"إلى روح الفقيد: الدكتور الناصري بناني محمد" أطباء المستقبل، هم صفوة من الشباب المغاربة، المعول عليهم في حمل مشعل إسعاف المرضى وإسعادهم باقتدار ومسؤولية، حصلوا على شهادة البكالوريا في شعب علمية بمعدلات عالية، واجتازوا بنجاح مباريات ولوج كليات الطب والصيدلة وطب الأسنان. وهم أيضا فئة من الأشخاص المتميزين، الحريصين على مواصلة دراستهم وتداريبهم الميدانية باهتمام بالغ، ولهم من النضج ما يؤهلهم لحسن تحديد اختياراتهم والدفاع عن حقوقهم، وليسوا في حاجة إلى أوصياء كما يعتقد وزير الصحة السيد: الحسين الوردي. ففي سابقة تعد هي الأولى من نوعها، في سجل الحكومات المغربية المتعاقبة على تدبير الشأن العام، وبعد استنفاذه لكل الحيل الممكنة، من أجل إنهاء مسلسل الإضرابات، الذي يهدد بسنة دراسية بيضاء، ويشل خدمات المستشفيات الجامعية باستثناء مصالح المستعجلات وأقسام الإنعاش، لم يجد سيادته من وسيلة ضغط على "المشاغبين" عدا اللجوء إلى الأمهات والآباء، في محاولة يائسة لاستدرار عطفهم. وهكذا أصدرت كل من وزارتي الصحة والتعليم العالي، تعليمات لعمداء كليات الطب ومدراء مراكز الاستشفاء، بعقد لقاءات تواصلية مع أولياء أمور الطلبة والأطباء المقيمين والداخليين، بغرض إجراء حوار جاد، يفضي إلى اقتراح مبادرات إيجابية وإيجاد مخارج توافقية، لاحتواء التوتر القائم والعودة إلى مقاعد الدراسة وأماكن التداريب الميدانية. إلا أن نتائج اللقاءات، جاءت معاكسة لمبتغى الرجل "الأمين" على صحة المواطنين. حيث أن الأمهات والآباء، وبعد استماعهم للطروحات الرسمية، ورغم إحساسهم بالقلق، لم يتأخروا في الإعراب عن استنكارهم الشديد لما بدا لهم استخفافا بعقول بناتهم وأبنائهم، وتحويلهم إلى مجرد "تلاميذ" قاصرين، في حين أنهم أعقل من بعض المسؤولين أنفسهم، مما جعلهم يعلنون عن تضامنهم المطلق معهم، ودعمهم اللامشروط لحركتهم الاحتجاجية في إسقاط مشروع "الخدمة الصحية الإجبارية" والدفاع عن ملفهم المطلبي... وإذا كان البروفيسور الوردي، بمساندة الجيش الإلكتروني التابع لحزب بنكيران "العدالة والتنمية"، قد اعتبروا إقدام الأطباء والطلبة على بيع المناديل الورقية، كإحدى الصيغ النضالية في التعبير عن معاناتهم ورفض القرارات التعسفية، يعد بمثابة إهانة للفقراء الباحثين على موارد عيش بسيطة ولمهنة الطب ذاتها، فلا نعتقد أن هناك إساءة أفظع من تلك التي اعتمدها سيادته في البحث عن الحل خارج إرادتهم، باللجوء إلى أوليائهم. حيث لم يتبق له عدا إضافة بند إلى مشروعه، يقضي بمرافقة أحد الأبوين ل"المجند" خلال فترة الخدمة. ذلك أنه بعد إخفاقه السابق في منع موظفي الصحة العمومية من العمل في القطاع الخاص، عاد هذه المرة بعزيمة أكبر، معلنا عن نيته في عرض مسودة مشروع قانون "الخدمة الصحية الإجبارية"، على مجلس الحكومة للمصادقة عليه، دون إشراك المعنيين بالأمر من أطباء وطلبة وممثليهم في التنسيقيات الوطنية والنقابات. ويهدف المشروع إلى إلزام الأطباء الجدد بالعمل سنتين في المناطق النائية، كما سيعمل حسب رأيه على توفير حوالي 8400 منصب شغل سنويا، بين أطباء وصيادلة وممرضين، ويرى فيه قرارا نهائيا، مادام سيسهل عملية ولوج الفئات الأكثر عوزا وهشاشة إلى الخدمات الصحية. فكانت تلكم الشرارة الأولى لاندلاع الحرائق عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ثم انطلاق المسيرات والمظاهرات المنددة بالمشروع، من كليات الطب والصيدلة والمستشفيات الجامعية، بمدن : الدارالبيضاء، الرباط، مراكشوجدة، انخرط فيها بقوة آلاف الطلبة والأطباء... والإضراب المفتوح هذا، لم يأت من فراغ أو جراء مزايدات سياسوية، بل هو نضال مشروع لانتزاع حقوق مهضومة، ورد فعل طبيعي على تعنت الوزير، بعد سلسلة حوارات حضرتها نقابات الأطباء وممثلو الطلبة، واتضح أنها مجرد لقاءات مغشوشة ومناورات مكشوفة، لامتصاص الغضب ومحاولة تنويم المعنيين إلى حين بلوغه المقصود. فما معنى مطالبة من اعتبرهم قاصرين باقتراح ما يرونه بديلا لمشروعه؟ أليس إبداء استعداده الكامل لتمزيقه، إقرارا ضمنيا بعدم اقتناعه به؟ ومتى كان من مهام الطلبة والأطباء المقيمين والداخليين، البحث عما ينقذ سعادة الوزير من ورطاته؟ فإصرار الطلبة والأطباء على مواصلة معركتهم المصيرية، ليس بغرض تصفية حسابات ضيقة معه، لاسيما بعدما اتهمهم بترويج الأكاذيب والافتراءات، ولا ينحصر في ما يمكن اعتباره النقطة التي أفاضت الكأس: مسودة مشروع قانون "الخدمة الصحية الإجبارية"، وإنما يعكس مدى رغبتهم في تأمين مستقبلهم وتعزيز مكتسباتهم. ويؤكدون على أن رفضهم لها، غير مرتبط بمخالفتها مقتضيات الدستور والمواثيق الدولية، التي تجعل من الشغل حقا واختيارا للمواطن وحده، ولا يعني تملصهم من خدمة الصالح العام في العمل بالأرياف، ولكنهم يرفضون استغلالهم في تغطية ما فشلت الدولة في توفيره من مناصب شغل حقيقية، ويخشون من إلحاقهم بقوافل المعطلين فور انصرام مدة الخدمة الإجبارية، في غياب ضمانات حقيقية للإدماج في الوظيفة العمومية. ثم ما سر استثناء طلبة كليات الطب الخاصة؟ هذا، فضلا عن تمسكهم الشديد بتحقيق مطالبهم المشروعة، ومنها: تحسين أساليب وجودة التكوين، تجهيز المستشفيات الجامعية بوجه خاص وتوفير الأمن، معادلة الدكتوراة في الطب بجعلها دكتوراة وطنية، الرفع من المنحة بدل الإبقاء على 110 درهم كتعويض عن الخدمات، إعادة النظر في منظومة أجور الأطباء، الزيادة في عدد المناصب المتبارى عليها عند الإعلان عن توظيف الأطباء، وتلك المخصصة للأطباء المقيمين والداخليين مع تحديد موعد سنوي قار لها، عدم الترخيص بإحداث كليات الطب الخاصة، احترام وتقدير الأطباء وعدم التمادي في شيطنتهم وتأليب رأي المواطنين ضدهم... فمما لا ريب فيه، أن مشروع وزير الصحة يندرج في إطار المخططات التقشفية، التي مافتئت الحكومة تنهجها على حساب الطلبة والموظفين والطبقات المقهورة والمتوسطة، ويأتي متناغما مع قرار وزير التعليم العالي السيد لحسن الداودي، حين تعهده بالتعاقد مع طلبة سلك الدكتوراة، بمقابل مادي قدره 5000 درهم شهريا، لمدة ثلاث سنوات دون إمكانية الإدماج، بدل توظيف أساتذة جامعيين جدد، ومع مشروع قانون التعاقد في الوظيفة العمومية المعلن عنه من قبل الوزير السيد محمد مبدع، دون إغفال المرسوم الحكومي لإلغاء التوظيف المباشر، حتى بالنسبة لخريجي معاهد تكوين أطر التربية والتعليم... مشروع "الخدمة الصحية الإجبارية"، نموذج آخر للتخبط والارتجال، والادعاء بأنه يرمي إلى استفادة المعوزين بالأرياف من التطبيب، مجرد خدعة مفضوحة لدر الرماد في العيون، ودليل قاطع على إخفاق الحكومة في معالجة ملف التشغيل، وسيرها الحثيث نحو خوصصة القطاع العام، بدءا بتشجيع الاستثمار في المجال الصحي لغير الأطباء، ثم السماح للممرضين خريجي القطاع الخاص باجتياز مباريات التوظيف في القطاع العام، مرورا بالترخيص بفتح كليات الطب الخاصة، وصولا لهذا المشروع المشؤوم. ألم يقل بنكيران يوما: "حان الوقت لرفع الدولة يدها عن التعليم والصحة"؟ وبدورنا نقول له: " آن الأوان للاعتراف بفشلكم الذريع والاعتذار لهذا الشعب الأبي، فالاعتذار من شيم الكبار"