بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فإن خشية الله سبحانه وتعالى هي مدعاة لامتثال أوامره واجتناب نواهيه وإحسان معاملته والتأدب معه، وهي كذلك مدعاة للحذر من سخطه ومقته، ولتجنب كل ما يؤدي إلى سخطه، وهذه الخشية مقام من مقامات أهل الإيمان ومستوى من مستويات المتقين ينبغي أن يحرص كل إنسان على الوصول إليه وعلى التمسك به بعد أن يناله، وقد بين الله سبحانه وتعالى أن الخشية سبب لدخول الجنة فقال تعالى: {إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه}، فمن خشي ربه قد ضمن الله له جنات تجري من تحتها الأنهار، وقد بين الله سبحانه وتعالى أن الخشية بمعناها الكامل مختصة بمن كان يعرف الله تعالى، وقد قال الله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}، والمقصود بذلك الخشية الحقيقية، فلا يقصد به أن كل من كان من أهل الخشية فهو من العلماء، ولا يقصد به كذلك أن كل من كان من العلماء فهو من أهل الخشية، بل المقصود أن الخشية الحقيقية إنما تحصل لمن كان عالما عارفا بالله سبحانه وتعالى ولذلك قال الغزالي رحمه الله: ما عصي الله إلا عن جهل به أو بشرعه، فالجهل قد يكون بالله سبحانه وتعالى فيغتر الإنسان بالله، فيتجاسر على معصيته، وقد يكون الجهل بشرع الله فيقتضي ذلك أن يعمل الإنسان عملا وهو يراه مباحا أو مأذونا به أو ربما رآه عبادة أو قربة ويكون ذلك العمل مخالفا للشرع بسبب جهل الإنسان بالشرع. والخشية على درجات متفاوتة، فمنها ما يحول بين الإنسان وبين المعصية، وهذا القدر هو الوسط من الخشية وهو المطلوب من كل المؤمنين، كل إنسان ينبغي أن يسأل الله من خشيته ما يحول بينه وبين معصيته، فالقدر الذي يقتضي رقابة الله سبحانه وتعالى، والخوف من عقابه وأن يكون الإنسان مستحضرا لجلاله وعظمته وكبريائه وأن يكون مستحضرا كذلك لعقابه فلا يأمن مكره، هذا القدر هو القدر الإيجابي من الخشية، فإذا زادت الخشية عن ذلك اقتضت انشغال الإنسان المطلق بحيث لا يستطيع أن يتصرف في شيء ويعيش دائما في بكاء وحزن وتأثير على العقل، وهذا المقام من الخشية ليس إيجابيا ولا هو مطلوب لكل إنسان، وإذا حصل للإنسان في بعض الأوقات فذلك زيادة خير لكن لا ينبغي أن يستمر عليه، والمقام الأدنى من الخشية هو أن يؤمن الإنسان بالله وبقدرته على خلقه وبعظمته، لكن دون أن يؤثر ذلك عليه لقطعه عن معصيته واجتناب مناهيه، وهذا المقام لا يكفي فلا بد من زيادة الخشية حتى تحول بين الإنسان وبين المعصية. والخشية لها أسباب كثيرة، أهم أسبابها وأعظمها معرفة الله جل جلاله، فمن عرف الله بكبريائه وعظمته وجلاله وقدرته على خلقه وعرف أنه أسرع الحاسبين، وأنه سريع الحساب، وأنه الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه وأنه: {وهو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده}، وأن السماوات السبع والأرضين السبع في قبضة يمينه: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون}، وعرفه بأن قلوب العباد جميعا بين إصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، وعرفه بقربه فهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، وهو يعلم السر وأخفى، فلا تخطر على قلب الإنسان خطرة، ولا يفكر بأي تفكير إلا وهو معلوم عند الله سبحانه وتعالى علما سابقا عليه ومحاذيا له ولاحقا له، فذلك العلم محيط به من جميع جوانبه، وكذلك عرفه بنعمته عليه وإحسانه إليه، وعرفه كذلك بافتقار العبد إليه جل جلاله: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز}، وعرفه بغناه المطلق عن جميع خلائقه فهو غني عن العرش وعمن دونه من الخلائق لا يحتاج إلى عبادة العابدين ولا تضره معصية العاصين فمن عرفه بذلك اقتضى ذلك منه خشيته هذه الخشية الإيجابية المطلوبة، وكذلك من أسباب الخشية معرفة الإنسان للخاشين من عباد الله، فدراسته لسير الأنبياء والصالحين الذين كانوا يخشون الله تعالى ويقومون بعبادته ويتقونه حق تقاته مما يزيده خشية لله سبحانه وتعالى وائتساء واقتداء بهم، فقد ذكر الله سبحانه وتعالى خشيتهم له فقال تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون}، وقال تعالى: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين}، وقال تعالى: {فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}، وقال تعالى: {إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا}، وقال تعالى: {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين}. فدراسة سير أولئك والتعرف على أحوالهم ومقاماتهم وما هم منشغلون به من عبادة الله والإنابة إليه وخشيته في السر والعلانية، كله مما يزيد الإنسان خشية لله سبحانه وتعالى وطاعة لأوامره واجتنابا لنواهيه. وكذلك فإن من أسباب الخشية أيضا تعرف الإنسان على الأحياء من الصالحين ومصاحبته لهم، فمجالسة الإنسان لأهل الخير الساعين إلى طاعة الله سبحانه وتعالى والمشتغلين بعبادته في أوقاتهم كلها، مما يعينه على الازدياد من خشية الله، ولذلك قال الله تعالى: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا. فمن كان من أهل الطاعة مصاحبة الإنسان له مما يقتضي منه ارتفاعا وسموا وانجذابا إليه للتخلق بأخلاقه والانفعال والانطباع بأحواله، ولذلك قال الإمام ابن عطاء الله الإسكندراني رحمة الله عليه في حكمه: لا تصحب من لا ينهضك حاله ولا يدلك على الله مقاله. وكذلك من أسباب الخشية دراسة الإنسان لنصوص الوعد والوعيد، فمن درس أحوال أهل النار وأحوال المعذبين في قبورهم، وعرف ما أعد الله للذين عصوه وخالفوا أمره من أنواع العذاب الأليم المقيم الذي لا يحول ولا يزول اقتضى ذلك منه خشية الله سبحانه وتعالى. وكذلك مما يزيد الخشية أيضا تعرف الإنسان إلى أحوال أهل الجنة وإلى ما أعد الله للمؤمنين فيها ولنعيم القبر كذلك فكل ذلك يقتضي من الإنسان الإجلال والتعظيم لله جل جلاله مما يقتضي زيادة خشيته له، وكذلك مما يزيد الخشية تعرف الإنسان على أيام الله في الخالين الماضين، فأخذه الوبيل لأعدائه والطرق التي أهلك بها مكذبي الرسل، وأخذه للطواغيت والجبابرة كله مما يقتضي الخوف منه فإذا تذكر الإنسان أخذ الله لقوم نوح حين فتح أبواب السماء بالماء المنهمر، وأمر الأرض فتفجرت عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر، وتذكر الطريقة التي أهلك بها الذين كذبوا هودا حين سخر عليهم الريح العقيم ثمانية أيام حسوما فتركهم كالنخل المنقعر، والطريقة التي أهلك بها الذين كذبوا صالحا حين أرسل عليهم الصيحة فشقت أشغفة قلوبهم فماتوا موتة رجل واحد، والطريقة التي أهلك بها الذين كذبوا لوطا حين أرسل عليهم الحاصب فحمل قريتهم حتى سمع أهل السماء أصوات كلابهم ثم ردها على الأرض، ثم أتبعها بحجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك، والطريقة التي أهلك بها فرعون وجنوده حين أمر البحر فالتطم عليهم فلم تبق منهم باقية وتذكر أيام الله في الانتقام من أعدائه فيما بين ذلك وما دونه، وهي مشاهد بارزة كلها مؤذنة بعظمة الله وجلاله وقدرته على خلقه، إذا تذكرها الإنسان زاده ذلك خشية لله، وكذلك من أسباب الخشية الازدياد من الطاعة لأنه يزيد الإنسان نورا، فبه تضيء بصيرته، وبذلك يزداد خشية لله وترقيا في مدارج السالكين وارتفاعا في مستوى إيمانه، وذلك مشاهد مجرب، فكلما ازداد الإنسان عبادة كلما حسن سلوكه وكلما ازداد أدبه مع الله جل جلاله، وكذلك مما يزيد الخشية ملاحظة الإنسان لسرعة ذهاب هذه الحياة الدنيا وزوال كل ما فيها، فإذا رأى أحوال الموتى وبعث الآخرة الذي ينطلق كل يوم، فلا يزال يسمع مات فلان ومات فلان حتى يكون هو الميت كما قال الشاعر: تنفك تسمع ما حَيِي تَ بهالك حتى تكونه وكما قال الهادي بن محمدي رحمة الله عليهما: لا بد أن سيقول يوما قائل في عد من قد مات: مات الهادي فكل ذلك مما يقتضي من الإنسان خشية الله، لأنه يرى في نفسه كثيرا من آيات الله، فيرى انتقاله من الصبا إلى الشباب والقوة، ثم يرى بعد ذلك انتقاله إلى الشيب والهرم، ثم انتقاله إلى الضعف وكل ذلك مؤذن بانتقاله من هذه الدار بالموت، وتغير أحوال الدنيا كلها مؤذن بذلك فكل يوم يرى الإنسان تجدد غنى وتجدد فقر وتجدد صحة وتجدد سقم، وتغيرا لما كان من الأحوال ثابتا لا يتوقع الإنسان تغيره بسرعة، فزوال الأنظمة وتغيرها وزوال ما يحصل كذلك من الحروب ومن البأس هو نظير تغير الزمان بين الشتاء والصيف وبين الليل والنهار وكل ذلك مما يزيد الإنسان خشية لله سبحانه وتعالى، وهكذا التدبر في كل مخلوقات الله، والتدبر في خلق السماوات والأرض ونصب الجبال وخلق الحيوانات كله مؤذن بهذا، ولهذا قال الله تعالى: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت فذكر إنما أنت مذكر}، وقال تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لألي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار}. والتدبر في ملكوت الله سبحانه وتعالى وخفايا الملك وفي عجائب الخلق كل ذلك مما يزيد الخشية، وهكذا زيارة القبور وعيادة المرضى بهذه النية كل ذلك يزيد الإنسان خشية لله سبحانه وتعالى وخوفا منه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن دخول ديار المعذبين وقال: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أو متباكين، إذا لم يستطع الإنسان البكاء فيها فليتباك لئلا يصيبه ما أصابهم، وكل مشاهد الدنيا في الواقع مقتضية لهذه الخشية، فهي كلها عبر وكلها آيات تدل على وحدانية الله وقدرته كما قال أبو العتاهية: وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد فهذا التقلب الرهيب السريع الذي يقلب الله به الزمان ويقلب به المكان فتصريف الرياح وتكوير الليل على النهار وتكوير النهار على الليل وتقلبات الأشياء كلها مؤذن بقدرة الله سبحانه وتعالى على خلقه، وكل ذلك يقتضي زيادة الخشية منه وخوفه، وتدبر آيات القرآن جميعا مما يزيد الخشية لأنه يزيد الإنسان إيمانا، وكلما ازداد الإنسان إيمانا كلما ازداد خشية، وهذه الخشية لها فوائد كثيرة على الإنسان، فمنها أنها سبب لاستجابة الدعاء، فمن كان يخشى الله سبحانه وتعالى فإنه يستجاب دعاؤه ولا ترد دعوته، وكذلك فإنها سبب أيضا لإحسان عبادته وطاعته، وهي كذلك سبب للاستجابة لدعوة الإنسان إذا دعا ولنصيحته إذا نصح، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله}، فأولئك تسمع منهم الدعوة والنصيحة، وكذلك فإن خشية الله مدعاة أيضا للازدياد من الطاعة وترجيح كفة الحسنات، وهي أيضا سبب لنور البصيرة بحيث يرى الإنسان كثيرا مما كان مخفى عليه لا يدركه إلا إذا استنارت بصيرته وزالت الأوهام والحجب عنه، ولا يصح ذلك إلا بخشية الله سبحانه وتعالى. وكذلك فإن الخشية سبب للثقة بالإنسان، فمن كان يخشى الله فهو محل ثقة لدى الناس جميعا، فمن عامله عرف أنه لن يخونه ولن يخلف وعده ولن يغش وسيؤدي الحق الذي عليه، ومن حدثه عرف أنه لن يكذب عليه لخشيته لله سبحانه وتعالى، وهكذا فتحصل الثقة به ثقة كاملة، وكل من كان لله أخشى كانت الثقة به أكبر وأولى ولذلك قال خزيمة بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه حينما جاء أعرابي يبيع فرسا فاشتراها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق ولم يشهد ذلك أحد وقال: اقتد الفرس واتبعني حتى أقضيك، فكان الأعرابي يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويراه الناس فيظنون أنه لم يشتر الفرس فيساومونه فيها، حتى عرض عليه سعر أكبر من السعر الذي اشتراها به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فناداه فقال: يا محمد إما أن تشتري مني الفرس وإما أن أبيعها لغيرك، فقال: ألم أشترها منك، فقال: كلا والله، فجاء خزيمة بن ثابت فقال: بلى قد اشتراها منك وشهد بذلك، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تشهد على شيء لم تحضره، فقال: صدقناك على خبر السماء أفلا نصدقك على خبر الأرض، فكل من كان أخشى لله كانت الثقة به أكبر فيصدقه الإنسان فيما لم يحضره والرسول صلى الله عليه وسلم قد قال عن نفسه: إن أخشاكم لله وأتقاكم لله أنا، فهو أخشى الناس لله جل جلاله وأتقاهم له. وهذه الخشية كذلك من آثارها أنها مزيلة للغفلة، فصاحب الخشية لا يضيع وقتا ولا يفسد صفقة مع الله سبحانه وتعالى، فهو مشغول ليله ونهاره بمتابعة ما يأتيه من الأوامر والنواهي، فهو دائما في انشغال لا يجد فراغا ولا يجد إضاعة للوقت فلا يمكن أن يعد في حيز السفهاء أبدا، ولا يرى في مجالسهم لأن له شغلا فهو مشغول دائما مع الله سبحانه وتعالى في متابعة أوامره ونواهيه ويقسم الأوقات إلى قسمين إلى وقت فيه عبادة مخصوصة فيبادر إليها، وإلى وقت ليس فيه عبادة مخصوصة وهو وقت لأداء النوافل وما يتقرب به إلى الله منها فيبادر لاستغلاله قبل فوات الأوان، ويعلم أن حقوق الأوقات لا يمكن قضاؤها لأن كل وقت إذا مر فالوقت الذي يليه فيه حق نظير الحق الذي كان في الماضي، ولذلك قال المواق رحمه الله: حقوق الأوقات لا يمكن قضاؤها، فما من وقت يمر إلا ولله عليك فيه خطاب جديد وأمر أكيد، فكيف تقضي فيه حق غيره وأنت لم تؤد حق الله فيه، وهنا فرق بين حقوق الأوقات والحقوق في الأوقات، فالحقوق التي في الوقت هي الحقوق التي رتبت على أوقات محددة كوقت الصلاة ووقت الصوم ونحوها كوقت قيام الليل ووقت أداء الفرائض، فهذه حقوق في الأوقات، أما حقوق الأوقات فكل وقت يستحق أن يعبد الله فيه، وهذا حق لذلك الوقت أن يستغل في طاعة الله سبحانه وتعالى. وهذه الخشية مقتضية من الإنسان لمتابعة الأوامر والنواهي دائما، فيعرضها على نفسه فإن كان ممتثلا إذا جاءه الأمر فهي نعمة تستحق الشكر فيبادر لشكرها قبل فوات الأوان، وإن كان غير ممتثل فذلك ذنب يستحق التوبة فيبادر للتوبة قبل فوات الأوان وهكذا إذا جاءه نهي عرضه على نفسه فإن كان مجتنبا له فتلك نعمة تستحق الشكر فيبادر لشكرها قبل فوات الأوان، وإذا كان غير مجتنب لهذا النهي فذلك ذنب يستحق التوبة فيبادر للتوبة منه قبل فوات الأوان، وبهذا ينشغل الإنسان في أيامه ولياليه فلا يجد وقتا للفراغ ولا وقتا لاتباع خطوات الشيطان، وهذه الخشية كذلك لها أثر عظيم فيمن يجاوره الإنسان ومن يخالطه، فمن كان من أهل الخشية و الخشوع إذا صلى إلى جانبك وأنت في الصلاة وصل إليك شيء من نور صلاته فيقتضي ذلك منك انتباها وخشوعا في الصلاة، كما أنه على العكس من ذلك إذا صلى إلى جانبك من هو من أهل الغفلة فتثاءب في الصلاة ربما سرى إليك ذلك فتثاءبت ويسري إليك شيء من غفلته وانشغاله، ومجاورة من كان من أهل الخشية دائما سبب يسمو بالإنسان ويرتفع به، وحتى من كان من المخالطين له فإنهم سيتعودون على أخلاقه وهديه ودله ويقتدون به في سلوكه، ولذلك يذكر أهل الحديث أن أبا داود صحب أحمد ابن حنبل فكان صورة منه في هديه وسلوكه، وأحمد ابن حنبل صحب وكيعا فكان صورة منه كذلك، ووكيع صحب سفيان الثوري كذلك فكان صورة منه، وسفيان الثوري صحب منصور بن المعتمر فكان صورة منه، ومنصور صحب إبراهيم النخعي فكان صورة منه، وإبراهيم صحب علقمة فكان صورة منه، وعلقمة صحب ابن مسعود فكان صورة منه، وابن مسعود صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يحكي هديه ودله وسلوكه. وهذا يقتضي أن ملازمة الصالحين ومراعاة أحوالهم مما يزيد الإنسان يقينا ومما ينور بصيرته ويقتضي منه أن يحاول الاقتداء بهم وسلوك طريقهم، وهذه الخشية بعضها مكتسب وبعضها هبة ومنحة من الله سبحانه وتعالى، فالمكتسب منها هو مجاهدة الإنسان لنفسه على الخشية وخوفه من عقاب الله وتعرفه إلى الله وتعرفه على عقابه، وما كان منها موهوبا هو ما يهبه الله لعباده الذين جاهدوا أنفسهم من التوفيق والنور الذي يقتضي منهم الاستمرار على الطاعة والزيادة في الترقي في مدارج السلوك. وقد ذكر الله هذين المقامين في سورة الشورى فقال تعالى: {الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب}، فمن جاهد نفسه فهو المنيب ومن اجتباه الله سبحانه وتعالى فهو الذي وفق لطاعة الله سبحانه وتعالى وأعين عليها، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يجعل عملنا خالصا لوجهه الكريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.