تتحقق غايات و فلسفة حقوق الإنسان في خضم تمثلنا لثنائية الحق و الواجب ثقافتا و سلوكا سواءا في تجلياتها المجتمعية أو سياساتنا القطرية ، فالمناشدة بوجوب دولة الحق و القانون لا يستقيم إلا بنضج ثقافتنا ووعينا لتلك الثنائيات و تمثلنا لها فكرا و ممارسة . يأتي هنا مبدأ المساواة كأحد المبادئ السامية التي دبجت في مواثيق صك الحقوق و الدساتير الوطنية لعديد البلدان لكن تنزيل هذا المبدأ ولو نسبيا يختلف و يصطدم بتباين المقومات المرتبطة أساسا بالإرادة السياسية و مدى نضج فعاليات المجتمع و ثقافته في بعدها الشامل. من هنا شكلت القضية النسائية و الاعتراف بحقوق المرأة احد أبرز الاختبارات الحقوقية الحاسمة للمغرب في العشرية الأخيرة ، فمؤشرات الاعتراف بحقوق المرأة و تحصين وضعها الاعتباري و المادي و الاجتماعي و الدفع بها نحو البروز في الفضاء العمومي و تحمل المسؤولية كانت واضحة لاسيما بتبني خطوات و إجراءات ملموسة ساهمت في ما تحتله المرأة المغربية ألان من مكانة و حظوة , فأجراة خطة وطنية لإدماج المرأة في التنمية و ما واكبها من نقاشات فقهية و سياسية و اقصائية في أحايين أخرى كان محفزا على إنضاج و بروز حركة نسائية نشطة ساهمت بمعية الإرادة السامية لصاحب الجلالة و الفر قاء الحكوميين في وضع آلية تؤمن للمرأة خوض تجربة الحياة السياسية و النيابية و المرافعة الجريئة المسئولة تجاه قضايا المجتمع . صاحب هذه المنجزات إجراءات قانونية متقدمة كمدونة الأسرة التي تضمنت نصوص متقدمة راعت في مجملها تطور المجتمع المغربي و سدا للثغرات التي عرفتها مدونة الأحوال الشخصية سابقا بالإضافة إلى رفع كافة التحفظات عن اتفاقية "سيداو" و ما اكب هذا المنجز الغير مسبوق في العالم العربي من إجراءات استفادة أبناء المغربيات من أباء أجانب من حمل للجنسية المغربية ، واكب هذا المسار فتح نقاش عمومي يساءل قضايا إدماج المرأة وجعلها عنصرا هاما و محوريا في التنمية السياسية و ترسيخ ثقافة الاعتراف بإسهاماتها في جميع الميادين دوليا ووطنيا بل وحتى محليا عبر انخراط ومشاركة المرأة بشكل ريادي في التدبير المحلي و تسيير هياكله التمثيلية و الجمعوية . و لتثمين مسلسل مشاركة المرأة في مراكز القرار و تسيير الشأن العام كان لزاما تنزيل آليات دائمة تشتغل خارج المواعيد الانتخابية و تهتم أساسا بتقوية التمثيلية النسائية و هو ماجسده بالفعل إحداث صندوق الدعم لتشييع تمثيلية النساء و الموجه لتقوية قدرات النساء التمثيلية بمناسبة الانتخابات العامة الجماعية و التشريعية و دعم كل المبادرات المحلية من أيام دراسية و ندوات لبلوغ الهدف حيث احدث هذا الصندوق لأول مرة سنة 2009 وتم تطويره بمرسوم سنة 2013 و ذلك لتقوية مهام اللجنة المشرفة و تنزيل امثل و دعم ذكي على مستوى العمالات والوحدات الترابية بهدف القرب و تحقيق الأهداف و المرامي المسطرة ، بالموازاة مع هذا الإجراء الحكومي عقدت أول مناظرة وطنية حول المناصفة و عدم التمييز من طرف المجلس الوطني لحقوق الإنسان مواصلا للعمل المسئول الذي قام به في هذا المجال فكانت الدعوة لهذه المناظرة بشراكة مع وكالة الأممالمتحدة للمرأة يومي 21/22 يونيو 2012 و التي جمعت ثلة من الخبراء و علماء اجتماع و فعاليات حقوقية نسائية ، تلخصت إشغالها عموما في ثلاث جلسات عامة ناقشت " التمييز على أساس النوع بالمغرب – تحليل السياسات من منظور حقوق الإنسان – وأخيرا هيئة المناصفة و محاربة كافة أشكال التمييز أي سياسات عمومية ". كما لايفوتنا التأكيد على أن تلك الإرادة و الرغبة في تبؤ المرأة مكانة مهمة في النسيج العام للدولة يجب بلورتها عمليا بتمييز ايجابي ملموس وإجرائي في القوانين الانتخابية الجديدة و القوانين المنظمة للجهات و االعمالات و الأقاليم و الجماعات الحضرية و القروية و في تنزيل واضح و جلي لمقتضيات الفصل 19 من الدستور و فهم حكيم و استثمار امثل لكل الطاقات و الكفاءات و الخبرات المتاحة في طرفي المجتمع ، و تنزيلا لمضامين الفصل الدستوري المذكور شكل مشروع قانون إحداث هيئة المناصفة و مكافحة كل أشكال التمييز تعزيزا قانونيا و مؤسساتيا في هذا الاتجاه ، إذ أحالت الحكومة في أواخر يوليوز الماضي المشروع على مجلس النواب ، فبالرغم من النقاش الذي واكب هذا المشروع خصوصا في مدى استقلاليتها عن الحكومة فهي تعتبر مبادرة مؤسسية في سياق أجرأة المناصفة و المساواة ، وهي كما بين المشروع مؤسسة وطنية مستقلة تتمتع بالشخصية الاعتبارية و الاستقلال المالي و تندرج اختصاصاتها أساسا في إبداء الرأي بمبادرة منها أو بطلب من الحكومة أو احد مجلسي البرلمان كإبداء الرأي في مشاريع ومقترحات القوانين و مشاريع النصوص التنظيمية و تقديم اقتراحات و توصيات للحكومة و البرلمان ، وتتألف هذه الهيئة من رئيس يعين بظهير و تمثيلية تضم أعضاء من الحكومة و البرلمان بالإضافة إلى خبراء و فاعلين في الحقل المدني و هي تركيبة مختلطة استدعتها ضرورة تحقيق الأهداف و المرامي المسطرة سلفا للهيئة . وعلى العموم يعد هذا الحراك المجتمعي المدعوم بإرادة الدولة و دعمها لهذا المسلسل أمرا غاية في الأهمية لكونه سيساهم لا محالة في بروز المرأة و استفادة المجتمع من أدوارها و إسهاماتها و قيمتها المضافة بالرغم من أننا لم نصل بعد إلى الأهداف و المرامي المنشودة لكن يبقى وصول المغرب دولة و مجتمع لهذا المستوى هو تعبير امثل عن نضج ووعي في نضرتنا للمرأة وفي ثقافتنا السياسية و تمثلنا لدولة الحق و القانون .