سي عبد الرحيم، هذا الذي ندعو له في كل لحظة وحين، وكلما حلت ذكرى رحيله الحزينة، بالمغفرة والرضوان، وبفسيح الجنان، هو إنسان شهم ذو جذور عريقة وعميقة في تراب الوطن من أقصاه إلى أقصاه، أطلق أول صرخة إيذانا بميلاده المبارك يوم: 23 مارس 1922 بمدينة سلا المجاهدة، تلك المدينة الصغيرة المتاخمة للعاصمة الإدارية، والكبيرة بما أنجبت من رجال عمالقة، عرف العناد والصمود منذ حداثة سنه، وبإحدى مدارس مسقط رأسه الابتدائية، قاوم ثراء أبناء الأعيان المادي، بتفوقه الدراسي وبالجد والمثابرة والاستقامة... وبمدينة الرباط واصل تعليمه الثانوي، وتعرف على الشهيد المهدي بنبركة، الذي للأسف انشغل الناس بفك لغز اغتياله والبحث عن موقع قبره، أكثر من انشغالهم بثقافته الواسعة والاستنارة بفكره الثاقب وفلسفته الرائدة، ومن تم انتقل سي عبد الرحيم إلى مدينة فاس سنة: 1939، للتدريس بالتعليم الابتدائي... وبالنظر إلى ما يزخر به سجله من أحداث أغنت رصيده النضالي منذ انخراطه في الحياة السياسية بحزب الاستقلال، نكتفي بالإشارة إلى أنه كان من أبرز مهندسي وثيقة المطالبة بالاستقلال، وأصغر الموقعين عليها، تلك التي تم تقديمها إلى المغفور له الملك محمد الخامس بتاريخ: 11 يناير 1944، وفي سنة 1975 انتخب أول كاتب أول لحزب "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" وأعيد انتخابه ثلاث مرات متتالية، إنه الرجل المؤمن بعدالة قضايا الشعوب التواقة إلى الحرية والديمقراطية، رمز الكفاح المشترك وفقيد الوطنية الصادقة والديمقراطية الحقة، الأستاذ الكبير: عبد الرحيم بوعبيد، طيب الله ثراه... وخلافا لما نعيشه من فصول مسرحيات هزلية هزيلة تستخف بذكاء المواطن، وتسيء إلى المشهد السياسي العام، عبر مطاحنات كلامية وضيعة ومزايدات سياسوية فجة، وفي ضوء ما ابتلت به نقاباتنا وأحزابنا من قيادات "كرتونية"، لم تعد تؤمن بتشجيع المواطنين على الانخراط في العمل السياسي، بتأطيرهم وتنظيمهم وإشراكهم في تهييء وتقييم القرارات الحزبية، ولا بالديمقراطية وحق الاختلاف وحرية التعبير إلا في خطبها الشعبوية المثيرة للتقزز والسخرية، ظل الرجل على مدى ما يناهز خمسين سنة من النضال والصراع، مخلصا لقضايا وطنه بما يملك من إرادة قوية، وفيا بوعوده والتزاماته تجاه الجماهير الشعبية، ومناهضا فذا للاحتلال الأجنبي ورموزه، مقاوما للاستلاب الفكري إلى جانب الحركة الوطنية، كرس أجمل فترات عمره من أجل ترسيخ قيم الحداثة ومبادئ الديمقراطية التشاركية، وإرساء قواعد مغرب الحريات، في إطار مشروع مجتمعي واضح المعالم بأبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبتضحياته الجسام مع رفاق دربه في النضال: المهدي والبصري واليوسفي واليازغي... وكل المناضلين الشرفاء، عاهد الله على تحرير العباد بعد استقلال البلاد مهما كان الثمن باهظا، ذلك أنه مافتئ يوصي بالخيار الديمقراطي والنظام الاشتراكي، وبأن بناء الثقة يتأسس انطلاقا من حسن معاملة المواطنين، واحترام مشاعرهم في التعاطي مع مشاكلهم ومحاولة إيجاد الحلول الناجعة لها، وأن نزاهة الانتخابات لا تقاس بعدد المقاعد المحصل عليها، بل في التواصل مع الناخبين والقدرة على إقناعهم بالانخراط في الاستحقاقات الوطنية، عبر توسيع النقاش والكشف عن الحقائق بعيدا عن أساليب التضليل... ومن خلال تلك الخطب الرائعة التي كانت تتميز بحنكة السياسي ورزانة رجل الدولة، والمتسمة بالواقعية وسلاسة الأسلوب وبساطة العبارات والجمل، كان منظرا قويا ومربيا لطيفا، يحاور بهدوء وروية ودونما تشنج، ويدعو المواطن إلى ضرورة أداء واجباته بإخلاص تام، إلى الفعالية والتفاعل مع المجتمع، وإلى اليقظة وتحمل المسؤولية، من غير أن ينسى دعوته إلى التشبث بحقوقه والسهر على تعزيز مكتسباته... وتكمن عبقرية الفقيد سي عبد الرحيم في قدرته الخارقة على تحمل الصعاب، الربط والمزاوجة بين المبادئ وشروط تطبيقها على أرض الواقع، وفي جرأته النادرة التي لا نجد لها اليوم مثيلا لدى القادة الجدد، الذين يقولون ما لا يفعلون ولا يجدون غضاضة في التطبيع مع الفساد والاستبداد، وإذا كان زمن الرجل ومعاصريه من الشخصيات المحترمة أمثال: يعتة، بوستة، بنسعيد واليوسفي... وأولئك الذين منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر متحسرا على ما آلت إليه الأوضاع من انتكاسات، قد عرف بزمن القهر والجمر، فإنه لم يقلل من حماسه وعزيمته وبقي متمسكا بقول الحق حتى والسهام مصوبة إلى صدره، وإلا من كان من "رجال" هذا الزمن الموبوء بمقدوره إشهار كلمة "لا" كبيرة في وجه أعلى سلطة بالبلاد؟ ذلك أنه، لإيمانه الراسخ بعدالة قضية الوحدة الترابية، رفض بمعية أعضاء المكتب السياسي للحزب مجاملة المرحوم الملك الحسن الثاني، بقبول مبدأ تقرير المصير، لأن ملف الصحراء مسألة سيادة وطنية، ولا يحق في نظرهم لأي كان الحلول مكان الشعب المغربي، فجاء الجزاء سريعا بالزج به رفقة كل من اليازغي والحبابي في غياهب سجن مدينة ميسور مدة عام كامل. لقد كان يتحلى بفضائل وخصال حميدة، مما جعله يكون محبوبا لدى الجماهير الشعبية، يكافح من أجل تمتيع أبناء الشعب بالحقوق وحرية الاختيار، وتحقيق شروط العدالة الاجتماعية والعيش الكريم، وبتوليه مسؤولية تدبير الشأن العام كوزير، كان حريصا على التوزيع العادل للدخل القومي وربط الديمقراطية بالتنمية الاقتصادية، وما انفك يؤسس لحماية المال العام من التبذير والتهريب عبر نصوص ومراسيم، مغلبا المصلحة العامة على أي منفعة خاصة... عموما لعب الرجل أدوارا حاسمة وشارك في تطوير الحياة السياسية، ولولاه والشرفاء الوطنيين خاصة في اليسار، الذي للأسف مزقته تلك الخلافات الجانبية، التي استفادت منها القوى المحافظة، الساعية إلى جر البلاد لمزيد من الضياع والتهلكة، ما كنا لنصل اليوم رغم كل التعثرات والتوافقات غير المجدية، إلى ما بلغناه من مكاسب تشريعية حديثة ومتقدمة، بيد أن ما ينكأ الجراح هو أنه بعد بلوغ هذه الفترة الزاهية والمشجعة، التي عجلت بظهورها الحركات الشبابية الرائعة "حركة 20 فبراير نموذجا"، حين بادرت إلى تفجير الحراك السياسي والاجتماعي، بعدما يئست مما يدغدغ مشاعرها من تعدد الوعود الكاذبة، وفقدت الثقة في النقابات والأحزاب الغارقة في "النوم"، إذ مازال الجميع منبهرا بالدستور الجديد يقلب صفحاته، دون أن يحسن أحد قراءتها وتفعيل مقتضياته، منح رئيس الحكومة صلاحيات موسعة، ولم يمارس منها طيلة العامين المنفرطين عدا النص الخاص بالتعيين في المناصب العليا، في انتظار أن تجود علينا السماء بمن يخرجنا من هذا "الاحتباس" السياسي ! رحل سي عبد الرحيم يوم: 8 يناير 1992، وفي التاسع منه نقل جثمانه الطاهر في موكب جنائزي مهيب إلى مثواه الأخير، ووفاء لروحه وعرفانا بما قدمه لعامة الشعب المغربي، انطلقت الحشود حزينة في مشهد رهيب تقشعر له الأبدان، وتردد الحناجر بقوة شعارات الوداع الأخير، لعل أقواها رسوخا في الذاكرة والوجدان: "عبد الرحيم ارتاح ارتاح.. سنواصل الكفاح"، فأين الارتياح؟ وأين الكفاح؟ وماذا تحقق بعد مرور 21 سنة على رحيله؟ لقد خلف الفقيد للقوى التقدمية بشكل خاص، مسؤوليات كبيرة وإرثا ثقيلا، وكان لزاما عليها تقدير حجم الأمانة، في العناية بحملها وحسن رعايتها، بتحرير المواطن وبناء الدولة المدنية، قهر الظلام الملتفة حباله حول الأعناق، والانتفاض ضد السياسات العقيمة والمحبطة، وهيمنة القوى الانتهازية والرجعية، بوضع حد للتشرذم الحاصل والسير قدما نحو الأمل والمستقبل... نم مطمئنا أيها الزعيم الملهم الفنان، لا تبالي بنظرات البوم ونعيق الغربان ، فشبابنا على العهد محافظا وأبدا لن يخذل الأشاوس والشجعان، ويكفيك فخرا ما سطرته من انتصارات وملاحم، تقض مضاجع الجبناء والتكفيريين، الملطخة أيديهم الآثمة بدماء الأبرياء ومنهم الشهيد عمر وآخرين..