عادة ما تأتي الأزمات مفاجئة ضاربة بقوة، بحيث يقف الإنسان إزاءها عاجزا أو يتخيل أنه عاجز، أو في أحايين أخرى يتظاهر بالعجز لأهداف تتعدد ولن يتم حصرها في عجالة. لكن رغم ذلك فإن للشدائد بعضاً من الإيجابيات، حيث تتحول إلى وسيلة مثالية لكشف المواقف والحقائق والنوايا. لهذا فإن الأمطار التي تهاطلت على مناطق الجنوب والجنوب الشرقي خلال هذا الأسبوع، عرت كل شيء.. جرفت التربة وأغرقت المنازل،واقتلعت الأشجار وجرفت البساتين، وأماتت المواشي وقتلت العباد، وحطمت القناطر وقطعتى الطرق، وحاصرت فيضاناتها مدنا وقرى وعزلتها عن باقي المناطق. وبلغة الصحافة فقد أحدثت خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات. لكنها رغم ذلك أزالت الكثير من القشور عن النفوس، وبينت حقائق السرائر، ومسحت كل ألوان الطلاء عن المواقف، وأسقطت أطنانا من أوراق التوت التي تتستر بها كل الضمائر الميتة أو المستترة وراء وهم الحياة. وكشفت عن تدليس المدلسين، وأطفأت بريق النفاق في عيون الغشاشين. لم تدع هذه الأمطار شيئا لم تبين حقيقته. وأول شيء فعلته هو اختبار البنيات التحتية المختلفة للكثير من المدن والقرى.. لقد قامت بما لم ولن تقوم به فرق كبيرة من الخبراء والمهندسين، فعصفت بكل ما هو رديء، وهي بذلك أفضل لجنة تفتيش تواصل عملها بتفان وإخلاص وإتقان، وتتوصل إلى حقائق صادمة. وأول حالات الغش التي ضبطته هو حال الطرق والقناطر ومتانة الدور والمنازل والبنايات. ففي زمن قياسي رأينا القناطر تتهاوى كأعواد القش أمام السيول الجارفة، في حين بقيت قناطر تعود إلى أكثر من مائة سنة، ولم تبن إلا بالتراب والحجارة.. جرفت السيول تجزئات سكنية أقيمت بقدرة قادرين في مجاري الأودية. والوادي كالحمار لا ينسى طريقه أبدا. يحق لنا أن نطرح سؤالا مشروعا بقوة: ترى من المسؤول؟ في رأيي المتواضع،أعتبرها مسؤولية تتعدد أطرافها، لكن المسؤولين الحقيقيين هم المشرفون المباشرون على عملية إنجاز الصفقات وإخراج المشاريع، ومنفذو الأوراش ومراقبوها والساهريون على كل مراحل إنجازها. وإن كان المقاولون هم المسؤولون بالدرجة الأولى.. لكن الضمائر هنا هي الأكثر مسؤولية، والمواطن، بغض النظر عن تراتبية ودرجة مواطنته، إذا لم يفكر إلا في نفسه وجيبه ومصالحه، فإنه يستطيع بكل وقاحة أن يبيع وطنه كله متى رأى السعر مغريا. وهنا لا بد أن نؤكد أن الوطنية الحق لا تتبدى دائما في الدفاع عن الوطن بالروح والدم والسلاح، لكن الوطنية تورق وتزهر في النفوس وتثمر حبا لا يضاهى للوطن يسمو إلى درجة الإشراق الصوفي والحلول والانصهار..هناك معركة أكبر وأنبل تمتحن أصالة الوطنية وتجلي حيقيتها من زيفها، وهي مقاومة الفساد البغيض الذي تتعدد وجوهه القبيحة، وهو أشد أعداء الوطن شراسة، لأنه يستطيع أن يتخفى ويتلون ويتحول كمارد أسطوري، وكلما تكاثر وتعددت بناته، نزل بالوطن إلى أسفل درك التخلف والفقر والجهل والمرض.وما من بلد استشرى فيه الفساء إلا وانحط إلى الحضيض.. و الحط بالوطن هو ما يفعله المسؤول المرتشي ليكسب نفعا ماديا زائلا، وهو ما يفعله المقاول الراشي ليفوز بصفقة ستزول آثارها المادية يوما مهما كان الربح طائلا، لكن الفاتورة الثقيلة سيؤديها الوطن والمواطن على حد سواء.. يؤديها الوطن من رصيد تقدمه ونمائه، ويؤديها المواطن من دمه ودم أسرته و ممتلكاته. وهكذا يتبدى لنا بالواضح البين أن كل تلك القناطر التي تهاوت والطرق التي انجرفت، والمنازل التي انهدمت... إنما لعبت بها أيدي التدليس والرشوة والغش، فجاءت لجنة التفتيش الربانية لكي تبين الحقائق وتعري النفوس المريضة التي ما كانت تروم إلا مصالحها ولا تدخل مصلحة البلاد في أجندة اهتماماتها. كل ذلك وقع وكان الوطن والمواطن أكبر الضحايا.. وتتابع الأحداث التي تناقلتها وسائل الإعلام النظيفة والنزيهة التي تحملت مسؤوليتها فواكبت الكوارث لحظة بلحظة. لكن يأتي الطمع وووباء المصالح المادية دائما في مقدمة أوركسترا القبح التي يقيم لها الفساد مهرجانا مضمخا بالدم والقيح.. فقد انبرت جحافل من "صحافيي" ما يصطلح عليه بالصحافة الصفراء، وتباروا في اختلاق الكذب والبهتان، وتنافسوا في تهويل الأحداث في بعض المناطق، أو في طمس الحقائق في مناطق أخرى. وبقدرما تنامى التهويل " الإعلامي" رغبة في الرواج أو لحاجات كثيرة في النفوس، فقد مورس التعتيم الإعلامي على عدة مناطق كورززات وتنغير وتلوات بدواويرها المحاصرة بالسيول والثلوج والجوع والبرد وزكورة ومداشرها التي كادت تغرق في المياه، مرورا إلى مراكش والحوز وأكادير وإداوتنان وإنزكان أيت ملول والقليعة واشتوكة أيت باها وتارودانت وتيزنيت التي أغرقت المياه منازلها وهدمت جوانب من أسوارها التاريخية، ولا شيء يساعد أبناءها إلا الإمكانيات المحدودة للبلدية والسلطات المحلية والوقاية المدنية والمواطنين، وهي مجهودات فوق الطاقة، ولايمكن أن ينكرها إلا جاحد أو مستهدف لمنفعة آنية أو مؤجلة. أما جماعة أكلو التي تعتبر منكوبة بحق، فلم تسلط عليها الأضواء الإعلامية لحد الآن. ولولا ما ينشره شباب المنطقة من أخبار معززة بصور وفيدوهات على شبكات التواصل الاجتماع، لما بلغنا شيء عن حجم الكارثة التي أحدثها اجتياح واد أدودو الذي حطم كل شي، وترك الناس في الخلاء بعدما جرف منازلهم وماشيتهم وحتى مقابرهم وكل ما يملكونه من زاد وقوت يتقون به آلام الجوع، وكساء يدارون به زمهرير الشتاء الذي يتغلغل في ثنايا المفاصل وحنايا الأبدان. إقليمسيدي إفني كذلك لم ينج من هول الفيضانات، وكذلك دائرة الأخصاص وجماعاتها كقرية "ميرغت" التي أحاطت مياه الوديان بمداشرها، وخلقت هلعا كبيرا لدى السكان منذ يوم الخميس الماضي مخافة أن يجتاح الوادي المنازل، أما البساتين فقد هدم أسوارها وأعلنها مشاعة بين الجميع.. حجم المأساة كبير، ويفوق قدرة المسؤولين المحلين على الاحتواء، ولابد من إغاثة مركزية تلبي حاجيات المنكوبين في هذه المناطق. المسؤولية تقع على الجميع، مواطنين ومسؤولين ومنظمات المجتمع المدني، ولا مجال للمزايدات السياسية واستهداف المنافع من وراء كل عمل.. ويستحسن التخلق بأخلاق المواطنة الحق.. ويجدر بنا بذل الجهود والتضحية دون أن نسأل عن المقابل.. الظرف لا يتسع للملاسنات وتوزيع التهم وتحميل الأوزار لفلان أو علان.. لنكف عن النقد الهدام لكل غاية نبيلة تروم التخفيف من المعاناة، وحين تنقشع غيوم الأزمة، لابد من محاسبة كل من فرط عن عمد، ونشر الفساد في الأرض، وعرض سلامة الوطن وكرامته للعبث ولشماتة الأعداء، وحياة المواطنين للخطر وممتلكاتهم للهدر والضياع. وأخيرا أدعو المبدعين إلى اعتناق هموم أقاليم الجنوب في هذه اللحظات العصيبة التي تمر بها.. إنها جزء من المغرب.. جزء من الوطن .. جزء سماه الاستعمار الفرنسي :" المغرب غير النافع".