لن ينسى إدريس بنعدو عامل إقليمتزنيت الساعات الخمس التي قضاها ظهيرة أول أمس بمعتصم منطقة توزونت أمام منجم الذهب ما حيي، بدوره انتقل لدى المحتجين بعين المكان ضد معمل الذهب الذي حكم على واحتهم بالاجتفاف، تقلبات الطقس حولت شكله من عامل صاحب الجلالة ذي الهندام الموحد الرسمي إلى ما يشبه عامل بناء في ورش، بفعل غبار الرياح العاصفية القارسة المحملة بغبار المنجم تلتها عاصفة مطرية لا مكان للاحتماء منها، لقاء بدأ بصلاة الجنازة على المنطقة تلاه الجفاء والشعارات والصراخ وقصائد الهجاء العفوية على مسمع العامل، وانتهى في الرابعة والنصف بعد الزوال بكأس شاي وغذاء فوق الحصير تقاسمه بسطاء توزونت مع عامل الإقليم عندما تواضع وتسلل إلى قلوبهم بحوار هادئ انتزعه بشق الأنفس، لقاء لا ينسى بدأ بصلاة الجنازة أدوها لوحدهم معزولين، وانتهى بصلاة العصر أداها إلى جانبهم المسؤول الأول عن الإقليم ثم غادر بعد حوار تفاهم على وقع الزغاريد. تحول جديد بدأت الدولة تسلكه، لم يعد العامل محاطا بموكب أمني من الدراجين، ينتظر لتفرش طريقه بالزرابي لكي يحل بمناطق التدشين. كانت الساعة تجاوزت منتصف الظهيرة بقليل عندما حل عليهم بسيارته وبجانبه سائقه. توجه رأسا بلا حرس أو عسس نحو المحتجين حيث لا يوجد سوى عونين من السلطة، ليدخل في محاولة حوار عسيرة مع ساكنة معتصمة امتلأت أفئدتها حنقا مند 7 سنوات بعد الشعور بالظلم والمهانة والغبن، وبعدما "سرقت آبار المنجم ماء الواحة فحوت جنها إلى رماد". لحظات مؤثرة وعصيبة انقلبت رياحها أمطارا، لم يتمكن عامل الإقليم من محاورتهم إلا بعدما تحلى بصبر طويل، وديبلوماسية ناذرة في الحوار والشعور بالتضامن معهم في محنتهم مع شركة ظل االمسؤولون يعتبرونها سيادية لا ينبغي الاقتراب منها، رغبة إدريس بنعدو الحقيقية في فتح كل المشاكل على مائدة الحوار أو بالتصحيح فوق حصير الحوار في ذلك المعتصم وسط الأمطار والرياح. عامل تزنيت في قلب العاصفة ما أن توقفت سيارته حتى علت الحناجر بالشعارات ظل متسمرا غير بعيد عنهم تلتقط أذناه عن قرب ما يقال وسط عاصفة غبارية، وعاصفة من الاحتجاجات يبحث عن منفذ لإخمادها. جاؤوا لليوم الثاني للاعتصام أمام المنجم مطالبين أن يرجع مسؤولوه الماء الذي سلب منهم بعد حفر 6 آبار بعمق 2300 متر. مند السادسة والنصف صباح بدوار توزونت، تجول البراح في الدوار يحث البيوت على الخروج نحو منجم الذهب للاعتصام لليوم الثاني. وبالفعل كانوا هناك الرجال يطوفون بحواجزه السلكية جماعة بينما النساء المدثرات بالزي الأسود المحلي يلحقنه. شكلن فرقة ثانية للطواف والاحتجاج. توقف العامل في لحظة ليترك الأشكال الاحتجاجية تتواصل " لا ذهب لا فضة...... العين ديالنا ولا بد "، وشعار "جماعة أفلا إغير.... مشاركة في التزوير والتدمير "، بدورهم وبحماسة جياشة تناوب على ساحة الاحتجاج الشعراء العفوييين " أنظام " ارتجلوا قصائد عفوية تنتقد منجم الذهب الذي حول ماء واحتهم إلى مصنعه فأصبحت جنة واحتهم الخضراء أرضا قاحلة. ومن بين من لفت انتباه العامل "زكية أنوفلى" سيدة عصامية في حوالي الخمسة والأربعين من العمر، تقود تمرد نساء توزونت، شاعرة منطقتها العفوية رغم أنها لم تتمدرس، نظمت القصائد الغاضبة في وجه العامل بلحافها وهندامها الأسود، وشاركت الرجال الحوار للحديث عن وضع نساء المنطقة. ظل المسؤول الأول يتابع باهتمام ويستفسر عن مضمون هذه القصائد. قبل أن يشرع في التسلل إلى قلوبهم، بعدها قال لهم ضمن ما قاله "إنني أشعر بما تعانون منه، وهي مسؤولية قديمة وجدتها قائمة عند تعييني على رأس الإقليم من طرف جلالة الملك، وأنا الآن لأحل كل المشاكل وأعدكم أن توزونت ستعود جنة كما ألفتموها، كما اشترط أن تتوفر أولا قبل الدخول في الحوار ثلاث خصال " الصدق فيما بيننا، و الحوار البناء، والاحترام المتبادل فدعونا نتوجه إلى الحوار". المسؤول الأول فوق حصيرة الحوار بعدما تمكن العامل من جذبهم للجلوس على حصير الحوار بالمعتصم وسط أمطار متقطعة، انضم إليه على عجل المدير الإقليمي للفلاحة، ورئيس دائرة تافراوت، وقائد قيادة أفلا إغير، تناول الكلمة أحد شيوخ المنطقة منهم المسن إبراهيم بوحماد الذي غالبته الدموع، من جديد وهو يحكي للمسؤولين عن نكبة المنطقة.قبل أن يأخذ الكلمة محمد أيت مسعود مسن في حوالي الأربعة والستين من العمر، روى كيف كانت المنطقة خضراء يانعة تجري مياهها وتدير طواحين الحبوب، مكتفية بما تجود عليها الأرض من نعم، فجاء المنجم سنة 2004 ، حفر الثقوب متجاهلا الساكنة، حتى طرقاتها اقتلع المنجم " زفت " طرقها المعبدة بعشرات الشاحنات المقطورة المتوافدة عليه كل يوم. تحولت إلى غبار متطاير وأحواض سامة تضررت البهائم من شربها. يقول محمد أيت مسعود في حضرة العامل إن المنطقة راحت إلى حيث لا رجعة، وأضاف " حنا أ السيد العامل صلينا على توزونت البارح صلاة الجنازة" دخل محمد في لحظة بكاء ونحيب متواصلة لم يتمكن جراءها من متابعة الحديث حرارة اللقاء أنست الجموع برودة الطقس وما يرافقها من أمطار. مشهد إنساني مؤثر، دفع العامل لأخذ الكلمة والاعتراف بوجود مشاكل حقيقية بعد إنشاء المنجم اعتبر أن هذه المشاكل قائمة قبل تحمله المسؤولية، وأضاف " إنني اليوم من موقع مسؤوليتي هنا لأحل كل هذه المشاكل، ستعود توزونت كما عهدتموها خضراء فأرجوكم أن تعطوني فرصة للحوار " يقول إدريس بنغدو. ويضيف إنني قد اطلعت على جميع الوثائق المتعلقة بالمشكل، اطلعت كذلك على المشاريع المنجزة بالمنطقة من طرف شركة المنجم.. فالعامل استدعى مدير المنجم فحضر بدوره إلى المعتصم، واقترح تكوين لجنة من المعتصمين إلى جانب الجمعية المحلية، وحدد موعدا عاجلا بعمالة تزنيت سيتم الاتفاق حوله بين يومي الثلاثاء والخميس المقبلين، العامل وعد بإحضار الوكالة الجهوية للحوض المائي، والمديرية المكلفة بتنمية الواحات إلى جانب إدارة المنجم، وسيتم الانكباب على تنمية الواحة. ثم التفت نحو زكية شاعرة منطقتها المدافعة عن حقوقها واعدا إياها بالمساعدة على إنشاء تعاونية تاركا لهن مجال اختيار النشاط الذي يرغبن في مزاولته. الختام: صلاة العصر والزغاريد بعد صلاة الجنازة رغب العامل والوفد الذي التحق به في الذهاب، غير أن المعتصمين أظهروا من جانبهم جوانب الكرم المغربي، " ولله لا مشيتي حتى تشرب كاس ديال أتاي ونتشاركوا الملحة"، بالفعل جهز المعتصمون الشاي وتقاسموه مع مسؤول ظلت الفرائص ترتعد عند اقتراب العمال من المواطنين. فبعد الغذاء كان أذان العصر قد ملأ فضاء المكان، أدى الجميع صلاتهم فغادر الموكب تحت وقع الزغاريد. قبيل الزيارة كان المعتصمون يتداولون كل الحلول الممنكنة تراوحت حواراتهم بين الاعتصام أمام العمالة حيث سينقلون أطفالهم ومواشيهم وبين حل يؤيده عديدون منهم وهو النزوح الجماعي من المنطقة بتفريق الأسر على أقربائها بدواوير ومناطق مختلفة، قرروا في لحظة يأس أن يتركوا " الجمل بما حمل لمنجم الذهب بتوزونت بجماعة أفلا إغير" . توزونت: من الماء والخضرة إلى العطش والغبرة يعيش المعتصمون على وقع نوستاليجيا المكان، عندما يلجؤون للحكي يبكون كمن طرد من فردوس مفقود، يحكي حيمي 73 سنة أن المنطقة ظلت خضراء يانعة بخضرواتها الطبيعية وسط واحة أشجار اللوز والنخيل والزيتون هبة منبع عين "تامينوت" يعتبره أهالي البلدة قلبا نابضا لحياتهم وسببا لاستقرارهم وارتباطهم بالأرض رغم وعورة الظروف وقساوتها. فجريانها كان قبل القرن العاشر الهجري في عهد قبيلة بني يزيد ، ومنها بلدة توزونت، تقدر ساكنتها في ذلك الوقت بحوالي 150 أسرة حسب إحصائية تم استيقاؤها من المؤرخ إبراهيم الحساني"، ظلت تحقق اكتفاءها الذاتي من الحاجيات الغذائية من منتجات فلاحتها إلى سنة 2003 عندها بدأ الانحدار بعدما حط المنجم هناك وشرع في حفر ثقوب عمقها 2300 مترا، تراجع تدريجيا ما عين تماينوت ومختلف المجاري، توقفت كذلك طاحونة "حيمي " عن سحق الحبوب بتوقف الماء، وقودها الأساس، قصة حيمي والطاحونة بدأت مند أن قدم إلى المنطقة وتمكن من إصلاح عطب طال دواليبها، فجزاء له كلفته الساكنة باستخلاص فوائد الطحين لصالحه، يتذكر أنه كان يطحن وزن "عبرة" من الحبوب بنصف درهم. خلال التسعينيات اظهرت الأبحاث أن المنطقة تخفي في بطونها ذهبا مثلما يظهر سطحها الخضرة. استبشر الناس خيرا وعمت السعادة بينهم، وانتظروا حلول السعد والهناء بقدوم الشركة التي انتظروا منها تشغيل شبابهم وتهيئة طرقهم وتزويدهم بالكهرباء وتقريب المرافق والخدمات العمومية منهم، ونماء مالية جماعتهم، إلا أنه ومع مرور الأيام والسنين، يقول حيمي وزملاؤه المعتصمون تبخرت الأحلام وتحولت إلى مآسي ومعاناة لم تكن في الحسبان، فعوض تنمية وضعية الطرق ساهمت الشاحنات العملاقة للشركة في تدهور ما وجدته بالمنطقة من الشبكة الطرقية، كما تدهورت المؤشرات الصحية لعموم الساكنة نتيجة الغبار الكثيف والمتصاعد دون انقطاع من المنجم والطرقات المؤدية إليه، إلى جانب الروائح المصاحبة لخروج المياه الصناعية العادمة وكذا المنبعثة من البرك الراكدة لتلك المياه، يتحسر السكان لكون الشركة لم تشغل من من الأهالي أي فرد ، تم استقدام عمال أنشأت لهم منطقة سكنية حول المنجم مفصولة عن الدواوير المجاورة بسياج من الأسلاك الشائكة. و جاءت فيما بعد مرحلة النضال لإسماع أصوات عطشى مبحوحة بالغبار، اعترضوا طريق الشاحنات احتجوا دون مجيب، بعدها جاء الرحيل، فراغ سكاني خطير احتل المكان إثر الهجرات الجماعية إلى المدن الداخلية و الشمالية للمملكة التي استنزفت أغلب الموارد البشرية لها. منجم الذهب: هذه أسباب اجتفاف توزونت اعترف حسن نصيب مدير منجم الذهب " أقا كولدن " بوجود مشاكل طارئة على المنطقة، معتبرا أن مؤسسته لا يد لها في ذلك وأن دراسات في هذا الصدد أجريت من قبل إدارة الحوض المائي حول إن كان المنجم سببا في المشكل التي حلت بالمنطقة. رغم ذلك يضيف المدير أن المنجم قام في إطار الدعم الاجتماعي بحفر بئر للشرب وربطه بقنوات إسمنتية على طول 4 كلم ونصف، يفرغ حمولته المائية إلى العين التي نضبت، وأن جريان الماء بدأ به مند سنة 2008 ، وأكد حسن نصيب أن المنجم عقد اتفاقية مع الجماعة القروية لكي تتكلف بأداء فواتير الكهرباء المستغلة لضخ الماء، غير أنها رفعت يدها عن الأداء متنصلة من التعاقد السابق، وأدى مكانها المنجم فاتورة الكهرباء لدرء الاحتقان، بعدها استمرت الجماعة في تنصلها لينقطع الماء عن السكان وظل الوضع على هو عليه وعندما خرج الناس للاحتجاج حاليا قام المنجم بمبادرة أداء فاتورة الكهرباء وقيمتها 40 ألف درهم في غياب مصالح الجماعة. واعتبر مدير المنجم مطالب الساكنة بإغلاق الآبار الستة تعجيزيا، وأنه حكم بانتحار مشروع يشغل 1400 من اليد العاملة. كما نفى المسؤول أن يكون المنجم ترامى على أراضي " أزكيغ " وغيرها موضحا أن كل الوثائق تؤكد الاقتناء من جماعة " أفلا إغير ". مدير المنجم أضاف أن المؤسسة منخرطة فضلا عن ذلك في مجموعة من الأعمال الاجتماعية ومستعدة للانحراط في أي مبادرة اجتماعية أو إنسانية. إنجاز إدريس النجار/ محمد بوطعام عن جريدة الأحداث المغربية