استجابة لنداء الواجب الوطني, وكما كان منتظرا شارك المغاربة بكثافة في الاستحقاق الدستوري ليوم فاتح يوليوز, حيث عبرت الغالبية العظمى منهم عن تأييدها لمشروع الدستور الجديد, الرائد والمتقدم, وذلك بنسبة 49ر98 في المائة, على مستوى 94 في المائة من مكاتب التصويت. وكما جرت العادة, أثبت الشعب المغربي, مرة أخرى, حسه الوطني الراقي وعزمه الراسخ على المضي قدما في تدعيم الإصلاحات التي اختارتها المملكة سبيلا استراتيجيا لا محيد عنه. وهكذا, بلغ عدد المصوتين الذين توجهوا الى صناديق الاقتراع 9228020, أي بنسبة مشاركة بلغت 65ر72 في المائة, في حين بلغ عدد الأصوات الملغاة 76917 صوتا, بنسبة 83ر0 في المائة. وتم إحداث 39 ألف و969 مكتب تصويت داخل أرض الوطن لتلقي أصوات الناخبين, تطلبت تعبئة 320 ألف شخص من رؤساء وأعضاء رسميين واحتياطيين لتدبير عملية التصويت. كما تم إحداث 520 مكتبا للتصويت بسفارات وقنصليات المملكة بالخارج لتمكين الجالية المغربية المقيمة خارج أرض الوطن من المشاركة في الاستفتاء. وبتصويت غالبية المغاربة لصالح الدستور يكون المغرب قد دشن مرحلة جديدة في مسار تعزيز نموذجه الديمقراطي التنموي, إذ أن النص الجديد يكرس الدعائم الأساسية للهوية المغربية ويعزز نظام الحكم المتمثل في الملكية الدستورية الديمقراطية, البرلمانية, والاجتماعية. ويتفرد الدستور الجديد بكونه أول نص في تاريخ المغرب تتم صياغته من قبل مغاربة ولأجل المغاربة, وهي الميزة التي أبرزها جلالة الملك محمد السادس في خطابه التاريخي ليوم 17 يونيو الجاري, حيث قال جلالته "حرصنا, ولأول مرة في تاريخ بلادنا, على أن يكون الدستور من صنع المغاربة, ولأجل جميع المغاربة". ويضع الدستور الجديد الذي تم التصويت عليه, والذي يضم 14 بابا و180 فصلا, المغرب في مصاف الدول المتقدمة, من حيث تنصيصه على الأسس التقليدية للسلط وصلاحياتها, والتي تقوم على ثلاثة دعائم تتعلق بالحقوق والحريات الأساسية والحكامة الجيدة والجهوية الموسعة. كما حرص الدستور الجديد على إقرار الأمازيغية كلغة رسمية والفصل المتوازن بين السلط والمؤسسات وتكريس الحريات الجماعية والفردية وحقوق الإنسان بصفة عامة كما هي متعارف عليها عالميا وكرس الدستور الجديد كافة حقوق الإنسان, بما فيها قرينة البراءة, وضمان شروط المحاكمة العادلة, وتجريم التعذيب, والاختفاء القسري, والاعتقال التعسفي, وكل أشكال التمييز والممارسات المهينة للكرامة الإنسانية, وكذا ضمان حرية التعبير والرأي, والحق في الولوج إلى المعلومات, وحق تقديم العرائض, وفق ضوابط يحددها قانون تنظيمي. ومن المكتسبات التي جاء بها الدستور الجديد تنصيصه على مقتضيات جد متقدمة كفيلة بإرساء دعائم منظومة إعلامية حديثة ومنفتحة, إذ نص على حرية الفكر والرأي والتعبير, والحق في الحصول على المعلومة, وضمان حرية الصحافة, وإقرار ضرورة احترام وسائل الإعلام للتعددية بمختلف مظاهرها, إلى جانب تشجيع تنظيم القطاع بكيفية مستقلة وعلى أسس ديمقراطية. كما ينص الدستور على فصل مرن ومتوازن للسلط, حيث يكرس النص الجديد مبدأ انبثاق الحكومة من برلمان منتخب وتخويل رئيسها سلطة تنفيذية فعلية, ويجعل من البرلمان مؤسسة قوية ذات صلاحيات واسعة تشمل ممارسة السلطة التشريعية والتصويت على القوانين, ومراقبة الحكومة وتقييم السياسات العامة. وفي هذا السياق, وتكريسا للمسؤولية الكاملة لرئيس الحكومة على أعضائها, فإن الدستور يخوله صلاحية قيادة وتنسيق العمل الحكومي, والإشراف على الإدارة العمومية, حيث تم تخويله صلاحية التعيين, بمرسوم, في المناصب المدنية, وفقا لقانون تنظيمي, يحدد مبادئ وتكافؤ الفرص بالنسبة لكافة المغاربة في ولوج الوظائف العمومية, على أساس الاستحقاق والشفافية, وضوابط دقيقة. ومن بين نقط القوة في الدستور الجديد الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة, لتكون في خدمة الحماية الفعلية للحقوق وضمان احترام القوانين, حيث أصبح المجلس الأعلى للسلطة القضائية, حجر الزاوية في هذه السلطة, يسهر خاصة على احترام الضمانات الممنوحة لرجال القضاء. كما تشكل دسترة الجهوية المتقدمة, إحدى المستجدات الكبرى التي جاء بها الدستور, فموازاة مع إعادة تنظيم السلط بين المؤسسات الدستورية, يفتح النص الجديد السبيل نحو إعادة تنظيم ديمقراطي للاختصاصات بين الدولة والجهات. ومما لاشك فيه أن الدستور الجديد الذي صوت لصالحه الشعب المغربي في استحقاق اليوم, يمكن البلد من أداة قوية من شأنها المساعدة على ربح رهانات وتحديات الدمقرطة والتنمية السوسيو اقتصادية. وسيظل المغاربة الذين استوعبوا هذا المغزى بعمق, مجندين لإنجاح كافة المراحل الحاسمة في مسلسل الإصلاح الذي انخرطت فيه المملكة بإرادة ثابتة وعزم لا يلين.