لو لم ينطلق مسلسل الحوار حول موضوع العلاقة بين اليسار والإسلاميين والمسألة الديمقراطية لما اغتيل، على الأرجح، الطالب الحسناوي رحمة الله عليه في هذا التوقيت بالضبط. لم يكد هذا الحوار أن ينطلق ويأخذ مساره حتى توج باغتيال طالب جامعي.... ياله من "تتويج" ذلك الذي ساهم فيه بعض القائمين على انطلاق هذا الحوار وكذا المتدخلين فيه خاصة اولئك الذين حاولوا نقله إلى الساحة الجامعية سواء بوعي منهم أو من دون وعي، سواء بحسن نية أو بنية مبيتة، سواء بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر... هنيئا لكل هؤلاء إذن بهذا المسلسل التراجيدي! إن استمر هذا المسلسل التراجيدي في حلقاته القادمة من دون أن يتحمل كل طرف مسؤولياته أمام الشعب المغربي وعائلات الضحايا، فسنكون في قادم الأيام أمام وضعية صعبة فيها سيكون لكل طائفة سياسية "شهيدها" به تتوسل في تدبير صراعاتها السياسوية أمام خصوم لها قدر أن يكون لهم شهداء في ما مضى من التاريخ. لا بل ربما كان لكل قبيلة "شهيدها" مستقبلا؛ فهذا غير مستبعد مادام الحزب هو القبيلة والقبيلة هي الحزب في البنيات الاجتماعية المميزة للمجتمعات المتأخرة تاريخيا، والتي نحن جزء منها. في البداية وقبل التفصيل في هذه النازلة المفجعة وكذا في سياقها المرتبط بالحوار بين اليسار والإسلاميين والديمقراطيين، لابد وأن نؤكد على رفضنا القاطع لتدبير الاختلاف في إطار الصراع السياسي، أيا كانت مستوياته، من خلال اللجوء إلى التصفيات الجسدية. وبناء على هذا فنحن ضد التصفيات الجسدية سواء الجديدة منها أو القديمة، وبهذه المناسبة الأليمة فإننا ندين كل من سولت له نفسه وضع حد لحياة شخص أخر لمجرد أنه اختلف معه سياسيا أو إيديولوجيا عكس ما ذهبت إليه بعض أطراف مسلسل الحوار اليساري الإسلامي التي أولت أهمية قصوى لمقتل الحسناوي، المنتمي لفصيل التجديد الطلابي المرتبط بحركة التوحيد والإصلاح وبحزب العدالة والتنمية، عكس ما فعلته من قبل لما تم اغتيال طلبة يساريين و أمازيغيين. نقصد هنا بكل صراحة موقف العديد من أعضاء وقادة العدالة والتنمية الذين لم يكونوا يعيرون أية أهمية لاغتيال مجموعة من الطلبة سابقا كما تراهم اليوم يفعلون مع الحسناوي رحمه الله. لا مجال في حالة الاغتيال للتمييز بين الضحايا بناء على هويات إيديولوجية... إن حصل ذلك، ويبدو أنه حصل من خلال ممارسات مسؤولين في الحزب الحاكم (الداودي الذي لا يولي أية أهمية لضحايا الاغتيال في الجامعة سابقا رأيناه يحج إلى الراشدية، رفقة رئيس الحكومة وعبد العالي حامي الدين، ثم يذرف الدموع لما تعلق الأمر بضحية من التجديد الطلابي، تنظيمهم الطلابي الموازي) فنحن إزاء مقدمات الطائفية السياسية... لا يمكن اعتبار السلوك الذي اتبعه الحزب الحاكم في هذه النازلة سلوكا منصفا لجميع المغاربة؛ فهذا الحزب، ورغم أنه في موقع المسؤولية، إلا أنه في هذه المناسبة الأليمة انحاز إلى جهة أتباعه ومريديه لما تصرف كطرف مباشر في هذا الصراع الدموي التاريخي المعقد والذي ينبغي على كل عضو في حكومة يفترض أنها تمثل جميع المغاربة أن يقف من هذا الصراع موقفا محايدا على أساس تطبيق القانون على الجميع وحماية أمن المواطنين أيا كانت توجهاتهم الفكرية والسياسية والثقافية والدينية. إن الحوار حول العلاقة بين اليسار والإسلاميين والمسألة الديمقراطية هو في صيغته وفي منطلقاته ليس سوى حوارا نخبويا بين أصدقاء لم تعد بينهم أية إشكالات إيديولوجية أو فكرية عميقة تجعل كل منهم محسوبا بشكل واضح على اليسار أو على الإسلاميين أو على الديمقراطيين. ثم، لماذا لم يكن في هذا الحوار أمازيغيون، حسانيون وحتى يهود مغاربة! فبحكم الدستور الجديد، هذا ما ينبغي أن يكون، وبدون هؤلاء جميعا لا يرقى هذا الحوار إلى مستوى القدرة على تناول المسألة الديمقراطية ببلادنا. على هذا الأساس يمكن القول إن لهذا الحوار خلفياته المشتركة بين مكونين منه: "جزء من اليسار" و"جزء من الإسلاميين" ممن لم تعد بينهم خلافات عميقة، كما أن لهذا الحوار أجنداته واستحقاقاته السياسية والتنظيمية المرحلية خاصة فيما يتعلق بمكونات وحساسيات من بعض الأحزاب التي تعيش مشاكل تنظيمية وديمقرطية جراء الوضع الانتقالي المفروض عليها واقعيا على الأقل منذ ما سمي "الربيع العربي" إقليميا و20 فبراير وطنيا. ما إن انعقدت المائدة الحوارية الثانية من هذا الحوار اليساري-الإسلامي يوم 06 أبريل 2014 حتى سارع أحد أطراف هذا الحوار "إسلاميي العدالة والتنمية" إلى محاولة نقله إلى ساحات الجامعة لغايات سوف نوضحها وقد تتوضح لاحقا بشكل أكثر. كيف ذلك? لا يمكن البتة لأي فصيل طلابي مستقل (الاستقلالية هنا تعني الانشغال بقضايا الجامعة أولا وأساسا) يعمل داخل الساحة الجامعية أن يقدم على تنظيم ندوة حول العلاقة بين اليسار والإسلاميين والمسألة الديمقراطية في هذه الأوقات إلا إذا توفر له شرطيين أساسيين على الأقل: أولا: لا بد أن يتأكد هذا التنظيم الطلابي من خلال توجيهات قادته الحزبيين حضور "جزء من اليسار" و"جزء من الإسلاميين" و"جزء من الديمقراطيين" ممن هم متحالفون في هذه المرحلة (ممن ليست بينهم خلافات عميقة)، وهذا شرط مسبق لنجاح أية ندوة سياسية تجري في الجامعة تحت غطاء "الندوة العلمية". فالندوة التي كان من المزمع تنظيمها ليست علمية كما قيل وسنرجع لاحقا إلى ما تعنيه الندوات العلمية في الجامعة. لذا يمكن اعتبار ما قيل بخصوص اغتيال الطالب الحسناوي كونه شهيد العلم فيه مجازفات وتجاوزات، بل قل تغليطا للرأي العام وتشويها للحقائق. فالندوة هي سياسية، تنظيما، وموضوعا وتأطيرا ولا علاقة لها بالعلم أو بالتحصيل العلمي؛ ولهذا بالضبط كانت سببا في الاقتتال الذي أودى بحياة هذا الطالب الجامعي. ثانيا: لا يمكن للوعي الطلابي المستقل عن توجيه الأحزاب مهما بلغ من النضج أن يلتقط كل الرهانات والمشاريع المطروحة في الساحة السياسية. بمعنى أدق لا يمكن لهذا الوعي الطلابي أن ينخرط في مسلسل الحوار بين اليسار والإسلاميين والمسألة الديمقراطية بمجرد ما انعقدت منه المائدة الحوارية الثانية؛ فانشغالات الطلبة شيء آخر غير انشغالات الطبقة السياسية الحزبية. إذن لا يمكن صدفة أن يتزامن إجراء حوار في العلاقة بين اليسار والإسلاميين والمسألة الديمقراطية بين نخب سياسية وفكرية لها أجنداتها في الساحة السياسية الوطنية وإجراء نفس الحوار في الساحة الجامعية بين طلبة ليست لهم نفس الأجندات والانشغالات والأهداف المطروحة في الساحة السياسية. إن هذا التزامن الذي أريد له أن يكون بين حوار يجري في الساحة السياسية ومثيل له في الساحة الجامعية هو بمثابة ولادة قيصرية لمولود مشوه لا يمكن أن يسفر إلا على ما أسفر عنه. ما جرى كان محاولة طرف من أطراف الحوار اليساري-الإسلامي (العدالة والتنمية في ارتباطها بمنظمي الندوة من فصيل التجديد الطلابي) نقل هذا الحوار من موقع كان يجري فيه بشكل نخبوي إلى موقع أخر يفترض أن فيه امتدادات شبابية وجب –في نظر هذا الحزب- تعبئتها وإقحامها في هذا الحوار لأهداف سياسوية لا علاقة لها بتطوير الجامعة والرقي بها كما قيل سابقا وسيقال لاحقا. إن إقحام هذا الحوار بشكل تعسفي إلى الجامعة من دون العمل الجماعي على تهيئة الظروف الملائمة لذلك كان ينطوي على مخاطر جمة بالنظر إلى عدم حل ذلك الإرث الدموي الموجود بين الفصائل الطلابية حلا منصفا، مجبرا للضرر وكاشفا للحقيقة في كل ماجرى، وهذا هو الأهم. فهل كان هؤلاء الذي حاولوا إقحام هذا الحوار على وعي بخطورة ما كانوا مقبلون عليه أم أنهم ورغم وعيهم بهذه المخاطر ما كان لهم أن يتريثوا لحسابات قديمة-جديدة ظلت تؤرقهم فقالوا عسى أن يحمل معه هذا الحوار الحلول السحرية لكل المشاكل القائمة في الساحة الجامعية غير المهيأة لحد الآن لمثل هذه الحوارات. من خلال ما تقدم يتضح أن إقحام هذا الحوار إلى الجامعة من طرف جزء من مكونات هذا الحوار كان يهدف إلى الاستقواء بالساحة الجامعية. وقد تبين إلى حدود الآن أن العدالة والتنمية، أحد أطراف هذا الحوار، ربما أراد أن يتوسل بهذا الحوار لخلق واقع جديد في الجامعة ليس من خلال معالجة عقلانية وموضوعية ووطنية لمخلفات الماضي-وهذا مطلوب بل إنه هو واجب وطني- بل من خلال القفز على الواقع كما هو في الجامعة لأغراض لا تخفى على أحد، ومنها تحديدا محاولات احتواء تفاعلات وتداعيات ما بات يشكل انزعاجا للسيد حامي الدين في ملابسات اغتيال الطالب القاعدي بنعيسى أيت الجيد رحمة الله عليه. فليس غريبا أن يكون من بين المدعويين لتأطير الندوة في كلية فاس إلى جانب حامي الدين من وقعوا سابقا على بيان لمساندة ودعم عبد العالي حامي الدين في مسألة اتهامه بالتورط في مقتل أيت الجيد بنعيسى. ألا يحيل هذا المؤشر –لوحده- إلى نوع من التحالف بين ما سميناه "جزء من اليسار" و"جزء من الإسلاميين" كانعكاس عملي لحاجات سياسية مشتركة بين هذين المكونيين والتي بدأت في الإفصاح عن نفسها بشكل لا غبار عنه. نحن لسنا ضد أي تقارب بين جزء من اليسار وجزء من الإسلاميين فيما بينهما، ولو كان ذلك التقارب نخبويا لا امتداد شعبي له، لكن ما نحن ضده أن تؤدي بعض الرغبات السياسية الجامحة في التقارب لأشخاص لا امتدادات شعبية لهم إلى أحداث مؤلمة يذهب ضحيتها أبناء الشعب الكادح سواء كانوا يساريين أو إسلاميين. إن أردنا أن نوجز كل ما تقدم لقلنا أن دماء مغدورة سالت في الجامعة المغربية بسبب من تكتيكات سياسوية مركزية لهذا الحزب أو ذاك. فالقائمون في الرباط على هذا النوع من الصراع السياسوي كانوا دائما لا يدخرون جهدا في سبيل استمالة –كل منهمم- فئات من الطلبة وتعبئتهم إيديولوجيا –وليس علميا ومعرفيا- لضمهم لاحقا إلى أحزابهم السياسية. إن هذا النوع من الاستقطاب بين مكونات الساحة الحزبية ومكونات الساحة الجامعية، بالإظافة إلى كونه يشكل إحدى مسببات الخواء الفكري والعمى الإيديولوجي اللذين يؤديان ببعض المتعصبين إلى ارتكاب جريمة القتل ظنا منهم أنهم يدافعون على الصالح العام، إظافة إلى هذا فإن هذا الاستقطاب بالشكل الذي يجري به يشكل إحدى عوائق التحصيل العلمي والمعرفي في الجامعة المغربية. التحصيل العلمي والمعرفي الرزين لا بد وأن يؤدي بصاحبه إلى التفكير بنوع من العقلانية، وهذا لا يتأتى في ظل الشحن الإيديولوجي الذي تمارسه الأحزاب في الجامعة. ليس الطلبة وحدهم من هم متعصبون لأفكار إيديولوجية جاهزة وبالية، بل حتى بعض الأساتذة الباحثين هم في هذا الركب سائرون. في نظري لا يمكن للبحث العلمي الأكاديمي أن يتوافق مع ما هو جاهز من الأفكار والإيديولوجيات. حينما تنظم ندوة في الجامعة أو في أية مؤسسة على أساس أن مؤطريها منتمون إلى حساسيات حزبية مختلفة، فإن آخر ما يحضر فيها هو العقلانية والموضوعية العلمية اللتين من المفترض أن يتسم بهما كل أستاذ باحث. لذا قلنا سابقا إنه ليست كل الندوات التي تقام في الجامعة اليوم هي ندوات علمية من حيث هي ندوات تناقش ما استجد من أعمال وبحوث أصيلة. فالكثير من هذه الندوات لا يناقش فيها سوى ما يناقش في الندوات التي تعرفها الساحة السياسية والتي يغلب فيها الطابع الإيديولوجي على الرزانة الفكرية والموضوعية العلمية. في مثل هذا الأجواء يتم تبسيط وتعميم الحقائق تحت يافطة البحث العلمي الذي يوظف هنا في غير أهدافه النبيلة والموضوعية؛ وهذا ما يؤلمني بشدة كأستاذ باحث. إن هذا النوع من التبسيط والتعميم ينم عن وجود خلل بنيوي داخل الجامعة المغربية تتمفصل فيه شبكة من العلاقات الحزبية والولاءات القبلية والمصالح الشخصية التي لا تعمل سوى على الإساءة للجامعة وللأساتذة الباحثين فيها. وهذا ما يرهن الجامعة ويشل من قدرتها على القيام بالأدوار التاريخية والمجتمعية المنوطة بها والمتمثلة أساسا في إنتاج المعرفة ونشرها في سياق مسلسل شاق وطويل من التحصيل العلمي وفي تفاعل واضح وجدي بين الطلبة والأساتذة الباحثين. والهدف من كل هذا أساسا هو الرقي بالمجتمع وتنميته في أفق الانتقال به إلى مستوى من الحداثة والعقلانية الذي لا وجود فيه للتداخل بين مجال البحث العلمي ومجال الصراع السياسي. للأسف هذا ما هو موجود اليوم في الجامعة المغربية، وهو ما يشكل مؤشرا على تأخرنا، جامعة، مجتمعا ودولة. ختاما يالها من مصادفة تاريخية مؤلمة: جريمة ثانية تعود بعد حوالي أكثر من عشرين سنة إلى مسرح الجريمة الأولى، ظهر المهراز، وبعض الأسماء كانت ولا زالت تثار في الجريمتين معا. إن التاريخ لا يمكن مواجهته بحسابات ظرفية تكتيكية، فهو أكبر من أن يؤطر في هذه القوالب السياسوية، إنه قادر على إعادة كل من لا يواجهه بشجاعة وتأن وحكمة ونكران ذات إلى المربع الأول. فما أصعب الرجوع إلى المربع الأول... إنه الفشل الذريع والمخزي الذي لا نريده لأي كان، فعسى أن يتحكم العقل والحكمة بعد ما جرى لفتح تحقيق عميق، موضوعي، غير ظرفي بأهداف تصالحية ووطنية (كما أشارت إلى ذلك العظيمة والدة الحسناوي التي بحسها الإنساني الرفيع نأت بنفسها عن هذه الاستقطابات السياسوية) تتوخى تجاوز الآم الماضي وتعقيداته النفسية والسياسية من أجل ربح المستقبل الوطني المشترك بشكل جماعي، وإلا فإن الفتنة أشد من القتل.