أخيرا أعلنت إسرائيل اعترافها بسيادة المغرب على صحرائه. هذه الخطوة جاءت نتيجة توقيع المغرب على اتفاق أبراهام الذي بموجبه اعترفت أمريكا ترامب بوحدة المغرب الترابية، وبالمقابل طبَّع المغرب علاقاته مع إسرائيل. فلماذا التجأ المغرب لاتفاق أبراهام لخدمة وحدته الترابية في المنتظم الدولي؟ التطبيع مع الكيان الإسرائيلي خلق جدالا كبيرا داخل المغرب وفي أوساط سياسية خارجية. ومرد هذا الجدال هو أن الأمر يتعلق بكيان قام على أنقاض شعب عربي مسلم ينتمي للأمة العربية، وتجمعنا به، كشعب عربي مسلم، روابط التاريخ واللغة والدين والحضارة والثقافة. ومنذ عقود وهذا الكيان يقتل الفلسطينيين دون استثناء لا الأطفال ولا الشيوخ، ولا أقول النساء لأن المرأة الفلسطينية منخرطة في مقاومة الاحتلال واسترجاع حقوق وطنها وتاريخها وأرضها وأبنائها. طيب…هذا الكيان الصهيوني الذي يقوم بمجزرة تلو المجزرة في حق الشعب الفلسطيني منذ قيامه في 1948 إلى يومنا هذا وتحت أسماع وأنظار المجتمع الدولي، يقابله عالم عربي متكتل ضد الكيان الإسرائيلي ومنتصر للقضية الفلسطينية. الوضع الطبيعي بخصوص وحدة المملكة المغربية الترابية هو أن يكون الكيان الإسرائيلي، ضد هذه الوحدة لمزيد من إضعاف الدول العربية وزرع بذور التفرقة بينها، لعلها تُنتج واقعا عربيا ضعيفا وغير قادر على الاستمرار في الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، لكي يكون الطريق أمامه سالكا للاستمرار في تنفيذ مخططاته. في المقابل، وعلى منوال نفس التحليل، من المفروض أن تكون الدول العربية متكتلة فيما بينها وداعمة للوحدة الترابية للمملكة المغربية، لتقوية الموقف العربي مقابل تغول الكيان الصهيوني، وذلك من أجل كسب القوة اللازمة لمواجهة أي محاولة لاختراق الصف العربي من قبل الدول الداعمة للكيان الإسرائيلي. فدعوات الانفصال شكلت عبر التاريخ بوابةً لإضعاف الدول وتيسير اختراقها. إذا كان الموقف العربي الرسمي جادا في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية، فإن الوضع الطبيعي هو ما أشرنا له سالفا: كيان إسرائيلي ضد الوحدة الترابية للمغرب ومنتظم عربي داعم للوحدة الترابية المغربية لقطع الطريق أمام أي محاولة لاختراق الصف العربي وإضعافه في مواجهة الكيان الإسرائيلي. لكن الواقع هو عكس ما ينبغي أن يكون عليه الوضع العربي. فنجد دولة جارة، تسعى إلى تقسيم المملكة المغربية، ومستعدة لهدر ثروة الشعب الجزائري من أجل زرع كيان لا يملك مقومات إنشاء دولة مستقلة… جارة أغلقت الحدود بين الشعبين، وأغلقت كذلك سمائها على الطيران المغربي، فقطعت بذلك صلة الرحم بين الشعبين الجارين وعطلت كل تعاون يصب في مصلحة البلدين. والغريب هو أن النظام الجزائري يروج لنفسه أنه داعم للقضية الفلسطينية والكل يعلم أنه في الوقت الذي يزود فيه حركة البوليساريو الانفصالية بكل أنواع الأسلحة الخفيفة والثقيلة، لم يُدعم المقاومة الفلسطينية ولو برصاصة واحدة. الأكثر من ذلك هو أن المغرب شرع في مشروع تنموي لبناء مستقبل أبنائه وتطوير مؤهلات البلاد. فإذا به يجد دولا عربية تستغل قضية وحدته الترابية كنقطة ضعف لفرض مواقفها عليه. كلنا نتذكر ما قام به الإعلام الإماراتي حين فتح قنواته للانفصاليين المدعومين جزائريا، قبل أن تتراجع دولة الإمارات وتفتح قنصليتها في العيون لدعم وحدة المغرب الترابية…كلنا نتذكر حركة الرئاسة المصرية اتجاه دعم الانفصاليين، فكان رد المغرب إعلاميا بدعم الرئيس الراحل مورسي ووصف الرئيس المصري بالانقلابي على الشرعية الانتخابية، فتراجعت مصر عن خطوتها…كلنا نتذكر موقف الرئيس التونسي الذي فاجأ المغاربة بدعمه للانفصاليين مقابل منحة مالية من الجزائر وكأن وحدة المغرب الترابية أصبحت قضية يتم استغلالها للبحث عن حلول لمعضلة الدول. أما بخصوص الجارة الجزائر، فقد استثمرت في قضية الوحدة الترابية للمملكة المغربية، ولم تترك أي منتظم دولي إلا وصرفت عليه الملايير ليجد المغرب مشاريعه التنموية تعاني من عائق اسمه "الصحراء الغربية" يستثمر فيه جنيرالات الجزائر أموال الشعب الجزائري بسخاء كبير. هذا العائق تستغله الدول التي يتعامل معها المغرب لابتزازه وعرقلة مشاريعه التنموية بدعم جزائري، حتى أصبح موضوع الصحراء عاملا يؤرق كل مشاريع المغرب، وآخر حلقة في هذا المسلسل هو اتفاق الصيد البحري بين المغرب والاتحاد الأوروبي… في مقابل هذا الواقع العربي، أعلنت إسرائيل أنها تعترف بسيادة المملكة المغربية على الصحراء وتدعم وحدتها الترابية. فهل أصبحنا نعيش في واقع عربي مقلوب؟ أمام هذا الواقع، وجد المغرب نفسه أمام خيارين: التخلي عن مشاريعه التنموية ومجاراة ما يقوم به جنيرالات الجزائر من هدر لأموال الجزائر، فيسير هو الآخر على نفس المنوال يتنافس مع النظام الجزائري في هدر أموال الدولة على المنتظمات الدولية لدعم قضية وحدته التراتبية. أو خيار البحث عن مخرج سياسي لمواجهة معاداة الجزائر لوحدته الترابية، والتعامل سياسيا مع الواقع العربي والدولي لخدمة مشروعه التنموي، والعمل على توفير سبل نجاح هذا الطموح التنموي بعيدا عن العلاقات العربية المعقدة. اختارت المملكة المغربية الخيار الثاني لأنها تدرك أن الخيار الأول سيُدخل البلاد في تنافس مع الجزائر في هدر أموال الدولة على المنتظمات الدولية التي ستستغل لا المغرب ولا الجزائر في عملية ابتزاز لا نهاية لها. إنه خيار سيُدخل القضية في خانة "اللاحل" لأنه يناسب المنتظم الدولي، وهو ما يعني إيقاف قطار التنمية في البلدين ربما إلى الأبد، بعد نصف قرن من الصراع لم يزد القضية سوى تعقيدا وتوسيعا للشرخ العربي وهدرا للأموال من الجانبين. وهو ما سينعكس سلبا على القضية الفلسطينية لأن أموال الدولتين ستصرف على نزاع إقليمي وسوف تعجز المغرب والجزائر عن دعم فلسطين لأنها ستكون دولا ضعيفة تحت رحمة ابتزاز الدول الداعمة للكيان الإسرائيلي. الموقف العربي من الكيان الإسرائيلي لا يخرج عن مثلت بثلاثة رؤوس: موقف إيديولوجي يتبنى مقولة الكيان الغاصب للحقوق الفلسطينية والذي يقف إلى جانب الفلسطينيين ضد كل اعتداء إسرائيلي. موقف عقائدي يعتبر بني إسرائيل عدوا للأمة الإسلامية ولا يمكن أن يُؤتمن ويجب محاربته، وكل تطبيع معه فيه خطر على الشعوب. موقف سياسي يقرأ الوضع الدولي على حقيقته، باعتبار دولة إسرائيل جزءا من المنتظم الدولي وكل الدول العربية تجلس معها على طاولة واحدة في الاجتماعات الدولية. كما أنها دولة تحظى برعاية أمريكا ودعم الدول المتقدمة. وإذا ساهم هذا الموقف السياسي في دعم وحدة البلاد الترابية، فسيكون موقفا يعوض المحاولات التي قام بها المغرب من أجل إبعاد الجزائر عن قضيته الوطنية حيث كان العاهل المغربي يمد يد الحوار والتعاون في كل خطاباته ويدعو النظام الجزائري إلى تشكيل لجان مختصة تنظر في كل القضايا الخلافية بين البلدين. وأكثر من ذلك، صرح العاهل المغربي في خطاب رسمي أن البلدين تحكمهما قيادة جديدة عليها أن تتخلص من إرث الماضي الذي لا تتحمل فيه لا القيادة الحالية في الجزائر، ولا القيادة الحالية في المغرب أي مسؤولية. لكن الجواب كان بمزيد من العداء الجزائري ضد المغرب، في مقابل مساندة إسرائيل لوحدة البلاد الترابية. إننا نعيش فعلا واقعا عربيا مقلوبا. قضية الوحدة الترابية للمملكة المغربية، والواقع العربي الذي لا يساعده في المضي قدما في مشاريعه التنموية، كلها عوامل جعلت المملكة المغربية تتبنى الموقف السياسي في علاقتها مع الكيان الإسرائيلي لحماية الدولة من جار عربي يدعم الفلسطينيين بالخطابات والاجتماعات، ويصرف ثروة الشعب الجزائري على سلاح موجه لقتل المغاربة ومعاكسة وحدة ترابهم ووطنهم وفتح الباب على التسابق نحو التسلح. جهود المملكة المغربية لإيجاد حل نهائي لصراعها مع الجارة الشرقية من أجل وحدتها الترابية، نجد فيه خدمة للشعب الجزائري كذلك. فطي ملف الوحدة الترابية للمغرب في المنتظم الدولي سيُمكِّن نظام الجزائر من الرضوخ للقرار الدولي وسيضع جنيرالات الجزائر أمام مسؤولياتهم بخصوص الاهتمام بتنمية البلاد وتحسين شروط عيش المواطن وإطلاق مشاريع من أجل مستقبل الشباب الجزائري، لأن وهم الصراع مع الجار الغربي سيكون قد استنفذ أغراضه. وسيُمكِّن كذلك المغرب من تسريع وتير مشاريعه التنموية لخدمة المواطن المغربي ومستقبل شباب الغد. اعتراف إسرائيل بسيادة المغرب على الصحراء، هو لبنة تصب في طريق إزالة حجر وضعه جنيرالات الجزائر في حذاء المغرب لكيلا يستطيع السير بالوتيرة التي يريد ولكي تبقى الجزائر في مأمن من سياسة الجنيرالات التي ترفض وجود جيران يتفوقون عليها. لكن حقيقة كيان إسرائيلي اغتصب الحق الفلسطيني لازالت قائمة، ومساندة الشعب الفلسطيني في أخذ حقه لا زالت مستمرة، ووضع حل نهائي لقضية الوحدة الترابية للمغرب يصب في اتجاه دعم الحق الفلسطيني.