دائما بنفس السلاسة، وبنفس الوداعة، ينقلنا الاستاذ احمد الخمليشي إلى أكثر المناطق وعورة في الفقه والجدل الديني، لكي يبهرنا بسلامة الموروث العقلاني في التقاليد المغربية الدينية.ولست أبالغ إذا ما قلت بأن التشويق ذاته الذي يولد متعة السرد في المؤلفات المنذورة لذلك، نجده في مصاحبته العقلانية، حيث العقل ، ومهندسوه ومساحوه وبناؤوه يشيدون فسحة بعيدة عن مساحات التجهم العقائدي التي تحشرنا دوما في الفترة الأولى للعقل الذي يحبو على بساط من اجتهاد صار عالة.ومن عناصر المفاجأة المستفزة للمعرفة القريبة من الواقع، والبانية للمنهاج العقلي والدينامي ، هو أن فقيه ومدير دار الحديث الحسنية يحفر في مسلمات الفقه ذاتها ، بشيوخها الكبار وبناتها العظام ، رواد المذاهب ورواد التحرير العقلي من بعد، كما يتضح عندما يحدد اسباب العطب الذي ابتليت به الامة الاسلامية. قرن ونصف من الاجتهاد ولم يتغير شيء! حيث يتضح في كتابه الجديد الذي وسمه تواضعا وتقديرا للآراء المحيطة به أو السابقة عنه و وجهات نظر حول الاجتهاد، وفيه أنه «مضى على بداية الدعوة إلى الاجتهاد ونبذ التقليد حوالي قرن ونصف من الزمن، ولم يتغير شيء».قد تبدو عبارة «لم يتغير شيء» متسمة بالمبالغة بعد أن تأسست مجامع علماء وأصدرت آلاف الفتاوى، فضلا عما لا يحصى من فتاوى الافراد المعلنة بكل وسائل النشر المتاحة.مما يؤكد أنه لم يتغير شيء:استمرار أوضاع الامية والفقر والاستبداد في الحياة الداخلية والهامشية في التدبير والتقرير في العلاقات الخارجية.الفقه الذي يتلى في المؤسسات ويكتب في المؤلفات والأبحاث والندوات لا يزال هو هو، يتعب دارسه بعرض تفاصيل ما قيل في هذا المذهب أو ذاك بانفصال تام عن الواقع وحياة الناس التي يحياها الدارسون أنفسهم.الفتاوى في مجملها تستنسخ الآراء المذهبية، أو تتعلق بجزئيات محدودة: التلقيح الاصطناعي مثلا، والتبرع بالدم أو بالاعضاء.. والمجامع الفقهية لم تتجاوز هذا السقف. فلم يصدر عنها - فيما نعلم - اجتهاد شامل ولو لمجال واحد من المجالات التي لم يعد ما كتبه الفقه حولها قابلا للتطبيق: مثل النظام المؤسسي، ومرفق القضاء ووسائل الإثبات أمامه، وعقود النقل، والأوراق التجارية .. إلخ».وقوة الاستاذ الخمليشي هو أنه لا يتصل بالاجتهاد لكي يقدس اصوله، بل لا يتردد في تفكيك البناء الذي قام عليه واصوله نفسها،، بعيدا عن اية محاباة عقدية غير مجدية مع الاصول. ويتضح ذلك من خلال تفكيره العميق في اسس الاجتهاد نفسها، أي في الكوابح الذاتية التي تجعل الاجتهاد رغبة خارج الواقع وملاسنة دائمة مع الوهم، وعبورا غير موفق في عالم متراكب ومعقد . الاجتهاد عدو نفسه..! فهو يرى « ان اخفاق الدعوة إلى الاجتهاد ونبذ التقليد في تحقيق أهدافها ناتج عن التمسك بعناصر الاجتهاد كما هي مدونة في أصول الفقه، وفي مقدمتها: الاختصاص بالاجتهاد، وطبيعة الرأي الاجتهادي.وبدون مراجعة هذين العنصرين على الأقل، لايبدو في الأفق تحقيق الاهداف التي كان يتوخاها رواد النهضة في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، ومن أتى بعدهم خلال القرن العشرين.»المراجعة تعني:أن الاجتهاد ليس حكرا على فرد أو طائفة وإنما هو حق كل مسلم، وواجب على كل من أنس من نفسه القدرة على الادلاء برأيه في واقعة جزئية أو في موضوع عام. وتبقى قيمة الرأي مرتبطة بمدى قوة مبرراته تنظيرا وتطبيقا، ومدى انضباطه كذلك لقيم الاسلام ومبادئه العليا، وبمراعاة الشعور العام للمجتمع، دون إغفال خصائص ومميزات مجتمع الانسان.التخلي عن فكرة أن المجتهد يكشف عن احكام الله الازلية واعتبار الرأي الاجتهادي أيا كان من صدر عنه رأيا شخصيا في التفسير والمجتمع غير ملزم بتطبيقه.الاراء الاجتهادية السابقة يستأنس بها دون وصفها بأحكام الشريعة أو احكام الله الملزمة. وبالتالي لا يكفي المتمسك بها الحكاية وذكر القائلين بها، وإنما يتعين أن يضيف ما يثبت احتفاظها بالحكمة التي شرعت من أجلها من تحقيق مصلحة أو درء مفسدة.صلاحية تقرير الحكم الملزم من الاجتهادات المختلفة، يملكها المجتمع وحده عن طريق المؤسسة أو المؤسسات التي يخولها ذلك.المراجعة لمفهوم المجتهد ولطبيعة الرأي الاجتهادي، تفرضها نصوص الشريعة ويحضنها الواقع الذي نعيشه:1 - نصوص الشريعة لا أحد يمكنه أن يستدل منها بما يؤسس للاجتهاد والافتاء والتقليد بالمفهوم المتداولة به هذه المصلطحات في أصول الفقه، أي بمفهوم أن المجتهد يكشف عن احكام الله الازلية والمفتي مخبر عن الله وموقع للفتوى نيابة عنه، والتقليد الزام الامة برأي فرد: فالناس صنفان: صنف فرضه التقليد وهم العوام الذين لم يبلغوا درجة الاجتهاد... وصنف ثان وهم المجتهدون.وعلى النقيض من ذلك ما يستنتج من هذه النصوص هو:النهي عن التقليد الاعمى الذي يعطل العقل والفكر، ويخل بمسؤولية التكليف الفردية.اسناد كل ما لم يحسم فيه الوحي إلى الامة «وأمرهم شورى بينهم».أكثر من ذلك: الرسول (ص) وهو المتلقي للوحي والموكول إليه أن يبين للناس ما نزل إليهم أمر باستشارة المؤمنين برسالته في أمورهم التي لم يقرر فيها الوحي بنص صريح.فبناء على أي أساس وتمسكا بأي مبرر يصادر حق الأمة في التقرير ويفرض عليها التقليد ويضفى على رأي المجتهد أو المفتي وصف حكم الله، ويتعالى هذا الرأي حتى على الاستشارة المأمور بها خاتم المرسلين 2 - الواقع المعيش الذي من أبرز معالمه:النظام المؤسسي للدولة الذي أتاح المساهمة في بنائه لجميع أفراد المجتمع وساعد على اختفاء أو تناقص الاستبداد والتحكم في الرقاب والاعراض والاموال .كل ذلك يفسر بالفعل لماذا وقف الاجتهاد عند بوابة العصر وعند اقدام الزمن، شاخصا بعقله القديم أمام هول التراكم المعرفي والتعقد الجديد في الحياة.لقد كانت الجبة اصغر لأن العقل كان يريد العالم فيها وليس العكس. ولهذا يجد الفقيه افقا شاسعا للتفكيرفي مناطق الظل والاخفاق في التفكير الاسلامي.وهو يصارع الواقع بلغة الواقع ، ولا يعود إلى السند الفقهي والى مستلزمات البناء اللغوي الغامض والمفرط في تمركزه على مفرداته، الا لكي يعود بنا إلى لغة التداول والتفكير اليومي ، حتي يتسنى للعقل الجماعي أن يفكر وينطلق من حدود مشتركة.إن النظر في المؤسسات والدستور والضريبة وما إلى ذلك من قاموس الحياة الجماعية والفردية اليومية يفتح افاقا لتحرير الاجتهاد ، كما لو أن بناء فقيهنا هو التوجه من حداثة الحياة إلى تراث المعرفة الفقهية لتجاوزه .... وتثويرها! لقد عجزت الأمة،حسب الفقيه عن تنظيم علاقاتها بشكل متقدم لأنها اختارت «سجن» نفسها في التصور الذي صيغ به الاجتهاد في اصول الفقه.وينتقد و في مجابهة شرعية وعلمية تستند الى روح النص الديني،النزوع الاصولي في تحديد الاجتهاد ومما ينتقذه فيه «الادعاء الخطير بأن المجتهد يكشف حكم الله الأزلي، أو أن الله يوافق على حكم غلب على ظن المجتهد.. » ولهذا يميل الكثير من الكتاب الى «طمس حقيقة الرأي الاجتهادي وهي أنه انتا فكري بشري فيه الصواب والخطأ وفيه مستمر الصلاحية وفيه ما هو مرتبط بالظروف» ..ومن الاشياء المتميزة والاصيلة في كتاب الخمليشي انتباهه الى مجالات غائبة في فكر واجتهادات مؤسسات الدراسات الاسلامية وبالاخص العليا منها ، ويتعلق الامر بموضوعات عامة وبفروع قانونية كاملة . يقول في هذا الصدد أن «بعض فروع القانون أو مجالات تنظيم المجتمع المعاصر ما تزال غائبة في هذه المؤسسات، بينما يقتصر تناولها على الاحكام الاجتهادية التي وضعت منذ اكثر من عشرة قرون . ومن ذلك تمويل الخرينة العامة للدولة. الشخصية القانونية المعنوية، والقوانين الادارية والانتخابية ، والحريات العامة.. ويلاحظ الفقيه، عن صواب وعن تبصر أن قضية الحريات العامة لم تناقش من طرف الفقه القديم لانهالم تكن جزء من واقع المجتمع ومن الحياة المعيشة..وعلينا أن تساءل، في النهاية عن هذا العقل الاسلامي المؤسساتي الذي لا يناقش الحريات العامة اليوم وهي التي تستِأثر بنقاشات حادة في العالم../