ممن يحملون شعارات الجماعات الدينية والأحزاب السياسية، ولا يتركون مجالا إلا دخلوه في خطاباتهم، حتى غرف النوم وأجساد الناس، وهؤلاء ممن كانوا يحاربون إمارة المؤمنين، والآن يحملونها كآلية وشعار للاستثمار السياسوي والضغط الاجتماعي، لاستعمالها بالضغط على إمارة المؤمنين نفسها والعمل على إحراجها عبر الادعاء بالقول : «إن الإسلام في خطر داخل المؤسسات أمام هجمات العلمانيين، وأمام الداعين للاجتهاد القانوني والفقهي والقضائي….»، وبناء عليه فإنهم يدعون إمارة المؤمنين – من منطلق إحراجها- إلى ضرورة محاربة الداعين إلى العلمانية، بادعاء أن هؤلاء يحاربون الإسلام، ويعملون على استئصاله ضمن مؤامرة خارجية وعالمية. وجوابنا عمن يلقي المسؤولية على إمارة المؤمنين في القضية من المهربين الدينيين ومن العلمانيين على السواء بالقول:«إن إمارة المؤمنين تاريخيا قد عملت منذ تاريخها العميق في الحقل السياسي المغربي على تقديم رؤية متوازنة تراعي كافة الأبعاد، فمن الناحية القانونية كان الظهير يمثل ويعتبر ضمن الوظيفة التشريعية للسلطان، مع غض النظر عن جدل منكري المادة التشريعية في الظهائر من أمثال الباحثين الثلاثة: bomeli) ( guibal) ،( rousset) . وحسب ما ذهب إليه الأستاذ الباحث محمد أشركي في أطروحته بالدارالبيضاء ( سنة 1983 ) إلى القول: « ….إن الخليفة الذي يشترط فيه العلم، والمكلف بالسهر على تطبيق الشرع له الحق في الاجتهاد، بل التشريع – دون المساس بقواعد الأصول – في المواضيع التي لم يتطرق إليها الشرع، مما يجعل إرادته تكتسب قوة القانون، بل إن القانون هنا يصبح كما عبر عنه الفقيه بن فرحون «أصل أصيل»، وزيادة منه في التوضيح يشير الأستاذ أشركي إلى أن العلماء يشرعون في أبواب الشرع التقليدية، أما دون ذلك من شؤون الدولة فقد كان من اختصاص السلطان الذي يشرع فيها بواسطة ظهائر، ولكن مع ضرورة استشارة العلماء، وهذه الفتوى في نظر الباحث أشبه ما تكون بما يسمى اليوم بالرقابة على دستورية القوانين….»، وهذا ما عبر عنه الخطاب الملكي الشهير الذي أطلقه أمير المؤمنين إثر تعيينه اللجنة الاستشارية لتعديل المدونة في العبارة القائلة: « ما كان لي أن أحرم حلالا ولا أن أحلل حراما»، وقد سن السلطان عمليا مبدأ استشارة العلماء عبر تعيينهم بشكل ديمقراطي في اللجنة الاستشارية لتعديل المدونة، ولم يتدخل في عملها – رغم أنها عرفت ضغطا هائلا من لدن المتفيقهين من المهربين الدينيين الذين كان قد دفع بهم المدغري تحت عنوان العلماء ، ونحن نؤكد على عدم حمل هؤلاء لصفة العلماء – لا علما معاصرا، ولا فقها أصيلا ، ولاهوية مغربية ، ولا حيادا سياسيا إيجابيا- ولقد كان دور هؤلاء في اللجنة هو مواجهة العلماء المجتهدين ومنهم السيد الخمليشي وغيره، وهؤلاء المهربين هم أنفسهم من كرسوا النصوص المؤبدة للمرأة والرادعة لحريتها والمانعة لحفظ كرامتها ومطالبها الحقوقية والمساواتية، بل إن هؤلاء أنفسهم من تبنوا بقوة عدم تحديد سن الزواج للفتاة- ظنا منهم أنهم يدافعون عن الشريعة ويجابهون الجمعيات المدنية والاجتهادات الحداثية- مما شرع الباب لتزويج القاصر، ليجعل ذلك من صلاحيات القاضي وتحديده، والاكتفاء برأي وليها. وقد حافظ أمير المؤمنين على التوازن داخل المجلس الوطني لحقوق الإنسان الذي يرأسه، وذلك بإثبات تمثيلية المؤسسات الدينية في المجلس الحقوقي وفروعه الجهوية، لكن الظاهر أن هؤلاء المتفيقهين المهربين من داخل المجلس العلمي الأعلى لم يتأدبوا مع أمير المؤمنين حينما مارسوا المزايدة بمقاطعة التمثيلية داخل المجلس الوطني لحقوق الإنسان، لكنهم سرعان ما تراجعوا عن تلك المقاطعة حينما أثرنا الأمر في الصحافة، وإذا كانوا قد أعلنوا سبب مقاطعتهم للتمثيلية داخل المجلس، فهلا كانت لهم الشجاعة و أخبرونا عن سبب تراجعهم عن قرار مقاطعتهم للمجلس؟؟ والذي اعتبر قلة أدب مع إمارة المؤمنين. ولا تفوتنا الإشارة إلى أن الدستور الجديد يضع جزءا كبيرا من الصلاحيات في يد رئيس الحكومة في تدبير الشأن اليومي، وهو من كان ينتقد ويصرخ بأعلى أصواته باسم المعارضة، وله الإشراف المباشر على وزير حكومته في العدل، هذا الوزير الذي لايفتأ يفجر العبارات تلو العبارات، إذ لم يتمالك نفسه في حرارة عناقه لرائد الوهابية المأجورة في المغرب وصاحب فتوى زواج ذات التسع سنوات- المغراوي- أن فجر عبارة أحرقت أهل مراكش وزوارها وضيوفها وتاريخها وحاضرها…..، حول طعنه في السياحة المراكشية، كما فجر بعباراته المحمومة جسد أمينة في قبرها بقوله: «إن أمينة تزوجت برضاها»، وهو ما اعتبر ضربا لمبدأ استقلالية القضاء في ملف أمينة، مع علمه المسبق كمحامي بأن ما سماه في عبارته التفجيرية ب «رضا أمينة» لا أهلية له من الناحية القانونية ما دامت أمينة قاصرة، لأن الرضا يتطلب بلوغها (18 سنة)، في حين أن اغتصاب أمينة تم وهي تبلغ (15سنة)، وفي هذا الصدد فقد حملت هيئات المجتمع المدني المسؤولية في الملف للقضاة، ما دام القاضي هو الذي زوجها في تلك الوضعية بسكوت مطبق، وما دام القاضي هو أيضا الذي حرر شهادة الوفاة لأمينة الفيلالي بسكوت مطبق بعد انتحارها وكأن الأمر عاد جدا، وفي نقاشنا المسألة مع السادة القضاة، فقد نفوا من جانبهم أي مسؤولية لهم في الملف، من بقولهم: «إن القاضي يطبق النصوص القانونية ولا يصنعها»، وذاهبين إلى أن القانون يصنعه المجتمع….، وقبل مناقشة هذه التبريرات التي أطلقها القضاة حاولنا البحث في المرجع الذي تم استقاء هذا النص الكارثة منه (475) من القانون الجنائي، والذي يذهب إلى أن مغتصب الفتاة يتم تزويجه لها «لستر الفضيحة والعار»، ذلك أننا لم نجد له أصلا في التشريع الإلهي ولا الفقهي، كما لم نجد له أصلا في العرف المغربي الأمازيغي، كما بحثنا في الإرث القانوني الفرنسي الذي تسرب إلى القانون المغربي منذ 1958 فلم نجد له وجودا في الموروث القانوني الفرنسي، وهنا وجهنا السؤال للعلامة الخمليشي، فكان جوابه بأن مرجعية هذا النص الكارثة ( 475) تعود إلى التاريخ السوري، حينما أصدره أحد السلاطين الشوام من تلقاء ذهنه، وهذا يفند ادعاء أن هذا النص من صنع المجتمع المغربي، ذلك أنه يتم تطبيقه على المجتمع المغربي منذ أزيد من خمسين سنة باعتباره أداة للحل، وهنا تتم مساءلة السادة القضاة: هل تعملون فقط على إنزال نصوص جاهزة وظالمة وتطبيقها بصورة ميكانيكية على المجتمع المغربي بدون مساءلتها ولا مناقشتها ولا المطالبة بتعديلها عبر آليات الاجتهاد القضائي؟ هذه الآليات التي لا تنظر للسادة القضاة بأنهم مجرد موظفين أمنيين، ولا عسكريين يقومون بإنزال النصوص وتطبيقها كما هي، ذلك بأن مصدر قوة السادة القضاة هو أنهم أطر سمح لهم تخصصهم الجامع بين علوم مختلفة شرعية وقانونية إضافة إلى خبرتهم الاجتماعية والإدارية عبر احتكاكهم اليومي بقضايا المجتمع وإشكالاته، كما أن نقطة القوة الأكبر لدى السادة القضاة هي استقلاليتهم وحيادهم الإيجابي، فقد شاهدنا مؤخرا بأن القضاة قد حركوا دينامية مدنية للمطالبة بتحسين أوضاعهم المعيشية – وذلك من حقهم، لكننا كنا نتمنى أيضا منهم كهيئة أنه بالقدر الذي حركوا فيه ملفاتهم الاجتماعية لتحسين ظروف عملهم، أن يحركوا دينامية اجتهادية علمية وقانونية في اتجاه تغيير هذه الكوارث النصية القانونية لتحسين ظروف عملهم أيضا في هذا الاتجاه المعنوي والحقوقي والأخلاقي والحداثي والمؤسساتي، وهو إن تم سيمنحهم لاشك بصمة كبرى في مسار التغيير الحداثي الإيجابي الذي تعرفه مؤسسات البلاد ومسارها القانوني، كما أن ذلك سيزيد من ثقلهم الإيجابي على اعتبار أنهم قوة اقتراحية اجتهادية تقدمية وليست هيأة لتنفيذ وتطبيق نصوص رجعية موروثة وراكدة منذ أزيد من خمسين سنة، تم استقدامها من تاريخ سلاطين الشام. (يتبع) ولا ندري كيف أن جل هؤلاء السادة القضاة الذين تتلمذوا على يد العلامة الخمليشي، أن يقفزوا على كتاباته واجتهاداته في هذا المجال؟ فضلا عن أكبر درس قدمه الأستاذ الخمليشي للهيئة القضائية وهو استقالته من القضاء سنة 1969 بعد أن مارس القضاء بدءا بسنة 1960، حيث قضى خمس سنوات في محكمة الاستئناف بالرباط، ومر رئيسا للمحكمة الإقليمية بالناضور…، فهلا تساءل القضاة: لماذا استقال السيد الخمليشي من القضاء؟ يقول العلامة في جوابه عن السؤال: «... فقررت بالأغلبية إلغاء قرار قاضي التحقيق وإحالة المتهم على الفحص المضاد، وهنا أقامت النيابة العامة الدنيا...»، ويضيف قائلا عن استقلالية القضاء: «وبين بداية الستينات ونهايتها تغيرت أحوال القضاء كثيرا من حيث استقلاليته بسبب الظروف التي جرت فيها محاكمات سياسية كان من الصعب إبعاد تأثيرها على استقلالية القضاء الأمر الذي فتح إمكانية التدخل حتى في بعض القضايا الغير سياسية...»، هكذا إذن نفهم أيها السادة القضاة لماذا استقال العلامة الخمليشي من القضاء؟ إنه رفض أن يكون آلة صماء لإنزال النصوص الواردة، مع أنه في تطبيقها ظلم لأهلها، كما رفض أن تنتهك استقلالية القضاء حينما رفض قرار قاضي التحقيق وإحالة المتهم على الفحص المضاد، إذ لا يمكن لقاض ينظر إليه المجتمع بخاصته وعامته بتبجيل لثقل مسؤوليته أن يقول ببرودة وبساطة: «إني أطبق النصوص فقط»، فهل للقاضي أن يطبق نصوصا تؤدي لقتل النفس بسم الفئران؟ وهذه النصوص مجهولة المصدر ومضادة لأصل العدل الإلهي، وناسفة للعدالة والحقوق الإنسانية والاجتماعية؟ ومعارضة للتشريع ومصادمة لقيم الحداثة وحقوق الإنسان في أبسط تعريفاتها ومعانيها؟ إننا حينما نثير إشكالية جمود النصوص، وتأبيد هذا الجمود أمام السادة القضاة، لا ندعي بأن المسألة سهلة وأنه ضروري الدفع الفوري إلى تغييرها على أيديهم لوحدهم، إنما ندعوا إلى ضرورة فتح باب الاجتهاد، وتفعيل ورشات النقاش العلمي والشرعي والقانوني والحقوقي والمدني والسياسي، لأنه يوجد داخل هذه الحقول (العلمية والفقهية والمدنية والسياسية) من يعمل جاهدا على تأبيد هذا الجمود وإعطائه عناوين مختلفة من قبيل : التحريم والقداسة والمؤامرة والتغريب والشعور الجمعي والخصوصية، والدفاع عن التراث الوطني. ولا أحد ينكر حتى على المستوى العالمي وجود واستمرارية نصوص وأفكار قاتلة في تشريعات ودساتير لم تستطع حتى الرسالات السماوية تغييرها وتحريكها بسهولة، وهنا تقف جريمة الرق كأكبر نموذج لهذه الأحكام القاتلة، إذا تتبعناها منذ القديم، «… فقد كانت سياسة أفلاطون موصومة في أساسها بخطأ كبير موجب للأسف، ولا شك في أنه لم ينفرد بارتكاب هذا الخطأ، إنه تلقاه من أوهام زمانه وضروراته، لكن أفلاطون كجميع مقنني بلاده- كما هو شأن دساتير إغريقيا أجمع- يقسم الجمعية إلى طبقتين: طبقة الأحرار وطبقة العبيد، حقا إنه لم يحاول كما حاول تلميذه تفسيرا يشبه التقريض للرق الذي كان يشعر بكراهيته، غير أنه لم يحاربه باسم هذه المبادئ السامية التي كان يعلمها حق العلم والتي كشفت له عنها بسيكولوجيا سقراط، إنه لم يهدره البتة باسم الطبع الإنشائي الذي حللته الفلسفة تحليلا، مع أنه كان لابد من أن يكون قد سمع لشكاوى العبيد التي لا يقبل فيها العزاء فحسب، بل أيضا الاحتجاجات الصريحة التي انتزعتها الرحمة والعقل عندئذ من قلوب أقل استنارة من قلبه، كان أفلاطون يعلم حق العلم الإنسان في ذاته وفي كل عمومه، لكنه في العمل لم يكن ليعترف به إلا في الإنسان الحر الذي هو وحده عضو في المدينة، ومهما أوصى برعاية العبيد وملاطفتهم فإن العبد في نظره ليس جزءا من الجمعية المدنية، أو بعبارة أخرى من الإنسانية….، حقا عن أفلاطون قد أراد أن يقصر الرق على زمانه ونصح لمواطنيه ألا يتخذوا من بينهم عبيدا….، لكن الرق كما عرفه أفلاطون قد مكث بعد ألف سنة، ولم تهدره المسيحية كما لم يهدره الفيلسوف، وقد اجتهد الإنجيل في تلطيفه، ولكنه لم يقض عليه، وفي القرن السادس بعد الميلاد أيا كانت التغييرات التي اعتورت القانون الروماني ظل الرق باقيا بكل قوته القانونية، ولو أن الأخلاق خففت من قسوته، فلم يلغه جوستنيان البتة، مع أنه كان يزاول الإصلاح، حتى بعد ذلك لم يختف الرق إلا ليفسح محلا لهذه الحلقة الأخيرة من غل النظام الإلتزامي…». لقد اقتطعنا هذا النص من المقدمة التي أوردها البروفسور «بارتلمي سانتهيلير»، لكتاب «السياسة» لأرسطو طاليس، وأتينا بهذا الشاهد على طوله، لنقف على المؤتلف بين مسألة الرق كما وردت في هذا النص، ومسألتنا المتعلقة بأمينة الفيلالي، لنبين أننا قد ندين مسألة غير عادلة ونتعاطف مع ضحيتها على مستوى الإحساس، لكننا نكرسها في التطبيق القانوني والمؤسساتي بحجة أنه منصوص عليها، و عبر تهربنا الدائم من اقتحام العقبة التي تشكلها ثنائية وازدواجية «النص والواقع» وهي غائرة في التاريخ، كما أن تعاطفنا وأخلاقنا الحسنة وإدانتنا النفسية والثقافية للانحراف الوارد فيها لن يفيد الضحية شيئا ما دمنا أسرى لعقدة التكريس العملي والقضائي والزجري لنصوص تعادل في خطورتها سم الفئران، ذلك أن ثنائية أو بالأحرى ازدواجية الاعتراف بحقوق الأنثى والتضامن معها من جهة، وتكريس الفحولة والذكورة من جهة أخرى عبر التخفي وراء لغة تطبيق النصوص القانونية، مع الخضوع للعلاقات الاجتماعية خضوعا أعمى، يعتبر نوعا من انفصام الشخصية المنتشر، حتى لا نقول نفاقا، كما أصبحت مظاهرها الخطيرة تشتعل كالهشيم في نفوس النخبة الواعية بخطورة المسألة، فتحريك الاجتهاد في المسألة يحتاج إلى شجاعة واستقلالية، ولذلك قلنا أن شجاعة السادة القضاة في تحركهم التنظيمي الأخير للمطالبة بتحسين ظروف عملهم خطوة إيجابية وشجاعة ومستقلة، لكنها لا ينبغي أن تبقى حبيسة أسئلة المعيشة مادام العتاد النصي الذي يشتغل به القاضي يشكل جوهر ظروف عمله القضائي التي ينبغي أن تتحسن، كما أننا لا ننكر أن هناك دينامية ثقافية يحركها نادي القضاة ومنها تنظيم ندوات كان آخرها ندوة آسفي حول استقلالية القضاء بتعاون بين نادي القضاة وكلية آسفي (الأربعاء الماضي)، كما سررنا أيضا لزيارة وفد قضائي مغربي من محكمة النقض للولايات المتحدة من أجل الاطلاع على التجربة القضائية الأمريكية والاستفادة من خبراتها، كما أن اطلاعنا المستمر على بحوث دورية «القضاء المدني» المحكمة والجادة، يبين ويوثق هذه الدينامية الثقافية القضائية الجادة، لكننا لا نريد أن تكون هذه الأعمال مجرد أفعال للتنشيط الثقافي والسياحة القضائية لا تمس الواقع العملي بأي لمسة، ولا تقترب من جروح الأزمات والمعانات العملية للناس مع النص ومع الممارسات القضائية بأي شبر. ولقد حرصنا في هذه الحلقة على أن تكون موجهة للهيئة القضائية، وللنص القانوني من أجل فتح النقاش وزعزعة جمود هذا النص وركود آليات الاجتهاد، على أن نخصص حلقة قادمة مفصلة وجادة للنص الديني ولركود الاجتهاد الفقهي لدى الهيئة العلمائية الدينية، والتي أصبحت تدخلاتها في قضايا المرأة وحقوق الإنسان تولد كوارث ومآزق أكثر مما هي مبشرات وحلول، ومنها ما أثارته الصحافة الإسبانية والمجتمع المدني الإسباني مؤخرا أمام خطبة أحد الخطباء المغاربة حينما حث على ضرب النساء من فوق منابر المساجد الإسبانية موثقا زجره ذلك بأنه يستند على النص القرآني الداعي لضرب النساء بقوله: «واضربوهن...»، وهو ما يعكس بعمق مأزق هؤلاء المتفيقهين أمام جمودهم على النص، كما يعكس أزمتهم البنيوية في معالجة تلك الأمور بالتي هي أحسن.