جتم خطر فيروس كورونا على تفكير المواطنين المغاربة كنظرائهم في العالم بخصوص تداعياته وآثاره وسبل الوقاية منه وغاب عن نقاشاتهم ما خصصه المشرع لمثل هذا الوباء من مقتضيات مؤطرة لكل هذه الهواجس الحامية للصحة العمومية . بعد الاستقلال صدر مرسوم ملكي رقم 554.65 بتاريخ 26/6/1967 بمثابة قانون يتعلق بوجوب التصريح ببعض الأمراض واتخاذ تدابير وقائية للقضاء عليها ،فاوجب بمقتضى فصله الأول إجراء الحجز الصحي على المرضى المبلغ عنهم من طرف أصحاب المهن الطبية والشبه الطبية كما أوجب بمقتضى فصله الثالث على السلطة الطبية للإقليم أن تعمل على تطهير الأماكن المسكونة والأثاث المستعملة من طرف كل شخص مصاب بالأمراض المشار إليها في فصله الأول وإبادة الحشرات في الأماكن والأثاث المذكورة أما الفصل الرابع فقد أوجب الوضع الحتمي بالمستشفى لأي شخص مصاب بمرض خطير ومضر بالصحة العمومية وافرد الفصل السادس منه عقوبات حبسية ومالية للمخالفين لأحكامه . كما صدرت العديد من القرارات عن وزارة الصحة المحددة لكيفية تطبيق هذا المرسوم الأول تحت عدد 683.95 بتاريخ 31/03/1995 والذي تمم بمقتضى قرار وزير الصحة رقم 1715 .00 بتاريخ 30\11\2000 كما تمم بمقتضى قرار وزير الصحة رقم 1020.03 بتاريخ 23 ماي 2003 وتمم أيضا بمقتضى قرار وزيرة الصحة رقم 2380.09 بتاريخ 2009-9-7 . وهذا المرسوم والقرارات المحددة لكيفية تطبيقه تذكرنا على الأقل بأن التدابير التي فرضتها الحكومة المغربية حاليا ( العزلة الصحية وحالة الطوارئ الصحية) لها أصل من القانون ويؤطرها الفصل 40 من الدستور الذي يحمل الجميع التكاليف الناتجة عن الآفات والكوارث الطبيعية التي تصيب البلاد . وهذه التدابير عرفها المغرب لقرون ويكفي التذكير بما كان يسميه المغاربة القدامى "الكرنتينة " نسبة إلى الأربعين يوم التي تفرض كطوق صحي على المسافرين القادمين من أماكن الوباء اذ بحسب الامين البزاز في كتابه الأوبئة والمجاعات في المغرب خلال القرنين 18و 19 فإن أول من ذكر هذا التدبير الوقائي هو السفير المغربي ابن عثمان مؤلف "الاكسير" عندما وصل سبتة سنة 1779 فاصطدم بتدابير الحجز الصحي التي كانت تدوم أربعين يوما كاملة وزاد صاحب "الاكسير" واصفا ظروف الطوق الصحي ... ولهم في ذلك تشديد كثير حتى أن الذي يأتي إلى صاحب الكرنتينة بطعام يطرحه له عن بعد ويحمله الأخر ولا يتماسان وإن ورد عليهم بكتاب ذكروا أنهم يغمسونه في الخل بعد أن يقبضوه منه بقصبة ) وكان احمد منصور السعدي قد اوصى ولده ابا فارس عند ظهور الطاعون في عهده بمراكش ألا يقرأ البطائق الواردة عليه من سوس التي ظهر بها الوباء وإنما يتولى قراءتها كاتبه بعد أن تغمس في الخل وهو دأب المغاربة عندما ظهر وباء التيفونيد بمراكش عام 1878ثم الجدري الذي ظهر لأول مرة بالصويرة عام 1890 والذي تزامن مع حقبة جفاف حاد وانتشار الجراد وهي ذاتها الأوبئة التي انتشرت عام الجوع لسنة 1945 في مقدمتها التيفونيد والطاعون الجدري والسل والحصبة . وهذه التدابير لها أيضا أصل في الدين الإسلامي لقول الرسول صلى الله عليه وسلم أفر من المجدوم فرارك من الاسد كما نهى رسولنا صلى الله عليه وسلم أن يخرج الإنسان من بيئة موبوءة إلى بيئة سليمة فقد جاء في حديث رواه مسلم والبخاري ( فيما معناه) إذا وقع الطاعون بأرض وانتم فيها فلا تخرجوا منها فرارا وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليها . وفي نفس الإطار روي عن عمر بن الخطاب أنه عاد إلى المدينة راجعا من الشام عندما بلغه أنها موبوءة بالطاعون وعندما اعترض عليه أبو عبيدة قال ( اتفر من قدر الله؟فأجابه قائلا افر من قدر الله إلى قدر الله) وانتشار الطاعون والأوبئة كان يعطل العبادات الجماعية على رأسها الحج والصلاة في المسجد الحرام هذا الأخير الذي أغلق حوالي 40 مرة منطلقها حسب بعض الروايات كانت عام الفيل إثر هجوم ابرهة الحبشي على مكة بغرض هدم الكعبة مرورا بإغلاق البيت العتيد لمدة 10سنوات منذ 317 هجرية اثر سيطرة القرامطة عليه ( فرقة شيعية ) فأفتى آنذاك علماء المسلمين بعدم جواز الحج حماية للأنفس والأعراض وفي العصر الحديث عطلت الصلاة في المسجد الحرام لمدة أسبوعين حينما سيطر عليه جهيمان واتباعه خلال سنة .1979 ومعرض التذكير بهذه التدابير والأحداث التاريخية التي نشأت فيها والآثار التي خلفتها الغاية منه التذكير بأن الإجراءات المأمور بها من قبل السلطات العمومية اليوم اثر انتشار فيروس كورونا ليست وليدة اليوم بل لها أصول في ديننا وتاريخ بلدنا القديم وقوانيننا . غير أن التطور الذي عرفته البلاد على المستوى الديموغرافي والسياسي والقانوني ثم الاجتماعي والاقتصادي وحتى النفسي والفكري للمواطنين وحرياتهم حتم تدخلا تشريعيا آنيا وسريعا متمثلا في وجوب إعلان حالة الطوارئ الصحية بمقتضى مرسوم لمد السلطات العمومية بقدر واسع من الصلاحيات والضمانات القانونية لإصدار القرارات المطلوبة في هذه الحالة وتنفيذها . وفي الحقيقة هذا التدخل التشريعي كانت له أسباب نزول نوردها من منطلق أن المواطنين كانوا قديما وحتى بعد الاستقلال يعتمدون في قضاياهم المصيرية على قرارات الجماعة واعيان القبيلة والانضباط النفسي والاجتماعي الطوعي لهذه القرارات ،ولم تكن الحاجة انذاك إلى التنبيه ثم الزجر الذي أصبح مطلوبا من الدولة اليوم تنظيمه للحفاظ على المصلحة العليا للوطن والمواطنين كما أن المواطن وكسلوك عام آنذاك كان له تقدير فطري وانخراط ايجابي في الدفاع عن المصلحة العمومية ،ولذلك لم يكن المشرع خلال اصدار المرسوم الملكي رقم 554.65 بتاريخ 26/6/1967 بحاجة إلى إعلان حالة الطوارئ الصحية بمرسوم بحيث اكتفى بتبني الأعراف الوطنية المذكورة المتعلقة بالحجز الصحي وعززها بالوضع الحتمي بالمستشفى للمصابين بالأمراض المعدية وكلف السلطات القيام بواجب التصدي للأمراض المعدية والوبائية . أما اليوم فقد طالعتنا أخبار عن أشكال متنوعة من الامتناع عن الخضوع لإجراءات الطوارئ الصحية كالتظاهر في الشارع العام ( بعض المدن الشمال) ورشق ممثل السلطة بالحجارة والتشغيل السري لبعض الأنشطة الترفيهية ( مقاهي) وتعميم الإشاعة وبت الفزع في نفوس السكان والسخرية من نشاط وتدخلات بعض أفراد السلطات العمومية . هذه الصور لن أعلق عليها في هذه المداخلة غير أنني عرضتها للتذكير بنبل سلوك أجدادنا إزاء المصلحة العمومية والذي ختموه رحمة الله عليهم جميعا بالتضحية بأرواحهم دفاعا عن استقلال الوطن فتحقق الامان واستوت البلاد لمواطن اليوم الذي نذكره بمقولة رئيس الوزراء الايطالي جوزيبي كونتى خلال هذه الأيام الذي قال : "بعض الأجيال طلب منها التضحية بالذهاب للحرب أما جيلكم فطلب منه فقط البقاء في المنزل " الاستنتاج في هذا الباب لا يحتاج إلى مزيد من البيان غير أن المناسبة شرط لأن تنخرط الدولة مستقبلا في مناهج تربوية جديدة حول قيم المواطنة وسبل ترسيخها . لأعود لإبداء بعض الملاحظات مستهلا إياها من كون مشروع القانون الجديد الذي أعلنته الحكومة الأمس 22\03\2020 تحت رقم 2.20.292 المتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها لم يتضمن أي مقتضى صريح بنسخ المرسوم رقم 554.65 بمثابة قانون المتعلق بوجوب التصريح ببعض الأمراض واتخاذ تدابير وقائية للقضاء عليها وذلك حتى يواجه المشتغلون في الميدان بنصين مختلفين قابلين معا للتطبيق . وثانيهما إغفال نص المادة الثالثة منه تحديد شكل ضمان الدولة اضطراد الخدمات المعيشية للمواطن خلال فترة الطوارئ الصحية حال امتناع بعض المهنيين عن تزويد السوق بالمواد الغذائية والمواد الأساسية . وثالثهما أن المادة الرابعة منه وإن خصصت عقوبات للأشخاص الذين لا يتقيدون بالأوامر والقرارات الصادرة خلال فترة الطوارئ وكذلك أولئك الذين يعرقلونها . غير أنها لم تخصص عقوبات لتصرفات أخرى لا تقل أهمية عن الأولى وهي: * عدم التبليغ عن الأشخاص الذين ظهرت عليهم علامات الأمراض المعدية والخطيرة المدرجة ضمن لائحة الأمراض المعدية المحددة بقرار لوزير الصحة مع تمتيع الأقارب من الدرجة الأولى بالإعذار المخففة للعقوبة . * رفض الخضوع للفحص في حالة اشتباه شخص بمرض معدي ( واقعة حصلت بمدينة كلميم) * رفض الشخص المصاب بمرض معدي وخطير الخضوع للعلاج . * رفض المشرفين على تنفيذ تدابير الطوارئ القيام بواجبهم المهني . ورابع الملاحظات أن مساهمة الحكومة في مواجهة الآثار السلبية المترتبة عن إعلان حالة الطوارئ بخصوص الشق الاجتماعي والاقتصادي والمالي تم البيئي قد لا يكفي بشأنها مجرد اتخاذ إجراءات إدارية بل لابد أن يصدر بعضها بنص القانون تفاديا لاستحالة أو الامتناع عن تنفيذها . وأختم منوها بنص المادة السادسة التي أوقفت جميع الآجال المنصوص عليها في القوانين التشريعية ضمانا لأن لا تفوت على الإدارات والمواطنين على السواء الآجال الممنوحة لهم ( الطعون في الأحكام، والقرارات الإدارية، الجواب على الطلبات والرسائل تنفيذ الالتزامات ….) راجيا في الختام أن يغني جميع المهتمين موضوع هذه المداخلة بأراء واقتراحات أخرى حتى يساهم القانون من موقعه في محاربة الكورونا أو أي وباء آخر . الأستاذ نور الدين بن محمد العلمي /محام بهيئة أكادير