الريسوني ل"اليوم 24": تعديلات مدونة الأسرة خالفت الشريعة الإسلامية في مسألة واحدة (حوار)    حملة مراقبة تضيق الخناق على لحوم الدواجن الفاسدة في الدار البيضاء    بوتين يعتذر لرئيس أذربيجان عن حادث تحطم الطائرة    قوات إسرائيلية تقتحم مستشفى بشمال غزة وفقدان الاتصال مع الطاقم الطبي    زياش يضع شرطا للموافقة على رحيله عن غلطة سراي التركي    مرتيل: تجديد المكتب الإقليمي للجامعة الوطنية للصحة    تشديد المراقبة بمحيط سبتة ينقل المهاجرين إلى طنجة    الاحتفاء بالراحل العلامة محمد الفاسي في يوم اللغة العربية: إرث لغوي يتجدد    غزة تحصي 48 قتيلا في 24 ساعة    الداخلة : اجتماع لتتبع تنزيل مشاريع خارطة الطريق السياحية 2023-2026    وفاة بامبا بعد أسبوع من نيل لقب رابطة الملاكمة العالمية    تأجيل تطبيق معيار "يورو 6" على عدد من أصناف المركبات لسنتين إضافيتين    رصيف الصحافة: موريتانيا تنتبه إلى خطورة البوليساريو وأطماع الجزائر    عملية نوعية تفكك عصابة مخدرات    "العربية لغة جمال وتواصل".. ندوة فكرية بالثانوية التأهيلية المطار    ارتفاع ليالي المبيت بالرباط وسط استمرار التعافي في القطاع السياحي    خبراء "نخرجو ليها ديريكت" يناقشون موضوع مراجعة مدونة الأسرة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    هذا ما قضت به محكمة عين السبع في حق محمد أوزال    اليابان.. زلزال بقوة 5.1 درجة يضرب شمال شرق البلاد    حصيلة الرياضة المغربية سنة 2024: ترسيخ لمكانة المملكة على الساحتين القارية والدولية    مدرب الوداد: بالنسبة للمغرب الفاسي كل مباراة ضدنا بمثابة نهائي الكأس    حجم تدخلات بنك المغرب بلغت 147,5 مليار درهم في المتوسط اليومي خلال أسبوع    ترامب يطلب من المحكمة العليا تعليق قانون يهدد بحظر "تيك توك" في الولايات المتحدة    مطالب بإنقاذ مغاربة موزمبيق بعد تدهور الأوضاع الأمنية بالبلاد    فرح الفاسي تتوج بجائزة الإبداع العربي والدكتوراه الفخرية لسنة 2025    مجلس الأمن يوافق على القوة الأفريقية الجديدة لحفظ السلام في الصومال    فئات هشة تتسلم مساعدات بالرحامنة    عائلة أوليفيا هاسي تنعى نجمة فيلم "روميو وجولييت"    دراسة: أمراض القلب تزيد من خطر اضطراب الخلايا العصبية    سطاد المغربي يهدد صدارة رجاء بني ملال    مونديال الأندية.. الوداد الرياضي يشارك في ورشة عمل تنظمها "الفيفا" بأمريكا    استثناء.. الخزينة العامة للمملكة توفر ديمومة الخدمات السبت والأحد    مبادرة مدنية للترافع على التراث الثقافي في لقاءات مع الفرق والمجموعة النيابية بمجلس النواب    مباحثات مغربية موريتانية حول تعزيز آفاق التعاون الاقتصادي بين البلدين    وفاة زوج الفنانة المصرية نشوى مصطفى وهي تناشد جمهورها "أبوس إيديكم عايزة ناس كتير تيجي للصلاة عليه"    كيوسك السبت | الحكومة تلتزم بصياغة مشروع مدونة الأسرة في آجال معقولة    حريق يأتي على منزلين في باب برد بإقليم شفشاون    الرئيس الموريتاني يجري تغييرات واسعة على قيادة الجيش والدرك والاستخبارات    أزولاي يشيد بالإبداعات في الصويرة    الكعبي ينهي سنة 2024 ضمن قائمة أفضل الهدافين    البرازيل: ارتفاع حصيلة ضحايا انهيار جسر شمال البلاد إلى 10 قتلى    يامال يتعهد بالعودة أقوى بعد الإصابة    اقتراب مسبار "باركر" من الشمس يعيد تشكيل فهم البشرية لأسرار الكون    لأداء الضرائب والرسوم.. الخزينة العامة للمملكة تتيح ديمومة الخدمات السبت والأحد المقبلين    المدونة: قريبا من تفاصيل الجوهر!    بورصة البيضاء تغلق التداولات بالأحمر    لقاء تواصلي حول وضعية الفنان والحقوق المجاورة بالناظور    2024.. عام استثنائي من التبادل الثقافي والشراكات الاستراتيجية بين المغرب وقطر    استهلاك اللحوم الحمراء وعلاقته بمرض السكري النوع الثاني: حقائق جديدة تكشفها دراسة حديثة    الثورة السورية والحكم العطائية..    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوظيفة الدينية في إطار الملكية البرلمانية
نشر في هسبريس يوم 02 - 05 - 2011

(مساهمة في نقاش مكانة إمارة المؤمنين في الدستور المرتقب)
مقدمة:
تعتبر اللحظة السياسية التي يجتازها المغرب اليوم لحظة تأسيسية بامتياز، تكافئ بثرائها في بعض الجوانب لحظة الاستقلال الوطني وما رافقها من أحداث كبرى، فلأول مرة منذ الاستقلال إلى الآن يتاح للمغاربة وعلى نطاق واسع التفكير في طبيعة الدولة التي ستحضن طموحاتهم وآمالهم في النهضة والتقدم. فدقة هذه اللحظة وقيمتها الإستراتيجية تقتضي إحساسا عاليا بالمسؤولية، وتخليا تاما عن المنطق "السياسوي الضيق"، الذي يقيس المواقف والمبادرات بحسابات الربح والخسارة للذوات، وبالمقابل تطلب اللحظة تثاقفا كبيرا بين السياسة والمعرفة من شأنه تعبئة النقاش السياسي والدستوري الجاري بدلالات إستراتيجية هو بأمس الحاجة إليها.
فهذه المقالة حول الوظيفة الدينية في الدولة المغربية هي محاولة جزئية للارتقاء بالنقاش الدستوري في بلدنا الذي تباينت حوله آراء الفاعلين، إلى نقاش استراتيجي يتجاوز ضيق اللحظة السياسية.
والذي حفزنا على الكتابة حول هذا الموضوع انطلاقا من هذه الزاوية هو التمركز الأيديولوجي الذي بات واضحا، وسمة معظم المقاربات الدستورية-الحزبية التي أفرجت عنها هذه اللحظة التاريخية؛ فالوظيفة الدينية للدولة أو إمارة المؤمنين هي بالنسبة للبعض مرجعية للاستبداد، والتعدي على الدستور والمؤسسات الدستورية كالحكومة والبرلمان..، وبالنسبة للبعض الآخر ضمانة إسلامية الدولة وعنوان هويتها الدينية والتاريخية. وبالتالي وباستقلال عن هذه الأطروحات السياسية، نحن بحاجة إلى أجوبة إستراتيجية وجريئة عن جملة من الأسئلة قبل التورط في إجابات سياسية متسرعة، ومن جملة هذه الأسئلة: كيف تطورت الوظيفة الدينية في الدولة المغربية؟، وما هي أهميتها الإستراتيجية؟، وكيف يمكن تمثيلها دستوريا، استنادا إلى حقيقتها السياسية ووزنها الإستراتيجي؟.
نظرة موجزة حول تطور الوظيفة الدينية في الدولة المغربية منذ الاستقلال وإلى اليوم:
إن تطور الوظيفة الدينية في الدولة المغربية موضوع طريف وحيوي في هذا السياق، وتقتضي ملاحظة هذا التطور ومتابعته تسليط الضوء على الاهتمام الحكومي بالشأن الديني من خلال وزارة الشؤون الإسلامية وغيرها من المؤسسات والجهات، منذ تشكيل أول حكومة مغربية وإلى اليوم؛ فقد شكل السلطان محمد الخامس أول حكومة سنة 1955م، ولم يكن بين وزرائها حينئذ وزيرا للشؤون الإسلامية، وبقي الاختصاص الديني مدة ست سنوات تقريبا وحتى سنة 1961 مفرقا بين وزارتي الأحباس والعدلية، حيث ستظهر ولأول مرة وزارة الشؤون الإسلامية التي تولاها الزعيم علال الفاسي، وأريد لها –آنذاك- أن تضطلع بمهام الرد على فئتين تعاظما نفوذهما في المغرب حسب الزعيم علال: «فئة جامدة تأبى أن تتفهم حقائق الدين وأسسه الصالحة...، وطائفة أخرى أهمها أمر الماديات وهالها ما عليه غير المسلمين في الغرب من تقدم عظيم فحسبت أن ذلك كله من التخلي عن الروح».
فهذه التحديات التي عبر عنها علال الفاسي، واندفع لمعالجتها انطلاقا من مسئوليته في وزارة الشؤون الإسلامية الحديثة دلت موضوعيا على الحاجة إلى تدخل الدولة في المجال الديني في هذه المرحلة المبكرة من تاريخ المغرب، ومنذ ذلك الحين أمسى الشأن الديني وظيفة قارة في بنية دولة الاستقلال، وبعد سنوات قليلة من تأسيسها.
وبالتزامن مع هذا التطور، وعلى الصعيد القانوني، تمت دسترة الصفة الدينية للملك، وتضمين دستور المملكة سنة 1962 عبارة «الملك أمير المؤمنين..»، وقد جاء هذا التطور مواكبا للتدخلات الدينية للدولة الآخذة في الازدياد ومكملا لها، سواء من خلال وزارة الشؤون الإسلامية، أو من خلال تصرفات الملك ومواقفه وقراراته.
وستتلاحق تطورات الوظيفة الدينية للدولة في عهد الراحل الحسن الثاني تبعا لتطور الأحداث وما استجد من تحديات، فبعدما كانت وظيفتها الأساسية في البداية مواجهة التخلف الديني والانغلاق، ومحاربة التغريب، وخاصة موجة الإلحاد، أمست في بداية التسعينيات مهتمة أكثر بمواجهة التطرف الإسلامي والحركات الإسلامية، وأخذت في استدعاء ثوابتها المذهبية المهملة منذ عقود، وعلى رأسها المذهب المالكي، واستجمعت قواها للتمكين لها في المجال الديني.
لكن في بداية الألفية الثالثة ومع بلوغ الملك محمد السادس سدة الحكم، عرفت الوظيفة الدينية قفزات نوعية، تجسدت أساسا في العمل الجاد وبكافة الوسائل على تأميم الحقل الديني وشرعنة احتكاره من طرف الدولة، والإقصاء الممنهج للفاعل الديني المدني، وترسيخ ما اصطلح عليه إعلاميا "بالإسلام المغربي" القائم على الفقه المالكي والعقيدة الأشعرية وتصوف الجنيد، وتعززت هذه الاختيارات بصرح مؤسساتي ضخم تجسد في المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية المحلية، والتوسع الوظيفي والترابي للشؤون الدينية... إلخ.
انطلاقا من هذا الرصد المختصر لتطور الوظيفة الدينية للدولة المغربية منذ الاستقلال وإلى اليوم، يمكن التنبيه إلى مجموعة من العناصر ذات الصلة بالنقاش الدستوري:
1- إن بروز الوظيفة الدينية في بنية الدولة المغربية، ارتبط بمثيرات وحوافز موضوعية، تمثلت في جملة من التحديات الدينية التي شهدها المغرب بعد الاستقلال، ولم تكن هذه الوظيفة اختيارا استراتيجيا أملته نظرية سياسية معينة، وقناعات فكرية محددة، فسواء علال الفاسي أو عبد الكريم الخطيب وهما يقترحان على الملك إضافة فصل «الملك أمير المؤمنين» للدستور، لم يقصدا أبدا تمكينه من صلاحيات فوق دستورية، بقدر ما كان قصدهما تمكينه من لقب رمزي، يعبر عن أصالة الدولة المغربية وطابعها الإسلامي، ووضع الملك في المقام اللائق به إزاء الوظيفة الدينية للدولة.
2- إن الدلالة التشريعية والاستبدادية ل «الملك أمير المؤمنين» التي جاء بها دستور 1962م، لم تكن من المقتضيات البديهية للنص الأصلي، ولكنها دلالة طارئة ولاحقة، اقتضاها الصراع السياسي الحاد بين الملكية وخصومها من اليساريين في البداية وبعض الإسلاميين في النهاية.
3- إن الدستور الحالي لا يعكس أبدا المكانة الوظيفية والسياسية التي احتلتها إمارة المؤمنين في حياة المغاربة في عهد محمد السادس، وهو ما يقتضي مراجعة شكل ومستوى حضورها على صعيد الدستور، بما يناسب هذه المكانة ويرشدها.
الأهمية الإستراتيجية لإمارة المؤمنين في الدولة المغربية:
- يشكل الإسلام في المغرب وفي سائر البلدان الإسلامية بعدا أساسيا من أبعاد الحياة الجماعية للمسلمين، لا يقل أهمية عن الأبعاد الأخرى الاقتصادية والاجتماعية...، وباعتبار هذه المكانة يفرض نفسه كموضوع سياسي على الدولة ومؤسساتها، وقد أظهرنا فيما يتعلق بالتجربة المغربية من خلال الفقرة السابقة أن اهتمام الدولة الوطنية بالشأن الديني جاء متأخرا عن الواقع، أو بعبارة أخرى إن إدراك الدين كموضوع سياسي في دولة الاستقلال جاء متأخرا مقارنة بإدراكها للقضايا والمواضع الأخرى، ويدل هذا التأخر من الناحية الإستراتيجية على مركزية المسألة الدينية وحيويتها في المجتمع المغربي، فتداعيات التدين الإسلامي تتجاوز الذوات إلى واقع الحياة وتفاصيلها.
فإمارة المؤمنين من هذه الزاوية هي اختيار سياسي إستراتيجي يتلاءم مع خصوصية المجتمع المغربي باعتباره مجتمعا مسلما في غالبيته الساحقة، وأي خلل على مستوى وظائفها يهدد الأمن الروحي والاستقرار السياسي للبلد.
- شهدت شرعية الدولة العلوية في المغرب منذ تأسيسها تطورات جزئية، أملتها التحولات التاريخية والسياسية التي مرت بها على مدى أزيد من أربعة قرون، غير أن أبرز تطور شهدته هذه الشرعية هو الذي حصل بعد الاستقلال وتحديدا سنة 1962، حيث تقوت الشرعية الدينية للملكية المغربية القائمة على البيعة بشرعية سياسية أخرى قائمة على دستور تم إقراره من خلال استفتاء شعبي مباشر، والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: هل تحديث الشرعية من خلال دستور مستفتى حوله ينسخ الشرعية الدينية أم يتعايش معها؟.
إن هذه الازدواجية على مستوى الشرعية السياسية للمملكة المغربية، هي نفسها الازدواجية التي تمزق ذاتنا الثقافية والسياسية والاجتماعية...، ويتردد صداها في كافة مناحي الحياة، ويقتضي القضاء عليها بناء نموذج سياسي حضاري، ونظرية سياسية أصيلة، تحل بواسطتها الشرعية الدينية ضمن الشرعية الحديثة، بتأويل فقهي يرضي مشاعر المتدينين، كأن يصبح الاستفتاء على الدستور هو عين البيعة الشرعية مثلا.
لكن غياب هذه النظرية الأصيلة، واستمرار مظاهر التمزق على مستوى الوعي السياسي المغربي بين أنصار الشرعية الدينية وخصومها من جهة، والقناعة المشتركة لدى سائر الفاعلين بضرورة الحفاظ على الاستقرار السياسي وعدم تعريضه للخطر وذلك بالحفاظ على شرعية الدولة من جهة ثانية، يعلل من الناحية الإستراتيجية استمرار الشرعية الدينية للنظام المغربي القائمة على البيعة بالتوازي مع الشرعية الحديثة، ويعلل أيضا الوجود الدستوري لأمير المؤمنين.
- إن مجال تدبير الشأن العام كما يبدو من خلال اجتهادات فقهية عديدة، وكذلك من خلال فتوى المجلس العلمي الأعلى (2005) حول "المصلحة المرسلة في علاقتها بقضايا تدبير الشأن العام" هو مجال تدبير المصالح المرسلة والعناية بها، ويشكل هذا التعريف أساسا إستراتيجيا لفصل نسبي بين الديني عن الزمني في التجربة المغربية، ومرجعية لتوسيع مجال الديمقراطية السياسية؛ فالمجال السياسي استنادا إلى التعريف السابق يسع جميع الرؤى والمقاربات: ليبرالية، واشتراكية، و"إسلامية"، وهو موضوع السياسات الحكومية المختلفة، أما المجال الديني الذي تتحقق فيه الوظيفة الدينية هو مجال للثوابت فقها، وعقيدة، وأخلاقا، ويجب أن يستقل تدبيره عن تدبير المجال الزمني.
فإمارة المؤمنين في هذا السياق ومن الناحية النظرية هي مؤسسة لتدبير الوظيفة الدينية للمملكة بما يحمي الثوابت في المجالات المختلفة، وهي كذلك إحدى الصيغ الممكنة للفصل النسبي بين الديني والسياسي، فصلا يؤكد الاتصال بينهما على أساس فتوى المصالح المرسلة والاجتهاد الفقهي عموما. وتعتبر هذه الصيغة أفضل الصيغ العملية، التي تحل مشكلة الوظيفة الدينية في إطار الدولة الحديثة، دون أن تطالب أي من الأطراف بالتنازل عن قناعاته الفكرية أو السياسية، فهي تجيب كل طرف باللغة التي يفهمها ويجيدها. فبهذا الأسلوب يمكن تجنب التمزقات السياسية الداخلية التي تتخذ عادة مطية لتأجيل الديمقراطية، والتهرب من استحقاقاتها.
إمارة المؤمنين في إطار "الملكية البرلمانية":
إن حضور إمارة المؤمنين أو الوظيفة الدينية في الدستور المرتقب يجب أن يعكس مكانتها السياسية وأهميتها الإستراتيجية، وأي تجاهل دستوري لهذه المكانة والقيمة من شأنه إفقاد مشروع الدستور التوازن الضروري بين وظائفه السياسية، وتوتير العلاقة بين الديني والسياسي على صعيدي الدولة والمجتمع.
لقد شهد العقد الأول من حكم الملك محمد السادس توسعا كبيرا في المؤسسات التي تعنى بالوظيفة الدينية ومهام إمارة المؤمنين، بشكل يناسب مكانة الدين لدى المغاربة، واستند هذا الورش التوسعي إلى الفصل 19 من الدستور؛ فالملك باعتباره أميرا للمؤمنين يجوز له إنشاء ما يراه مفيدا للقيام بمهام الإمامة العظمى وصونها، غير أن التساؤل المشروع في هذا السياق: هل يجوز أن تبقى الوظيفة الدينية للدولة المغربية أسيرة الفصل 19 بتخريجات مختلفة؟، ألا يمكن تعزيز هذه الوظيفة دستوريا بنصوص أخرى تنسجم –على الأقل- مع ما هو موجود في الواقع؟ ثم، هل هناك فرصة لتحديث الوظيفة الدينية للمملكة؟.
تظهر المذكرات التي تقدمت بها أبرز الأحزاب الوطنية أمام لجنة تعديل الدستور وعيا حادا بسلبيات الفصل 19، وحاولت في اقتراحاتها تجاوز هاته السلبيات، وذلك بحصر سلطات إمارة المؤمنين في تدبير الحقل الديني، ولم نقف في هذه المذكرات على مشاريع نصوص تعزز الوظيفة الدينية باستثناء ما جاء في مذكرة حزب العدالة والتنمية وبعض الجمعيات الدينية الأخرى التي دعت إلى دسترة المجلس العلمي الأعلى، والتنصيص على استقلالية العلماء...
إن ما يدعو للتأمل النظري انطلاقا من هذه الاقتراحات هو الإلحاح الشديد للفرقاء السياسيين على اقتسام السلطة مع الملك في السياسة المدنية من منظور الملكية البرلمانية، في حين سلمت له بممارسة مطلق السلطة في المجال الديني، ولم تسهم ولو بالقليل في تحسين الوظيفة الدينية للدولة أو دمقرطتها. فإذا كان المبدأ المؤسس لشرعية المطالب الديمقراطية لدى الكثيرين هو الربط بين المسؤولية والمحاسبة، فهل ممارسة السلطة الدينية استثناء يخرج عن هذا المبدأ؟.
فأمير المؤمنين في معظم الاقتراحات الدستورية مسئول عن حماية الدين، وتدبير الحقل الديني، والضامن للأمن الروحي...، وهذه المهام شأنها شأن المهام المدنية الأخرى منوط تحقيقها بسياسة متكاملة، وحكامة دينية جيدة، وشفافة..، وهي أيضا تتأرجح بين النجاح والفشل، وعرضة للأخطاء والتجاوزات، وخاصة من لدن المفوضين من طرف جلالته للقيام بهذه المهام، وبالتالي وحتى لا يعود الفشل الممكن للسياسة الدينية سلبا على الشرعية الدينية لأمير المؤمنين لابد من إعمال مبدأ المحاسبة أيضا في الشأن الديني، والسعي لدمقرطته.
إن صون مقام إمارة المؤمنين والحفاظ على دوامها واستقرار شرعيتها يقتضي شجاعة سياسية ودستورية توسع من مجال المشاركة والديمقراطية في الشأن الديني، ففي السنوات القليلة الماضية كانت "الحراسة الدينية" في المملكة موزعة بين جهتين رئيسيتين: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، والمجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية المحلية، وهاته الجهات مسئولة –فقط- أمام أمير المؤمنين، ولم يسمح لأي جهة مدنية كانت أو سياسية مشاركتها هذه الوظيفة.
ومن ثم، فالتحول العميق الذي يشهده الاجتماع السياسي المغربي من جهة، والحاجة إلى الحفاظ على الهيمنة الروحية لإمارة المؤمنين من جهة ثانية، تستدعي إعادة موضعة الوظيفة الدينية بين مؤسسات الدولة. ومن التعديلات الضرورية التي تدخل في هذا الباب: إعفاء الحكومة من الوظيفة الدينية، باعتبار هذه الوظيفة مما يستقل به أمير المؤمنين، وحتى يتاح –أيضا- للوزير الأول والحكومة ممارسة سلطاتهما التنفيذية كاملة، ودون حرج، احتراما لروح ومنطوق خطاب 9 مارس، وفي هذا الاتجاه يجب تعديل اختصاصات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بحيث تجرد من صلاحيات "الحراسة الدينية"، وتنقل إلى المجلس العلمي الأعلى، خاصة تلك المنصوص عليها في ظهير(2003).
إن الغاية من هذا الاقتراح/التعديل هو تحويل المجلس العلمي الأعلى وفروعه (المجالس العلمية المحلية) إلى مؤسسة عمومية مستقلة عن الحكومة، وتابعة مباشرة إلى إمارة المؤمنين، تعنى بوضع الصيغ التنفيذية للوظيفة الدينية، وتسهر على تطبيقها، بالتعاون مع المؤسسات المختلفة للدولة وعلى رأسها وزارة الأوقاف، ومن مقتضيات هذا التعديل أن يكون المجلس العلمي الأعلى مسئولا أمام أمير المؤمنين، وأمام الأمة، يسري عليه ما يسري على غيره من قوانين وأعراف المراقبة والمحاسبة.
ومن ناحية أخرى، يجب أن يضم المجلس العلمي الأعلى في عضويته العلماء أو القادة الدينيون المشهود لهم بالكفاءة والتجرد والإخلاص...، مع إعمال مبدأ التداول على المسئولية في المجلس، وتجديد عضويته بانتظام، وفي دورات معلومة.
فانسجاما مع هذه الهندسة النظرية يجب أن ينص الدستور المقبل على ما يلي:
«- المجلس العلمي الأعلى مؤسسة عمومية مستقلة تعنى بمهام الحراسة الدينية في ظل ثوابت المملكة المتعارف عليها، تحت نظر أمير المؤمنين؛
- المجلس العلمي الأعلى مسئول أمام أمير المؤمنين وممثلي الأمة».
وإجمالا؛ إن هذا التعديل الإستراتيجي الكبير على مستوى بنية الدولة، الذي يهم تنزيل الوظيفة الدينية برعاية أمير المؤمنين، في إطار الملكية البرلمانية، يغني عن كثير من الاقتراحات الأخرى التي حملتها بعض المذكرات الصادرة عن الجمعيات العاملة في الحقل الديني، والتي تعنى في كثير من الأمثلة بقضايا تفصيلية ليس محلها الدستور.
خاتمة:
إن التمكين الدستوري للوظيفة الدينية للدولة المغربية على هذا النحو، يحقق فوائد عديدة، يمكن حصرها في الآتي:
- إعادة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إلى حظيرة الحكومة ومسئولية الوزير الأول، بعد إعفائها من مهام الحراسة الدينية. وهذا التغيير ينسجم تماما مع روح ومنطوق خطاب 9 مارس، وينسج أيضا مع التطلع المشروع إلى الملكية البرلمانية، وخاصة في الجانب المتعلق بتحمل الوزير الأول والحكومة مسؤولية السلطة التنفيذية بكافة مكوناتها.
- الإسهام بفعالية كبيرة في إخراج الدين من حلبة الصراع السياسي، وتجنيب البلد آفة استغلاله، فوجوده في عهدة مؤسسة دستورية مستقلة تحت إشراف أمير المؤمنين، يتيح للفاعل الديني الحديث في السياسة والمساهمة في ترشيدها دون أن تكون له آفاق سياسية، ويتيح أيضا للسياسي الحديث في الدين دون خوف من تهمة الاستغلال. وبالتالي يؤدي هذا المقترح بالضرورة إلى إضفاء الشرعية الديمقراطية على تدبير الحقل الديني دون الوقوع في الأخطار التي تهدد كلا منهما (الدين والديمقراطية) في ظل هذه الشرعية.
- تفعيل الوظيفة الدينية، وتطوير أدائها التربوي والأخلاقي ميدانيا، بسبب إعمال مبادئ المحاسبة، والتداول على المسؤولية، والكفاءة، والارتقاء بمستوى الحكامة الدينية.
*باحث في التاريخ والفكر السياسي الإسلامي
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.