لو أنك قمتَ بجرد سريع لبعض المنشآت الاقتصادية، والمنجزات الصناعية في أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين في أوربّا، لألفيتَ بسهولة ويسر، أن عائلات ميسورة كانت وراء هذه النّجاحات الصناعية الخالدة، وليس الدولة.. لقد بدأتْ هذه المشاريع التاريخية كطفل رضيع، ثم نمت، حتى وصلت إلى مستوى العملقة، وسوف نذكر بعضا منها، مما يعرفه المواطن البسيط، من خلال رموز وعلامات هذه المصانع، التي اكتسحت منتوجاتُها العالم بأسره، حتى صارت علامات تدلِّل على عظمة الدولة، ورقي المجتمع وتطوُّره، دونما الحاجة إلى دعاية في مجال الطبخ أو الرقص، أو غيره ممّا تعتمده الدول المتخلّفة، لتعبِّر عن وجودها، وتخبِر الناس بحضارتها البائدة.. في إيطاليا مثلا، وفي أواخر القرن التاسع عشر، كانت أسرة "أنيِيلِّلي" وراء بناء مصنع سيارة "فياط" الشهيرة.. في فرنسا، وفي نفس الفترة، كان رجل ذكي اسمه "آرمان بيجو"، قد أسس مصنعا لصناعة المنشار، واختار له كرمز صورة الأسد، لحدة أسنانه، وسرعته، ليرمز بذلك إلى جودة مناشيره.. وبعد وقت قصير، دخل ميدانَ صناعة السيارات، ومن منّا لا يعرف سيارة "بيجو"، برمز الأسد، مع رقم ثلاثي يتوسطه دائما الصفر.. مات "أرمان" وخلفه ابنه "روني"، ثم جاء بعده "بيير" وهو صاحب "البوجو 203"، وبها دشّن بدايته في أواخر الخمسينيات.. ثم من؟ "هانري سيتروين"؛ دخل الميدان سنة 1920، وكان رمزه غصن البِرسيم، ثم نتف كل أوراق الغصن، وترك ورقتين، وهما رمز "سيتروين" المعروف إلى اليوم، وكلّنا نعرف قصة سيارته الاقتصادية: "دوشوڤو" الشهيرة.. ثم ماذا؟ في ألمانيا، أسرة "كوانطس"، نجت من حملة متابعة المتعاونين مع النازية، وفتحت مصنعا جعلها في مأمن من تاريخها الأسود، لأنها بدأت تساهم في مجد ألمانيا الصناعي، بحيث بدأ المصنع ينتج سيارة "بي إيم دوبل ڤي" المعروفة، والمطلوبة كثيرا في الأسواق.. والآن، دعنا من أوربّا، لأنّه سوف يطول بنا المقام هناك والحديث، إذا تطرقنا إلى "لوي رونو"، و"جان بول بيرلي" في فرنسا؛ والسيد "إينزو فيرّاري" في إيطاليا، صاحب السيارة الشهيرة، التي تحمل اسمه؛ سيارة الأمجاد في مضمار السبق؛ ولكن سوف نقفز إلى اليابان، لنتحدث عن رجل كان يصلح الدراجات النارية فقط، فإذا بنا نرى سيارته مشهورة في العالم بأسره؛ إنه السيد "هوندا"، فمَن منا لا يعرفه عبر سياراته التي غزت العالم، ونافست أشهر الماركات العالمية !؟ قد يسألني القارئ الكريم : وماذا تريد قوله بهذا الجرد الخاطف والقصير؟ وأنا سأرد على السؤال بسؤال آخر يتضمن جوابه فيه : هل سمعتَ يوما أسرة عربية، أو ثريا عربيا خطر له أن يدخل ميدان صناعة السيارات، وسمّى سيارته مثلا : "الجزيرة"، أو "زاگورة"، أو "النيل"، أو "القدس"، كما يفعل اليابانيون، حيث يسمّون سياراتهم، بأسماء مدنهم، ك"طيوطا" مثلا؟ أبدًا؛ لم، ولن يحدث ! صحيح، تجد استثمارات العرب في الكازينوهات، ودور الدعارة، وفي مجال قنوات فضائية للغناء وللإخلال بالحياء، إلى جانب المقاهي، والصاونات، والفنادق، والعقارات، مع شراء التفاهات في المزادات.. أما إذا كان العربي الثري متديِّنا، فإنه يفتح المجال لصناعة المتفجّرات، ومناداة "المجاهدين" باسم الدين، ليفجِّروا أنفسهم، أو ليقتلوا غيرهم غدرا ليسيئوا بذلك للإسلام، وليصعِّبوا حياة المسلمين في كل أرجاء العالم.. فالإبداعات موجودة، والكفاءات متوفّرة في بلادنا، ولكنّ المال للأسف الشديد، سقط في أيدي السفهاء، والجهلة والفسقة.. فعائلة "بوجو"، لم تكن تملك في البداية، ما يملكه ثري عربي من أثرياء النفط، والغاز.. وأما الدول وثرواتها، فأنت تعرف ما فعله مثلا مبارك وأسرته، وبنعلي وزوجته، والقذافي وأبناؤه بخيرات الأمة.. إذن من أين لنا بالتقدم؟ محمد فارس