الحِداد على امرأة الحدَّاد : فجر عالم المقاصد الدكتور أحمد الريسوني نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ضجة في مقالة على صفحته الرسمية بعنوان " الحِداد على امرأة الحدَّاد " في إشارة إلى الكاتب والمناضل التونسي الطاهر حداد الذي صدر له سنة 1930 كتابا بعنوان " امرأتنا في الشريعة والمجتمع " .. ورغم تأثر الكاتب الملحوظ بنموذج المرأة الأوربية ، ومحاولة إسقاط واقعها على واقع المرأة التونسية ، فإن كتابه المذكور كان قاسيا في لغته .. ومن هول الصدمة استيقظ الفكر العربي الإسلامي ، في القرن الماضي ، على توصيف صادم ، كقوله ( في ص117 ) : " ما أشبه ما تضع المرأةُ من النقاب على وجهها منعا للفجور، بما يوضع من الكمَّامة على فم الكلاب كي لا تعض المارين ... " ( نقلا عن مقالة الدكتور أحمد الريسوني ) بعد هذه الضجة التي أحدثها الطاهر حداد ، صدر للشيخ التونسي محمد الصالح بن مراد ردا عنيفا بعنوان " الحِداد على امرأة الحَدَّاد " سنة 1931 ، تميز بهجوم كاسح على مقاصد الطاهر مما جعل تونسة المرأة تقف أمام صدام حضاري بين امرأة الطاهر حَدَّاد وامرأة الصالح بن مراد .. لكن السؤال المركزي الذي مهد به الريسوني الطريق للسير بنا نحو باحة الأحزان جاء على صيغة عنوان الكتاب المذكور ، لماذا الحِداد على امرأة الحَدَّاد ؟ .. عن هذا السؤال يجيبنا الريسوني ، قائلا " وأما غرضي أنا من اختيار هذا العنوان نفسه عنوانا لمقالتي ، فهو القول بأننا نحتاج حقيقةً إلى الحِداد على امرأة الحَدّاد .. " ، الحِداد هنا واضح ، ومعناه المخافة على أفول امرأة الحَدَّاد ، وبن عاشور ، وعلال الفاسي ، والحجوي ، وكذلك حريم الريسوني .. بمعنى آخر هو حزن يتسم بالريسنة على راهن المرأة العربية والمسلمة ، وتشوه واقعها المؤلم الذي يستوجب الدخول في حالة حداد .. فشخصنة الحِداد هنا واضحة ، ففي الوقت الذي كنا ننتظر الجواب على السؤال المركزي باتجاه المرأة العربية والمسلمة بشكل عام ، نجد وضع المرأة يتحول نحو ريسنة تتغذى من مرجعية فكرية تعادي تطور العصر ومتطلبات الحداثة .. هنا تكمن متاهة السؤال الفلسفي الذي يختزل في أجوبته قناعات فردية لا تمثل إلا جزء من إشكالية الفكر العربي والإسلامي ، وشطرا من تجليات المشروع النهضوي الذي قامت على صدره خصوصيات راهن المرأة العربية والإسلامية . وتلك هي مأساة أسئلة الواقع العربي والإسلامي منذ القرن الماضي ، حيث يحضر التشتت ويغيب النسق ، يسود الجزء ويختفي الكل .. في الاتجاه المسدود : على نفس الطريق المسدود سار أحمد الريسوني يصب قوارير السخرية على واقع حرائر وصفهن ب " نساء الحداثة " ، حيث صنفهن ضمن مجموعات تتقاطع على خط تماس فكر يختزل النساء في جسد وصورة ، ويحولهن من مضمون إلى شكل .. لنستمع إليه وهو يتندر على الصنف الأول قائلا ، " أصناف جديدة من النساء والفتيات يتم تصنيعهن ، وتكييفهن ، وتوجيههن حسب متطلبات المتعة ، والفرجة ، والتجارة والإجارة ، والإثارة ، فصنفٌ من هذا الجنس اللطيف إنما يراد ويستعمل لتلطيف الشوارع والحدائق وفرجة الجالسين في المقاهي " .. إذا كان هذا هو تفكير الريسوني حول تصنيف المرأة ، فلماذا يعيب على تفكير الطاهر حداد ؟ .. فالمفكر التونسي خص كتابه بالنقد اللاذع للمنقبات في مقابل الفقيه المغربي الذي تناولهن كبضاعة للتسويق وفق متطلبات السوق ، فالأول شبه صنفا منهن ب " الكلاب " ، أما الثاني فشبه صنفا منهن ب " السلع " ، فالتشبيهان سيان ينزعان عن المرأة أدميتها ، تشبيه حداد بالرغم من قساوته ، وضع المرأة في مرتبة الحيوان وأعطى لها روحا ، بينما تشبيه الريسوني خلع عنها كل مظاهر الحياة والروح .. ويضيف الريسوني ، في نفس السياق ، أن هناك صنفا من النسوة صنع " لتأثيث الأسواق والمطاعم ، والمتاجر ، ومكاتب الاستقبال ... " .. هذا الصنف ، من منظور الريسوني ، مجرد " ماركة تجارية " ، لكنه نسي أو تناسى أن هذا " التأثيث " لا يقتصر فقط على السافرات ، بل أيضا عن النساء والفتيات المحجبات ، وأن تتطور العصر فرض على المجتمعات البشرية مثل هذه الوظائف الاجتماعية التي وفرت للمرأة فرصة لإعالة نفسها ، والقيام بعمادة أسرتها بدل الخروج إلى الشارع لمقايضة عرضها وشرفها .. فالريسوني عوض أن ينكب بالسخرية والنقد على سياسات البلدان العربية والإسلامية التي تعادي حقوق المرأة ، وتتوغل في تهميش أدوارها ، عوض أن يبرز مظاهر الفساد الإداري والسياسي للنخب المسؤولة عن " حِداد المرأة وحداد المجتمع " انكب باللوم والنقد على المرأة التي هي نتاج لتطور العصر ولمنظومة سياسية معينة .. اختزال قضية المرأة في المظاهر بدل السرائر خطأ قاتل ، وهو يعلم أن المظهر لا يعكس الجوهر وأن ما يطفو على السطح مجرد خدعة لحضارة الصورة التي تميز عصرنا الراهن .. شيئ طبيعي أن يمشي الريسوني مقلوبا على رأسه لأنه يفضل أن يرى من أسفل الإسفلت جسد المرأة ويصمت عن الجهة العليا ، ونعني بها العقل الذي اعتبره ديكارت هو أعدل الأشياء قسمة بين الرجل والمرأة .. لا غرابة في ذلك مادام الفقيه جزء من ترسانة الفكر الإيديولوجي للدولة ، فهو ضابط إيقاعها ، وموظفها ، وعدولها الشرعي لعقد قران المتعة بينها وبين أي كيان سياسي محتمل .. النساء درجات عند هذا الفقيه ، فهناك صنف محظوظ من هذه الفئات وهن " عبارة عن مرطبات للرؤساء ، والمدراء ، وكبار الزوار " ، وهنا تكمن المصيبة التي يخفيها عنف العبارة ، عندما يصبح الإسقاط المرضي لثقافة الكبت والأحكام الجاهزة حاضرة في عقلية من يعتبرون أنفسهم نخبة المجتمع ، فماذا نقول عن بسيمة الحقاوي ؟ .. هل هذه الوزيرة تدخل في دائرة هذا التصنيف أم أنها خارج دائرته لأنها سيدة محجبة ؟ .. يسير الريسوني في الاتجاه المسدود متماديا في القول " وهناك صنف مدلل ، ولكنه مبتذل، وهو صنف “ الفنانات ” ، ويخصص غالبا لتجميل “ الفنون ” القبيحة الرديئة وستر قبحها ورداءتها ، فمتى ما حضرت فيها أجساد النساء بمختلف استعمالاتها ، وبجرأة وجاذبية ، وبكثافة ووقاحة ، فالعمل الفني سيصبح ناجحا رابحا " .. أجساد النساء عقدة في تفكير هذا الرجل المبطن بعقيدة جامدة لا صلة لها بالدين ، فالفنون تصبح قبيحة ورديئة ، من وجهة نظره ، عندما تغزوها النساء الفنانات ، وهذا معناه أننا أمام تفكير استئصالي يريد أن يربط الفنون بالذكور ، ويلغي القيمة النسائية التي إن غابت غاب البعد الحقيقي لوظيفة الفنون ، فهؤلاء المدللات والمبتذلات هن مجرد ديكور لتجميل العمل الفني من وجهة نظره ، وحتى لا نظلم الرجل فهو يربط هذا بإغراءات الجسد وبتمظهرات جاذبيته وفلسفته ، ولنتوقف قليلا عند هذه النقطة بالذات التي تفرض علينا ضرورة التمييز بين الواقع والفن ، وبين الحقيقة الخيال ، ولنفترض أننا أمام فن " غير نظيف " فرض علينا جرأته ووقاحته ، فإن فنون العرض ليست هي الواقع والحقيقة ، وإنما توليفة لإعادة إنتاج الواقع بصورة فنية مغايرة .. إنه التمثيل في أقصى تجلياته ، ونحن نعرف أن الريسوني يمثل ، إنه ممثل بارع في " فنون الحرب بالمفردات " ، ورغم ذلك نذكره إن كانت الذكرى تنفع بأن فلسفة " الفنون " هي مجرد قراءة افتراضية لواقع متخيل ، وكل من يؤمن بالعكس يعتبر من أطياف الأوهام وأصناف السذج .. إن الفن أسمى وأعظم من أن " يتروسن " من خلال قراءة لا علاقة لها بمجال الفنون ، والجسد قناع يخفي وراءه خطابا مشفرا هو من مسؤولية ذوي الاختصاص ، وليس من مسؤولية فقهاء هذا حرام وهذا حلال .. تعيش المرأة ظلما في ظلم ، من التعنيف اللفظي في الشوارع إلى وقاحة اللفظ من أصحاب العمائم ، ويتجلى ذلك من خلال التوصيف التالي للريسوني " وثمة أصناف هي أشبه ما تكون بالمواشي المعلوفة المحبوسة ، التي يتم تسمينها للبيع والإيجار لكل راغب وطالب ، سواء فيما يسمى بالدعارة الراقية الغالية ، أو في حفلات الجنس الجماعي ، أو في الدعارة التقليدية الرخيصة ، المتاحة لكل من هب ودب " .. تشبيه بعض النساء بالمواشي هو احتقار لإنسانيتهن ، وتوصيفهن بالبغي والدعارة دون الغوص في باطن الأسباب هو هروب ماكر بدل الوقوف على النزيف الذي ظلم بعض النساء في البلدان العربية والإسلامية ، حيث تعيش نساء الطبقات الكادحة والمقهورة تمييزا صارخا ، سواء في المدن أو البوادي ، على كافة المستويات مما يجعلهن في أغلب الظروف ضحايا واقع حرمهن من فرص التعليم والشغل ، وبالتالي اللجوء مكرهات إلى عالم مجهول .. لا أعتقد أن هناك امرأة في العالم تقبل أن تُمرّغ كرامتها وإنسانيتها في أوحال الأمراض الجنسية الفتاكة ؟ .. لا وجود لامرأة تقبل بالإهانة ؟ .. كيف للنساء أن يرضين بتصنيفهن في سجلات الشرطة بالمومسات وهن مخلوقات كرمهن الله ؟ .. كل امرأة تحلم ببيت ، وزوج ، وحياة شريفة ، لكن الظروف الاجتماعية هي التي تصنع قدرها ، وهو الأمر الذي لم يستطع الريسوني الخوض فيه كي لا يغضب جهات معروفة توفر له راتبه الشهري مع حفنة من الامتيازات .. وختاما يقودنا الفقيه إلى آخر الطوائف من طوابير النساء ، قائلا ، " وثمة طوائف من “ النساء الجدد ” لم يسقطن إلى هذه المهاوي والقيعان ، ولكنهن مشغولات - كلما خرجن أو هممن بالخروج - بعرض أشعارهن وصدورهن وفتحاتهن ومؤخراتهن وعطورهن وحليهن " .. والسؤال المطروح هنا ، كيف تم استثناء هؤلاء من القاعدة ؟ .. كيف تحول تفكير الريسوني بغثة من قراءة المظاهر إلى قراءة السرائر وحكم على هذه الطوائف الأخيرة بالبراءة من السقوط في المهاوي والقيعان ؟ .. ومن أدرانا بأن هؤلاء المشغولات بعرض مفاتن أجسادهن هن مجرد ممثلات بارعات يتقن التمثيل بأقنعة مزيفة ؟ .. نترك هذه السؤال الأخير للريسوني فهو الوحيد القادر على الإجابة عليه .. للرجال شياطين : على شواطئ " بحر نساء الحداثة " يختم الريسوني بالشمع الأحمر مقالته بإلقاء المسؤولية واللوم على " شياطين الرجال " ، وليس النساء ، فهؤلاء الأبالسة هم من " يصممون لهن ويخترعون، ويفتحون عليهن من أبواب جهنم " .. المسؤولية ، إذن ، ملقاة على الرجال لأنهم أصل " القوامة " ، وليس النساء ، وكأن النساء " ناقصات عقل " ، وليس فيهن مبدعات ومخترعات ، ولا عالمات ومصممات ، فالتصميم والاختراع باب من أبواب جهنم ، وبالتالي تكون الحداثة ومعها العلم شر من شرور الغرب ، ومدخل للفتنة والغواية .. تلك هي أهداف هذا الفكر المعادي للعلم والتكنولوجيا ، ولكل انفتاح على الحضارات الإنسانية .. فكر لا يرى في المرأة إلا جسدا بدون مبادرة وعقل ، ويعتبرها غواية يقتات منها أبالسة الرجال ويحولونها إلى أسواق عابرة للقارات .. ومادامت " شياطين " الحداثة تشتغل وتنتج لاكتشاف " قارة " المرأة ، سواء على صعيد الجسد والفكر ، فإن شياطين اللاحداثة تشتغل وتنتج لغرس أفكار الموت من خلال تنميط الذائقة والاختلاف ، وجعل أجساد الناس مكبلة بقيود هي أشبه بالعلب السوداء ، العالم يتقدم والتكنولوجيات الحديثة تهددنا ، و " علماؤنا " علماء بدون علم ، مازالوا منشغلين بالنقاش عن المرأة لإلهاء العقول ، يفكرون في الشكليات ، ويحاولون ثنينا عن التفكير في القضايا الجوهرية للمجتمع ، والتي لا يمكن فصلها عن جوهر النقاش .. فقهاؤنا يقدسون الماضي ويتنكرون للمستقبل ، وبالتالي يعودون بنا إلى الوراء لأنهم مربوطون بأسئلة الموت ، يقسمون دائرة المرأة إلى نصفين ، نصف الأصالة ، ونصف الجهل والحداثة ، فالأول عالم الملائكة ، والثاني عالم الشياطين ، يفعلون هذا وهم لا يدركون أن المرأة لا تقاس باللباس ، وأن الحِداد على امرأة الحَدّاد ، وعلى غيرها من نساء الحداثة وما بعد الحداثة هو مجرد تغريد خارج العصر ، يلخصون الدين في الزي والمظهر وهم لا يدرون أنهم بأفكارهم هذه يتحولون إلى مستشهرين لأزياء منمطة صنعها نسق إيديولوجي معروف ، وخاطتها أفكار فقهاء الوصلات الإشهارية ، وتبقى المرأة العربية والإسلامية قطب التجاذب بين تيارين : تيار الشقاء وتيار السعادة .. من هنا نختم بالتساؤل المشروع ، من هم شياطين الحداثة ؟ ..