هي معلمة تاريخية ضاربة جذورها في أطناب التاريخ، وموروث ثمين يسلط الضوء على جزء من تاريخ الرقعة الجغرافية التي احتضنتها، لكن وضعيتها الآن، تشير إلى أنها تعيش حالة من التدهور والإهمال، يهددان وجودها، بالرغم من أنها تؤرخ لحقب تاريخية، قد يصعب توثيق أدق تفاصيلها، في حال تركها عرضة للاندثار والزوال. هي إذن صرح أثري وطني بامتياز، لكنها ظلت، مع كل ذلك، في منآى عن كل إصلاح أو ترميم، وخارج أجندة المسؤولين، المركزيين منهم والمحليين، الكثير من الباحثين الذين تحدثوا إلى «المساء» أعربوا عن استيائهم الشديد من التهميش الممنهج الذي يطال قصبة المهدية، أو ما يعرف بقصر المولى إسماعيل، وحملوا وزارتي الثقافة والسياحة مسؤولية ما يقع لهذا الصرح التاريخي، الذي لم يشفع له موقعه الاستراتيجي، المطل على غابة المعمورة ومحمية سيدي بوغابة الدولية ونهر سبو والمحيط الأطلسي، في أن يحظى بجزء يسير من العناية التي تولى لمواقع أخرى غير بعيدة عن جهة الغرب، ربما قد تكون أقل شأنا منه. الجذور التاريخية للقصبة تعتبر قصبة المهدية موقعا تاريخيا مصنفا بمقتضى ظهير شريف منذ سنة 1916، تعود جذورها التاريخية إلى عهود قديمة. ويتوافق علماء التاريخ، على أن الفينيقيين كانوا من أوائل الشعوب التي وصلت إلى مصب نهر سبو، وقد ورد، حسب ما جاء على لسان العديد من الباحثين، في رحلة الأمير القرطاجي حانون في القرن الخامس قبل الميلاد ما يلي: «بعد إبحارنا انطلاقا من أعمدة هرقل، أي طنجة حاليا، لمدة يومين، أسسنا مدينة عند مصب نهر... وسميناها طماتريون»، لتتحول إلى أحد المواقع التجارية للقرطاجيين، وفي عهد الاحتلال الروماني تم التخلي عن هذا الاسم، وسميت ب«سوبور» نسبة إلى سبو، لكنها خلال الفتح الإسلامي، أصبحت تحمل اسم المعمورة. نقطة انطلاق الحملات الجهادية واعتبر الباحث عبد القادر بوراس أن المصادر التاريخية المغربية لم تشر إلى وجود أي تجمع عند مصب سبو، لكنه أشار إلى أنه انطلاقا من 1154 ميلادية، سيرد اسم المعمورة عند الجغرافي الشريف الإدريسي في مؤلفه «نزهة المشتاق»، ووصفها بالعامرة الزاهرة، ثم تردد بعد ذلك اسمها في المصادر اللاحقة، وذكرت باسم حلق المعمورة، وحلق سبو، ومرسى المعمورة، واكتست أهمية قصوى في عهد المرابطين، كمرسى للسفن في اتجاه الأندلس، لتتحول بعدها إلى قاعدة عسكرية في عهد الموحدين، وورش لبناء السفن، حيث كانت تنطلق منها الحملات الجهادية لفتح الأندلس، فقد ذكر ابن صاحب الصلاة في كتابه «المن بالإمامة، تاريخ بلاد المغرب والأندلس في عهد الموحدين»، أنه تم إنشاء 120 قطعة حربية في مرسى المعمورة بحلق البحر على واد سبو في عهد عبد المومن الموحدي، وذلك في إطار الاستعداد للعبور نحو الأندلس، بينما ذكر المؤرخ الزياني أن الذي أسس المعمورة هم الأمراء الأمازيغ «بني يفرن» من قبائل زناتة، في حين أن أول وثيقة أوربية تذكر اسم المعمورة يعود تاريخها إلى 1481م، وهي وثيقة برتغالية تحدثت عن توجه سفينة برتغالية إلى المعمورة. الاحتلال الأجنبي لقصبة المهدية الموقع الجغرافي المتميز للقصبة جعلها محط أطماع القوى الاستعمارية، والعديد من الاحتلالات الأجنبية، بدءا بالاحتلال البرتغالي، الذي لم يدم، سوى 46 يوما، من 23 يونيو إلى 10 غشت 1515 ميلادية، وذلك بفضل مقاومة المغاربة، التي عجلت بهزيمة الجيوش الغازية، قبل أن تتحول إلى ملجأ لبعض القراصنة الأوربيين المغامرين، خاصة من إنجلترا وهولندا، حيث أصبحت القصبة تسمى «جمهورية قراصنة المعمورة»، وقد سعت كثير من الدول إلى ربط علاقات معها، لحماية أساطيلها التجارية، ودام هذا التجمع القرصاني إلى حدود 1614 ميلادية، إذ استولى الاستعمار الإسباني على المعمورة، وأطلقوا عليها اسم «القديس ميشيل لما وراء البحار». وعلى الرغم من المقاومة المغربية، التي فرضت الحصار البري على قصبة المعمورة، ومنعت الغزاة الاسبان من التوسع لما وراء أسوارها، فإن هذا الاحتلال استمر إلى سنة 1681م، حيث تمكن السلطان مولاى اسماعيل من طردهم منها، وأطلق عليها اسم المهدية، بسبب الغنائم التي تخلى عنها الاستعمار الإسباني، وكذلك بسبب سهولة وسرعة الانتصار على المحتل، وقد جعلها السلطان منذئذ قصبة مخزنية، وأدمجها ضمن بقية القصبات المخزنية الأخرى، بغرض تأمين سلامة الطريق الرابطة بين فاس ومكناس ومراكش عبر الرباط. من قلعة حربية إلى قصر بهندسة رفيعة تقول مصادر تاريخية، إنه مباشرة بعد تعيين علي الريفي حاكما على القصبة، أمر السلطان مولى إسماعيل بتوسيع عمرانها، وهكذا تم تشييد دار المخزن وقصر القائد وعدة مرافق عمومية، كالمسجد والمدرسة والحمامات والباب الجديد المطل على غابة المعمورة، كما تم بناء الاصطبلات ومخازن المؤونة، ووقع الاهتمام بالهندسة الدفاعية للقصبة، حيث أنشأ مواقع محصنة للمدافع في اتجاه البحر، كما أقيمت حامية عسكرية بالمهدية لحماية القوافل التجارية المارة بالمنطقة، إلا أنه انطلاقا من سنة 1795م، تم إغلاق ميناء المهدية بعد انتهاج السلطان سليمان لسياسة الانغلاق والاحتراز إزاء القوى الأوروبية. بداية تدمير القصبة في سنة 1911م، نزلت القوات الفرنسية بشاطئ المهدية، في إطار الحملة الفرنسية بقيادة الجنرال «موانيي»، حيث كان الهدف الوصول إلى العاصمة فاس، باعتبار أن المهدية تعد أقرب ميناء إليها، لتتحول القصبة المخزنية إلى قاعدة عسكرية بعد ترحيل ساكنتها، فتم خلق مختلف المصالح الإدارية والعسكرية التي يحتاجها الغزو العسكري. وانطلاقا من سنة 1912م، سيتم إنشاء ميناء القنيطرة، فغادرت القوات الاستعمارية القصبة، لتتحول القصبة إلى أطلال، بعدما تعرضت مبانيها لأضرار بليغة. وفي نونبر 1942، اكتشفت قوات الحلفاء الأهمية الاستراتيجية للمنطقة، فعرفت نزول القوات الأمريكية في إطار عملية «طورش»، الهادفة إلى بناء قوات الحلفاء انطلاقا من المغرب، وقد تم تدمير الكثير من المعالم التاريخية للقصبة بسبب المعارك الطاحنة التي دارت أمامها، بين القوات الفرنسية الموالية للألمان «حكومة فيشي» والقوات الأمريكية، والشاهد عليها قبر الجندي المجهول الذي يوجد عند مدخل الطريق المؤدي إلى القصبة. قصبة المهدية.. وظلم ذوي القربى بعدما كانت قصبة المهدية قلعة حصينة تجابه أعتى الغزاة، ها هي الآن تقف عاجزة عن صد الاعتداءات اليومية والمتكررة التي تتعرض لها من طرف أناس داسوا كرامتها، ومرغوا كبرياءها وعزتها وأنفتها في التراب، ليصبح الموقع أشبه بمطرح للنفايات، تنهال عليه الأزبال من كل حدب وصوب، إضافة إلى العبث الذي يلحق بجدرانها، من خلال الكتابة عليها، في حين تحولت بعض المرافق المظلمة بها إلى فضاء للتبول والتغوط ومعاقرة الخمر، هذا في الوقت الذي اختفت فيه عدة قطع أثرية في ظروف غامضة، بينها مدافع كانت منتصبة في مواقع فوق القلعة وعند مدخلها الرئيسي. وحسب أبناء من المنطقة، فقد كان مفترضا أن يتم تدارك هذا الحيف الممارس في حق هذا الإرث التاريخي الثمين، تضيف المصادر، ولاسيما أن الدولة ظلت دائما تراهن على السياحة لتحريك عجلة اقتصاد البلاد، إلا أن العكس هو الذي حصل، حيث تم تشويه محيط قصر المولى إسماعيل، الذي أضحى يتهدده خطر زحف البناءات العشوائية، التي تنتشر كالفطر بين عشية وضحاها، دون حسيب ولا رقيب، وأمام أنظار السلطات والمنتخبين، ورفعت عنه الحماية، وانتهكت حرمته وهيبته، ليتحول إلى وكر للسكارى والمتشردين، وملاذا للمدمنين على المخدرات، بعدما كان في السابق قلعة حصينة ضد الغزاة. ولولا وجود المسجد، الذي ما زال يؤمه المصلون، ويبعث الحركة في هذه المعلمة المترامية الأطراف، لأضحى المكان مهجورا إلا من أصحاب الرذيلة والفساد. أصوات تنادي بإعادة ترميم القصبة ومع ذلك، وبالرغم من الخسائر الفادحة التي لحقت بمرافق قصبة المهدية أو قصر المولى إسماعيل، فإن الآمال ما زالت معقودة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولاسيما أن هناك مجموعة من البنايات لا زالت بارزة داخل القصبة، وتحتاج إلى العناية اللازمة ترد لها اعتبارها، وتوثق مراحل حياتها، التي هي بالتأكيد مرجع تاريخي يسلط الضوء على جزء مهم من تاريخ المكان الذي يحتضنها. يقول محمد، 63 سنة، وهو أحد أبناء المنطقة، «من غير المعقول ألا يحظى هذا الموقع التاريخي المتميز بالاهتمام، فمثله في بعض المدن المجاورة أضحى نقطة جذب سياحي، ويلقى من طرف المسؤولين كل الرعاية، في حين تصر الجهات المعنية على أن تلعب دور المتفرج إزاء ما يحدث لقصبة المهدية». وأنت تتجول بمختلف المرافق التي ظلت صامدة في وجه غضب الطبيعة وتخريب الإنسان، ينتابك شعور وإحساس بعظمة مشيدي هذه المعلمة وذوقهم المعماري الراقي، يكشف المتحدث، فمعظم البنايات التي لا زالت تصارع الموت تكتسي طابعا هندسيا متميزا، فضاءات وساحات ومحلات وأسوار وبوابات تم تشييدها بطريقة متناسقة. بدون مرشد، يصعب على زائرها أن يجوب ما تزخر به من مبان ساحرة، حسب قوله. يحرص المواطن محمد على أن يأتي إلى هذا الفضاء صباح كل يوم، يقضي ساعات منه، قبل أن يعود أدراجه، في تأمل الأسوار العالية التي بات ينخرها التصدع، وتهددها الشقوق بالسقوط في كل وقت وحين. أدمعت عيناه حينما أشار بأصبعه إلى مكان ما عند مدخل الباب الرئيسي، وقال بنبرة حزينة: «كانت هناك مدافع، لكنها اختفت في ظروف غامضة»، قبل أن يضيف بصوت منفعل: «والله حتى حرام عليهم، بزاف على الإهمال، هاذي راه جريمة، موقع بحال هاذا نخربوه، فين هاذ الوزير ديال السياحة ولا ديال الثقافة، فين هو الوالي، خصهوم يجيو شوفو التاريخ ديال البلاد شنو كايطرالو، عيب وعار، منستغلوش هاذ القصبة في التنمية السياحية». الاستياء نفسه أعرب عنه المعطي المدني، الكاتب العام لجمعية أصدقاء تراث الغرب، حين قال «هذا استهتار وتبخيس للتراث الوطني، فليس هناك أدنى مبرر يجعلنا نتجرع مرارة التهميش الذي يلحق بقصر مولى إسماعيل». وحسب المدني، فإن العديد من الإجراءات المستعجلة على الجهات المسؤولة أن تباشرها، صونا لهذه المعلمة التاريخية، وقال، إنه من الضروري تجميع أكبر قدر ممكن من المعطيات الأركيولوجية حول قصبة المهدية، مع المبادرة إلى إحداث جهاز، في أقرب الآجال، يعهد إليه بتدبير القصبة، والعمل على إنجاز سياج واق حول منطقة ارتفاق الموقع، وإغلاق الأبواب الثانوية، وإصلاح الثقوب الموجودة في الأسوار، لوضع حد للتخريب الذي يلحق هذا الموقع الأثري، الذي يمكن، حسبه، أن يلعب دورا هاما في إنعاش قطاع السياحة بالمنطقة. واعتبرالباحث عبد القادر بوراس أن ترميم القصبة هو من جهة واجب وطني لإعادة الأمجاد للتاريخ الوطني وصيانة الذاكرة الوطنية، ومن جهة أخرى، واجب اقتصادي واجتماعي لتنمية الجهة، متسائلا في الوقت نفسه، عن الأسباب الخفية التي دفعت إلى صرف الاهتمام عن هذه المنشأة التاريخية، وعدم استفادتها من أي ترميم، خاصة الجهة الموالية للبحر، التي نبه إلى أنها أوشكت على السقوط، بعد تعرض أجزائها الداخلية للعبث من طرف المشردين والمخربين. فيما وجه الإعلامي محمد حيرش، نقذا لاذعا لوزارة الثقافة، وقال إنها تكيل بمكيالين، حينما تولي عناية خاصة بمعالم الرباط ومراكش ومكناس وغيرها، وتغض الطرف عن قصبة المهدية الشامخة، ليضيف مستطردا «من سوء حظ القصبة أن موقعها الاستراتيجي الحالي هو ضمن نفوذ جماعة محلية صغيرة لا حول لها ولا قوة، قد تجد صعوبة بالغة الأهمية في عملية إنقاذها من الاندثار». مطالب ملحة لتأهيل المعلمة أجمع باحثون ومهتمون بالمواقع الأثرية القديمة التي تزخر بها جهة الغرب، على ضرورة إعداد برنامج للحفريات بموقع قصبة المهدية قصد إتمام التصميم العام لهذه المعلمة، وإنجاز مسح رقمي له قبل إجراء أي تغيير عليه، والسهر على تطبيق النصوص المتعلقة بتصنيف المآثر والمواقع التاريخية بالنظر إلى التغييرات العمرانية التي تعرفها جماعة المهدية، والقيام بربط موقع القصبة بشبكات الماء الصالح للشرب والتطهير السائل والكهرباء، وتهيئة الموقع بمدار لزيارة معالمه الأثرية بعد ترميم البعض منها، إلى جانب وضع التشوير اللازم لذلك، والعمل على إحداث متحف خاص بالموقع قصد عرض اللقى الأثرية وتعميق المعرفة بتاريخه، وبرمجة أنشطة يدوية من قبيل ورشات صناعة الخزف والرسم، وتنظيم أنشطة ثقافية بعين المكان، وتحديد وبلورة مشاريع تنموية إلى جانب الساكنة المحلية، كخلق شركات صغرى مختصة في السياحة والصناعة التقليدية.