حين أرى جل قناطر الجنوب المغربي المكلوم، مهدومة ومهترئة في اللحظات الأولى للمطر، تجرفها السيول بسهولة كأنها مصنوعة من ورق الجريد. أتذكر حادثة اعتقال المدير الإقليمي السابق لوزارة التجهيز والنقل بتيزنيت، في ليلة القدر شهر رمضان قبل الماضي بمدينة الرباط، وهو يتسلم رشوة من أحد المقاولين داخل سيارته بقيمة 30 مليون سنتيم. مدير وزارة التجهيز حسب ما تناقلته الأخبار، آنذاك؛ إبتز المقاول لمساومته لتوقيع محضر مشروع انجاز طريق باقليم تيزنيت، مقابل استخلاص المقاول ما تبقى من صفقة المشروع من الوزارة. حتى وإن كنا لا ندري ملابسات وحيثيات هذا الموضوع، إلا أن الشرطة القضائية اعتقلت المدير داخل سيارته وبحوزته 30 مليون سنتيم. هذا في الحقيقة يعطينا صورة حقيقية عن الطريقة التي تدبر بها الصفقات العمومية في كل الإدارات والعمالات والبلديات والوزارات... تغلف بما يسمى بطلب العروض وفتح الاظرفة في الجلسات المفتوحة. ولكن كل شيء مخدوم في جنح الليل. حين يفوز مقاول معين بصفقة انجاز مشروع مدرسة، مستشفى، طريق، قنطرة، إدارة عمومية، فإنه في الغالب يكون مجبرا لدفع المقابل للمسؤول المباشر. هذا المقابل من المستحيل أن يدفعه المقاول من جيبه لأن هدفه الأساسي هو الربح، والربح السريع. لذلك، فإنه يعمل على الغش في البناء وعدم احترام القانون والمتفق عليه في دفتر التحملات، حتى يحصل على تعويض الرشوة التي دفعها. هكذا ويغض المسئولون البصر عن كل العيوب التي قد تحصل في المشروع لأن هدفهم الأسمى هو انجاز المشروع وتدشينه وتعويم صوره في حملة اعلامية مدروسة، وليس هو طريقة انجاز المشروع ومدى احترامه للقوانين ولمعايير الجودة. ما حصل في المناطق الجنوبية جراء الأمطار الغزيرة التي هطلت مؤخرا، يجب مقاربته مقاربة موضوعية وشموليه، جزء المسؤولية فيه خارج عن إرادة البشر وقوته، والجزء الآخر تتحمله الدولة والمجتمع على حد سواء. خاصة فيما يتعلق بانجاز بعض المشاريع ذات الصلة بما وقع، كالطرق والقناطر والسدود وتصاميم التهيئة التي من المفروض أن تأخذ بعين الاعتبار وقوع كوارث طبيعية وخاصة بالمدن. بعض القناطر التي سقطت وانجرفت مع المياه تم انجازها في السنوات القليلة الماضية، في حين صمدت قناطر شيدها الاستعمار في سنوات الخمسينيات، هنا يكمن الفارق. أما الفرق فهو بيِّن، ملموس وواضح. الغِشُّ في كل شيئ، والسبب الرشوة والفساد، والنتيجة هي محاصرة مدن بأكملها، وانقطاع الطرق، وعزلة عدد كبير من السكان. لان مسؤول ما فكر في نفسه ونزواته عوض أن يفكر في مصالح الناس. قد يقولون أن كميات الأمطار كانت استثنائية، صحيح؛ لكن لماذا تسقط القناطر؟ وتهدم الطرق؟ الم تنجز لحماية الناس من هول السيول والأودية؟ اعتقد أن كل مشاريع انجاز المنشآت الفنية في الأودية، دائما تكون نتيجة لدراسات تقنية متعددة يشرف عليها مهندسون واطر لها خبرة في هذا الميدان، وعلى ضوئها يتم رصد الميزانيات، وما أدراك من ميزانيات؟ ولكن المشكلة في الانجاز، تصرف الأموال المرصودة، لا احد يراقب الأشغال، لا احد يراقب الجودة، والجميع خارج القانون. لو كان الشعب يعلم ما يجري داخل مكاتب المسؤولين الكبار والعمال ورؤساء الجماعات وفي جلساتهم السرية، لسبق طوفانه طوفان الشتاء والخريف. أول درس يمكن استخلاصه في محنة هذه الفيضانات هو طريقة تمرير الصفقات العمومية، وعملية انجاز المشاريع، وجودة الخدمات العمومية من صحة وإنقاذ وأمن ووقاية. مثلا في مدينة افني، كيف تعطى رخص البناء في واد خطير يصب في البحر، وهو عبارة عن دلتا، سبق وأن عرف فيضانات عديدة، أخطرها سنة 1986 حين جرفت السيول حديقة الحيوانات التي تركها الاسبان في المدينة ومجموعة من المنشآت. كيف تنجز قناطر ضعيفة وغير مؤهلة تسقط في الربع الساعة الأولى من سقوط المطر... الآن ما العمل ؟ سننتظر انجاز مشاريع 5 ومنشآت فنية أخرى في وقت وجيز، لأن المؤسسات الوصية لم تقم بواجبها في حينه، لم تراقب الوضع قبل وقوع الكارثة. الأمر جد مكلف بالنسبة لمزانية الدولة. ولا نريد أن تكون هذه الفيضانات فرصة أمام المفسدين، في مثل هذه الكوارث ينتعش البعض وراء خطابات الإصلاح والترميم.