هكذا تحدث زائرو طنجة بمحبة وإخلاص تجاه هذه المدينة العريقة في التاريخ، لينقلوا لنا صورة ثابتة بعيون أجنبية تكشف عن عبق التاريخ المشخص في مواقعها التاريخية التي أصبحت محكومة بالاندثار والتلاشي من غير إحساس بعقدة الذنب تجاه الأسلاف ولا الأخلاف.وسيكون مدخلنا في عرض هذه المرثية انطلاقا من استحضار الوضع المأساوي لباب البحر، وأسوار المدينة العتيقة التي ضربها زلزال الإهمال، وتكالبت عليها الأطماع من كل جانب . يقول قائل ممن تغنوا بمجد طنجة : ( إن تاريخ مدينة طنجة قديم قدم التاريخ، حيث عا شت حضارات ما قبل تدوين التاريخ، وعاشت أيضا فترات تاريخية من التاريخ القديم والحديث، باعتبارها تشكل حالة فريدة من نوعها في الجغرافيا، كبوابة لحوض الأبيض المتوسط نحو المحيط الأطلسي، وأيضا باعتبارها النافذة التي تطل منها إفريقيا نحو أوروبا عبر فتحة لا تتعدى (12 كيلومترا ). وتقول شاهدة عيان :( تقع طنجة على ربوة عالية مطلة على مضيق جبل طارق بمواجهة الشاطئ الإسباني، بين البحر الأبيض والمحيط الأطلسي، وقد أضفى عليها عبق التاريخ نكهة خاصة بأساطيره المثيرة الممتعة. (إن بقايا عمائر ومباني طنجة القديمة بأشكالها الرومانية والأندلسية والأوروبية، مازالت خير شاهد على تاريخ الموجات البشرية المتتالية التي مرت بها، فقد سمعت طرقات المدينة وقع حوافر خيول الفينيقيين والقرطاجنيين والرومان والعرب. كلهم جاؤوها وتركوا بصماتهم فيها. ثم كان الفتح الإسلامي عام 707م على يد موسى بن نصير الذي ولى عليها القائد طارق بن زياد، فانطلق من طنجة على رأس الجيش الإسلامي، عابرا المضيق الذي أخذ اسمه ليفتح الأندلس عام 711م، ومنذ ذلك اليوم عظم شأن طنجة، وأصبح اسمها يطلق على المغرب الأقصى كله، بعد أن تحولت إلى مركز وجسر تعبر منه قوافل الجيوش والعلماء والأدباء وكل من يود التوجه إلى الأندلس، ثم من طرف المرابطين والموحّدين الذين جعلوا منها معقلاً لتنظيم جيوشهم وحملاتهم). ويقدم أحد الكتاب وصفا لمعمار المدينة القديمة انطلاقا من الأسوار ( التي تمتد على طول 2200م، مسيِّجة بذلك الأحياء الخمسة للمدينة العتيقة: القصبة، دار البارود، جنان قبطان، واد أحرضان، وبني إيدر. وبنيت هذه الأسوار على عدة مراحل، والتي من المحتمل جداً أنها بنيت فوق أسوار المدينة الرومانية "تينجيس". وتؤرخ الأسوار الحالية للفترة البرتغالية (1471-1661م)، إلا أنها عرفت أشغال ترميم وإعادة بناء وتحصين خلال الفترة الإنكليزية (1661-1684)، ثم فترة السلاطين العلويين الذين أضافوا تحصينات عديدة في القرن الثامن عشر، حيث دعّموا الأسوار بمجموعة من الأبراج: برج النعام، برج عامر، برج دار الدباغ، وبرج السلام. كما فتحوا فيها 13 باباً، منها: باب القصبة، باب مرشان، باب حاحا، باب البحر، باب العسّة، باب الراحة، وباب المرسى.. ويحتل قصر القصبة أو دار المخزن موقعاً استراتيجياً في الجهة الشرقية من القصبة. ومن المرجح جداً أنه استعمل خلال فترات أخرى من التاريخ القديم. وقد بُني قصر القصبة، أو قصر السلطان مولاي إسماعيل، من طرف الباشا علي أحمد الريفي، على أنقاض "القلعة العليا" الإنكليزية. وهو يحتوي على مجموعة من المرافق الأساسية كالدار الكبيرة، بيت المال، الجامع، المشور، السجون ودار الماعز والرياض. وفي سنة 1938م تحوّل القصر إلى متحف إثنوغرافي وأركيولوجي لطنجة ومنطقتها). فحينما نستحضر هذه الشهادات الرائعة عن طنجة في هذا المقام العالي، ونقارنها بما يجري على أرض الواقع بشكل معاكس للتيار، وفي أقصى درجات الانهيار، نصاب بالإحباط وتتحرك الأشجان، وتتقطع نياط القلب حزنا على ما حل بهذه المدينة المنكوبة. وهذه صور مقارنة تعكس رد فعل الجهات المسؤولة حول ما يجري على أرض الواقع من تدهور وانهيار كامل لهذه المآثر دون أن تتوفر أدنى خطة لإنقاذها من الضياع، بل إن ما يجري حقيقةهو الهدم وتغيير المعالم، وإنبات الأجسام الغريبة المشوهة التي تشكل نشازا داخل النسيج المعماري التاريخي. وخير مثال، هو صدور الأمر بقرار الهدم الذي طال مبنى مستشفى دار البارود المطل على الميناء خلال الأسابيع الماضية، تحت ذريعة تداعيه للسقوط ، واتفاع تكلفة ترميمه، علما أن هذا المبنى الموروث منذ العهد البرتغالي قد قام بأدوار متعددة، إذ استغل في فترات كمدرسة للتكوين المهني تحت إشراف التعاون الوطني، كما أنه لا زال يحتفظ داخل ساحته بمدافع ضخمة منصوبة تجاه البحر ليكون شاهدا على تاريخ طنجة المقاومة والمتحفزة للدفاع عن النفس كلما داهمها الخطر المحدق بها من البحر . نفس الأمر يتعلق بسور باب البحر المتداعي للسقوط، والذي يشهد كل سنة ميلانا وانزياحا خفيفا، وتشققات تحت تأثيرانجراف التربة، وعدم إنجاز المخططات المتعلقة بالترميم والصيانة وكذالك خلق دعائم الاسناد. وما أكثر السيناريوهات المتعلقة بالإنقاذ التي لوح بها المسؤولون لمدة أزيد من ثلاثة عقود دون أن تخرج إلى حيز الوجود بسبب تركيز هؤلاء على أولويات أخرى تحظى بالاهتمام "لصالح السكان والمدينة ولله الحمد"، كما أن السياحة التي يراهن عليها المغرب، لا حاجة لها في تقديرهم ، بهذه الأطلال البالية التي لا يمكن أن تبعث الروح فيها من جديد.