إن الإشكالية الأكبر التي تجلت بشكل أكثر بروزا في مسودة القانون التنظيمي للجهوية،تكمن أساسا في تردد واضح لدى صانع القرار بخصوص اختيارين جوهريين،يوجهان في حال الحسم في الانحياز لأحدهما باقي سياسات الدولة تجاه المجالس المنتخبة: الاختيار الأول: اختيار يدافع عن توسيع صلاحيات المنتخب الذي يستمد مشروعية التمثيل الديمقراطي من الانتخابات بناء على الفصل 11 من الدستور،و هو ما تأكد في عدة مقتضيات نص عليها الباب التاسع المتعلق بالجهات و الجماعات الترابية ،الذي اعتبر الجماعات الترابية أشخاصا معنوية تسير شؤونها بكيفية ديمقراطية (الفصل 135). بل ذهب أكثر من ذلك حين ألغى مفهوم الوصاية،مؤسسا لمفهوم التدبير الحر، بما يحيل عليه من منح حرية اكبر للمنتخب لاتخاذ القرارات التي يراها مناسبة بخصوص السياسات الترابية،في انتظار لحظة المحاسبة التي تعود للناخبين الذين يمتلكون وحدهم سلطة التقييم: "يرتكز التنظيم الجهوي و الترابي على مبادئ التدبير الحر"(الفصل 136)،في حين أحال المشرع الدستوري تحديد قواعد الحكامة المتعلقة بحسن تطبيق مبدأ التدبير الحر على القانون التنظيمي المنصوص عليه في الفصل 146منطق هذا الاختيار،لا يلغي من اعتباره الاختلالات الكبيرة التي يعرفها المشهد السياسي و الحزبي،مما ينعكس على مصداقية العملية الانتخابية التي يفترض أن تستمد منها مشروعية التمثيل.كما لا يلغي من اعتباره ضعف النخب التي تفرزها العملية و عجزها في أغلب الأحيان عن الاضطلاع بالأدوار المنوطة بها،إما بسبب الاستسلام لدوامة الفساد من مدخل الامتيازات التي تخولها مواقع الانتداب الانتخابي،و إما بسبب العجز و القصور و قلة الخبرة و الكفاءة التي يتطلبها تدبير الشأن الترابي. ومع ذلك يعتقد أصحاب هذا التوجه أن استكمال البناء الديمقراطي،لن يتأتى إلا بتكريس قوة و استقلالية المؤسسات المنتخبة،و العمل بالموازاة على معالجة الاختلالات المذكورة بإقرار إصلاحات سياسية شاملة ،تبدأ برفع جهات في الدولة يدها عن الأحزاب السياسية و عن العملية الانتخابية،و التوقف عن الاستثمار السلبي في الواقع المختل،الذي تحرص جهات معادية للديمقراطية على استدامته و اتخاذه ذريعة لإضعاف العملية الديمقراطية ،و تكريس منطق الوصاية،و الحد من صلاحيات المنتخب. الاختيار الثاني: اختيار يدافع عن وصاية الدولة على المؤسسات المنتخبة و ممارسة الرقابة القبلية و البعدية على مقرراتها،و هو اختيار يستند على خلفيتين اثنتين: + الخلفية الأولى: خلفية لا تحمل عداء للعملية الديمقراطية،و لا تستهدف المنتخب لذاته،غير أنها ترى أن واقع العديد من الأحزاب السياسية ،و واقع تدبير العملية الانتخابية،لا يفرز مؤسسات منتخبة بتركيبة يمكن الاعتماد عليها في التدبير السليم للسياسات الترابية و في خدمة مصالح المواطنين. لذلك يرى أصحاب هذا الرأي بعدم التسرع في تفويت كل الاختصاصات للمنتخبين،و الإبقاء على أشكال من الوصاية ضمانا لتطبيق القانون: و ضمانا للتصدي لنزوعات الفساد و استغلال النفوذ،التي عبر عنها المنتخبون في حالات ليست بالمعزولة أو الاستثنائية.هذا الاختيار ينحو نحو منطق التدرج و مواكبة العملية السياسية بالإصلاح،بالموازاة مع تطوير الترسانة التشريعية.لان التشريع،يجب ألا يخلق مسافة من الطوباوية و المثالية مع الواقع،حيث تنتفي إمكانيات التدخل لمعالجة الاختلالات عند حدوثها،مما يؤدي إلى هدر الموارد و إعاقة مسار التنمية الترابية. + الخلفية الثانية : خلفية تستبطن العداء المنهجي لمخرجات العملية الديمقراطية،و تخشى من انفلات دائرة القرار من مراكز النفوذ التقليدية،و تسليمها للمنتخب الذي يخضع لسلطة الشعب و ليس لأي سلطة أخرى.خاصة و أن نتائج العملية الانتخابية،إذا ما سلمنا باعتبارها المدخل الأوحد للقرار الترابي،قد تفرز نتائج يصعب التحكم فيها بما يضمن الحفاظ على المصالح المكتسبة. هذه الخلفية هي التي تحكم الدعوة إلى تشديد الخناق على المنتخب و ممارسة اشد أشكال الوصاية على قراراته و تضمين القوانين ما يسمح بالالتفاف على هذه القرارات و إلغائها عند الحاجة،و لم لا اتخاذ قرار عزل الرؤساء و توقيف المجالس و الحلول محلها في ممارسة السلط و الصلاحيات المخولة لها. إن ما يجب أن نحرص عليه و نحن نؤسس لمنطق جديد في التعامل مع الجماعات الترابية على أساس الجهوية،هو قطع الطريق أمام أصحاب الخلفية الثانية، و أن نحرص على ألا تكتب القوانين من محبرتهم ،لأنهم يرفضون الاستسلام للقاعدة الديمقراطية الكونية،و يقاومون لاستدامة منطق تقليدي لا يمكنه التعايش مع اختيار الجهوية المتقدمة و تقوية المؤسسات المنتخبة. في مسودة القانون التنظيمي للجهوية مقتضيات متعددة تتنافى مع مبدأ التدبير الح،و تتعلق باستماتة بمنطق الوصاية و الرقابة.سنعود في مقال لاحق للتفصيل فيها دون البحث في خلفياتها.