يعتبر إصلاح النظام اللامركزي وتطويره من أهم أسس تحديث أنظمة تدبير الشؤون المحلية وتطوير أداء الهيآت المنتخبة، كما يعتبر تجسيدا فعليا وميدانيا للديمقراطية وللحكامة الترابية. وإذا كان المغرب يحاول في الوقت الراهن يحاول إيجاد صيغ سياسية وقانونية لإعادة النظر في بنية الدولة وإعادة توزيع المهام والاختصاصات بين السلط والمؤسسات الدستورية، فإنه مطالب بالمقابل بوضع تصور عام لهذا المشروع الكبير، وبوضع أجندة سياسية وقانونية ومؤسساتية للتنزيل العملي للإصلاح السياسي والدستوري والقانوني، لا تقف عند إجراء انتخابات جماعية وجهوية، ولا تقتصر بالضرورة على تنزيل الجهوية المتقدمة التي تعد في صلب الإصلاح الديمقراطي.
وإذا كان الدستور الجديد قد فسح المجال لإعادة النظر في شكل الدولة الإداري وفي بنيتها العامة، فإن تنزيل مشروع الجهوية المتقدمة بعد المستوى الدستوري يعتبر مناسبة لاعتماد أساس قانوني ومؤسساتي جديد لتدبير المجالات الترابية بالمملكة، وإرساء نظام لامركزي متكامل يسمح فعليا للساكنة بتدبير شؤونها التنموية بواسطة ممثليها المنتخبين، وضمان فعالية ونجاعة التدبير المجالي للتنمية.
فمشروع الجهوية المتقدمة، كورش وطني كبير، سيكون مناسبة لترتيب عناصر الإصلاح السياسي وتحديد مجالاته وتنزيلها قانونيا ومؤسساتيا، كما سيكون محطة سياسية ملائِمة لإعادة النظر في التنظيم الإداري واللامركزي للمملكة.
ويمكن اعتبار الجهوية المتقدمة بمثابة إرساء لنظام أكثر تقدما من النظام المطبق حاليا والخاضع لدستور 1996، بمعنى أن عملية الإصلاح يجب أن تنطلق من أجرأة فصول الدستور الجديد عبر توسيع اختصاصات الجهات وإعادة تركيب البنيات الجهوية، وتخويل المنتخبين الاختصاصات التقريرية والتنفيذية والمالية وتدبير المشاريع، وإيجاد نظام يعزز الاستقلالية المالية والتدبيرية للجهات وإعادة النظر في علاقتها بالسلطات المركزية، إضافة إلى اعتماد نظام مالي جهوي ملائم للحاجيات التنموية الجهوية.
فعلى مستوى تشكيل المجالس الجهوية المنتخَبة، فيتطلب الأمر أساسا توفير الشروط الضرورية التي تمكن من فرز مؤسسات تمثيلية حقيقية للسكان، وتشكيل مجالس جهوية قادرة على تدبير التنمية المجالية باستقلالية في القرار وفي التصرف وقدرة على التدبير والتخطيط الاستراتيجي، مما يؤكد ضرورة جعل الانتخابات الجهوية مجالا للتنافس بين البرامج التنموية للأحزاب كأساس انتخابي، مع اعتماد عتبة ملائمة ونظام متطور للاقتراع يسمح بتشكيل مجالس جهوية منسجمة وذات تمثيلية حقيقية.
أما التقطيع الترابي الجهوي، الذي يعد أساس التقسيم الانتخابي، فيعتبر عملية سياسية أولا قبل أن تكون تقنية، ولابد من أن تعتمد على المقاربة التنموية وعلى الحد الأدنى من الانسجام بين مكونات الجهة، وعلى القدرة على تواصل أفضل بين أرجائها، وهو ما يتطلب تحديدا أوليا للنموذج الجهوي الذي يجب أن يعتمده المغرب، مما يضع أساس تحديد مهام الجهات ومجالات تدخلها ودرجة استقلاليتها على مستوى النص الأساسي للمملكة.
وهذا ما يدفع لاعتماد ترسانة من الإجراءات السياسية والقانونية المتعلقة بالنظام الجهوي الذي أصبحت الدولة تقوم على أساسه، وفقا لصريح الدستور الجديد، كما يتطلب الأمر شروطا سياسية أساسية تتلاءم ومبادئ الحكامة الترابية وتسمح بتنزيل أمثل لمشروع الجهوية على أرض الواقع.
الإطار القانوني مدخل أساسي لجهوية حقيقية:
يعتبر الإطار القانوني والتنظيمي من أهم المجالات المتعلقة بإقرار الجهوية وتطوير النظام اللامركزي بشموليته، فتنزيل النصوص القانونية لا يعتبر هدفا في حد ذاته، وإنما يجسد التعبير عن التطور المجتمعي والتنزيل العملي لمبدأ التدبير الجهوي للشأن التنموي.
فالجانب القانوني يتمثل، من جهة، في تجاوز النواقص والعيوب التي نتجت عن تطبيق النظام الجهوي الحالي، خاصة فيما يتعلق بضعف المجالس المنتخبة أمام هيمنة ممثلي السلطة المركزية، ومن جهة ثانية يرتكز على ترسيخ الإطار الديمقراطي على مستوى انتخاب المجالس الجهوية وهيآتها التنفيذية، وكذا اختصاصاتها وطرق اشتغالها، إضافة إلى تنظيم وتأطير العلاقة بين الجهات والسلطة المركزية تدبيريا وماليا.
وبالموازاة مع ذلك، يتعين مراجعة المنظومة المالية واعتماد نظام خاص لتوزيع الموارد العمومية (النسبة من المداخيل الضريبية) بين الميزانية العامة للدولة وميزانيات الجهات، وذلك عبر تحويل نسب من ضرائب الدولة، التي يتم تحصيلها على مستوى المجالات الترابية، لميزانيات الجهات المعنية، مع إقرار معايير واضحة وقواعد دقيقة لتوزيع موارد الحساب الخاص بالتضامن الجهوي باعتباره صندوقا للموازنة المالية Fond de Péréquation بهدف ضمان حد أدنى من التوازن والتضامن بين الجهات ودعم المناطق الأقل مردودية والأكثر حاجة للتنمية وللبنيات التحتية، كما هو معمول به في عدد من الدول المتقدمة.
كما يتطلب إنجاح تجربة الجهوية المتقدمة اعتماد إصلاحات قانونية عميقة، تبدأ من نظام الوظيفة العمومية الجهوية، ووضع الإطار العم للاختصاصات المتعلقة بإعداد التراب والتخطيط العمراني وتدبير الملك العام أو الخاص للجهة وباقي الهيآت اللامركزية...
أما النظام الانتخابي فيعد أحد أهم المحاور المعتمدة في قياس مدى تطور النظام اللامركزي بشكل عام، والنظام الجهوي على الخصوص، بحيث يتعين اعتماد نمط اقتراع وعتبة يسمحان بتشكيل هيآت ممثِّلة بشكل منصف للسكان على المستوى الجهوي، كما يمكِّن من إفراز مؤسسات منتخبة ذات قوة سياسية فعلية تمنحها استقلالية أكبر على المستوى التدبيري والتنموي.
وغذا كان الدستور الجديد قد منح لرؤساء المجالس الجهوية الاختصاص التنفيذي، فهذا يعني أن المكاتب المسيرة للجهات أصبحت المسؤولة عن تدبير الشأن الجهوي وعن التعاقد باسم الجهة وإعداد وتنفيذ الميزانية والبرامج والمشاريع التنموية، والتقاضي باسم الجهة، وهذا ما يُفترض أن يتم تنزيله عبر قانون تنظيمي متكامل يضم المقتضيات المتعلقة بشروط وشكليات تدبير الجهات لشؤونها.
غير أن الإطار القانوني لا يكفي وحده، رغم أهميته، لتنزيل الدستور الجديد على هذا المستوى، فالأمر يرتبط أيضا وبشكل خاص بضرورة اعتماد المقاربات العلمية والتنموية للتقطيع الترابي، والابتعاد عن اعتبار الإطار الترابي للجهة مجرد تجميع للعمالات والأقاليم (كما هو الحال الآن) والتي تعد بدورها تجميعا للجماعات الحضرية والقروية.
الشروط السياسية لإنجاح مشروع الجهوية المتقدمة:
تعتبر الاستحقاقات الانتخابية الجماعية والجهوية المقبلة، في ظل الدستور الجديد، محطة حاسمة ستمكن من رسم خريطة سياسية جديدة، على إثر نتائج انتخابات مجلس النواب التي قلبت كل المعادلات وسجلت فوزا ساحقا لحزب العدالة والتنمية.
فهي ستمثل المحطة الثانية لتنزيل الدستور الجديد، وستكون أساس تشكيل مجلس المستشارين القادم الذي ستجرى الانتخابات الخاصة به خلال الأشهر القادمة.
فلا يكفي الآن الحديث عن الإصلاح الدستوري وتنظيم انتخابات 25 نونبر الأخيرة للقول بأننا أعدنا تشكيل مشهد سياسي جديد يقطع مع الكوارث السابقة، كما لا يمكن اعتبار تشكيل الحكومة الجديدة هدفا في حد ذاته ونهاية مسيرة الإصلاح.
وعلى هذا الأساس لا يمكن الحديث عن إصلاح سياسي ودستوري حقيقي مع بقاء النخب المحلية المنتخبة منذ 2009 والتي تمثل أساسا انتخابيا لمجلس المستشارين الحالي الذي يوجد أصلا في وضع مناقض للنص الدستوري الجديد.
ولا يمكن التفكير في انتخاب غرفة ثانية جديدة ومواكبة لمنطق الإصلاح السياسي في ظل التدبير الحالي للعمليات الانتخابية التي تطال الجماعات الترابية والجهوية والغرف المهنية، على اعتبار أن نتائج هذه الانتخابات تحسم مسبقا انتخاب مجلس المستشارين القادم.
كما لا يمكن تصور بقاء نفس البنية الوزارية المتحكمة في جميع العمليات الانتخابية بنفس آليات الاشتغال والتحكم المسبق في نتائج الانتخابات.
فوزارة الداخلية تمتلك آليات حاسمة في رسم التوجهات العامة للعمليات الانتخابية، فهي من يحدد نوع المراجعة التي ستطال اللوائح الانتخابية العامة، وإدارتها الترابية هي من يتحكم في التقطيع الإداري والجماعي والذي يعتبر أساس التقطيع الانتخابي، وجيش رجال السلطة وأعوانها التابعين لها ينفذون ما يصدر إليهم من تعليمات بهذا الخصوص.
فتنظيم الانتخابات الجهوية والجماعية بنفس منطق اشتغال وزارة الداخلية سابقا يتناقض مع روح ومنطق الحقبة الدستورية الجديدة، ولن يؤدي إلا إلى إفراز نفس النخب الفاسدة "والأعيان وأصحاب الشكارة"، والغدارة الترابية ببنيتها الحالية اعتادت تاريخيا الاعتماد بالكامل على هذه الفئة التي يسهل التحكم فيها وتوجيهها بتعليمات شفوية ومباشرة، وعادة ما يؤدي التقطيع الانتخابي إلى تقوية حظوظ هذه الفئات المفسدة للعمليات الانتخابية.
إن تنزيل مشروع الجهوية المتقدمة يعتمد بالأساس على قلب معادلة التدبير الترابي للمملكة، عبر منح الهيآت اللامركزية الصلاحيات الأساسية لتدبير التنمية المحلية، بمقابل توفير الشروط الملائمة لإفراز مجالس تمثل حقيقة الساكنة مجاليا، وتفرز مجلسا للمستشارين يكون بالفعل مجلسا للجهات وللجماعات الترابية ويهتم أساسا بمجالات عملها وتنميتها. وإذا أخلف المغرب موعده مع تنزيل المحاور الأساسية للإصلاح الدستوري، وعلى رأسها إعادة النظر في بنية الدولة وطريقة اشتغال الإدارة الترابية، فإن الإصلاح السياسي والدستوري الذي بدأ فعلا سيكون في واد، ونتائج التنزيل العملي تشريعيا وتنظيميا وعمليا وانتخابيا في واد آخر.
فلا يمكن تصور نظام جهوي تنموي حقيقي بنفس السلوكات وبدون ضمانات قانونية وسياسية، وفي ظل الداخلية الحالية وبالتدبير الكارثي للعمليات الانتخابية من قبلها، وعلى رأسها تشجيع جيش من أباطرة الانتخابات وناهبي المال العام ومفسدي التعمير ومحترفي فضائح العقار، والذين يتم استعمالهم بسهولة في صنع الخرائط الانتخابية الجاهزة. إن الحفاظ على نفس الآليات السياسية والقانونية، والإبقاء على نفس الفاعلين في الإدارة الترابية، سيعمق الشرخ بين المواقف السياسية والانتخابية للمواطنين والنتائج الانتخابية على أرض الواقع.