بحّت حناجر (ثلّة) من المفكّرين المنصفين والعلماء الموضوعيين، وما سكتت أقلامهم – رغم قلّتهم - من الشرق والغرب، عرباً وأجانب، مسلمين ومسيحيين ويهوداً، وهم يحاولون فضح الدعاية الصهيونية العنصرية القائمة على استغلال الدين ونصوص التوراة وفهمها الخاطئ وتزويرها ليستمرّوا في اغتصاب أرض فلسطين وتشريد أهلها وارتكاب المحرّمات كلها، آخرها القرار العسكري الذي يأمر بطرد أكثر من سبعين ألف فلسطيني من مسقط رأسه واعتباره (متسلّلاً) إن هو حاول أن ينتقل من منطقة إلى أخرى في وطنه الأكبر "فلسطين" دون تصريح أو موافقة من الجهاز العسكري الإسرائيلي! إلى أن تتحوّل هذه الآراء بأدلّتها المنطقية البسيطة إلى ثقافة عامة تفضح المعتدين، فلن يعدم الصهاينة الغطاء التوراتي لتبرير جميع جرائمهم في الأرض المحتلّة، وقد استندوا في ابتكارهم الأخير لطرد الفلسطينيين من بيوتهم بل وإجبارهم على تركها في أقلّ من نصف ساعة شريطة أن يباشر أصحاب البيت بهدم بيوتهم بأيديهم، وإن تأخّروا فليس إلا الحرق أو الجرف، استندوا لتأدية واجبهم الشرعي هذا إلى نص توراتي يقول أن الله أمر النبي موسى (ع) أن يقول لبني إسرائيل: "إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان، فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم، وتمحون جميع صورهم، وتبيدون كل أصنامهم المسبوكة، وتخربون جميع مرتفعاتهم، وإن لم تطردوا سكان الأرض من أمامكم يكون الذي تستبقون منهم أشواكاً في عيونكم ...". مع العلم – وبحسب آراء علمية رصينة – لا "الأردن" المذكورة في هذا النص هي "المملكة الأردنية"، ولا "أرض كنعان" هي "الشام السوري"، وإنما هي مناطق صغيرة ومتقاربة في شبه الجزيرة العربية، ولكن بما أن الترويج لهذا التزوير يخدم نظرية (التطهير العرقي) أو ما يسمى في عرف الغرب المتحضّر باستراتيجية "الترانسفير"، فلتُخرَج هذه النصوص من الأدراج وليُسبغ عليها القدسية لخداع البسطاء من الإسرائيليين وليستخرجوا (أوحش) ما فيهم ليمرّروا سياساتهم الاستيطانية. لا تكفي هذه المساحة لشرح تفصيلي عن فلسفة الترانسفير وتطبيقاتها (الجهنمية) من قبل الغرب (المتحضّر) على شعوب العالم الذي حلّوا عليه كمستعمرين، ولكن سنكتفي بتوضيح خطورتها ضمن إطارها الاستراتيجي الأكبر بعيداً عن النظرة التبسيطية التي تتكرّر في وسائل الإعلام لتعتاد الآذان سماعها ثم تُسلِّم بها الأمة كواقع لابدّ منه. يتتبّع المرحوم "المسيري" فكرة ال"ترانسفير" مذ بدايتها حين ظهرت الحضارة الغربية الحديثة في العقود الأخيرة من القرن السادس عشر، حيث نزعت هذه الحضارة الكرامة والقداسة عن البشر كافة (في الشرق والغرب) وحولتهم إلى مادة استعمالية، ليست لها أية قيمة في حد ذاتها، وإنما تكمن فائدتها بمقدار إمكانية توظيفها! فإذا كانت غير نافعة فهي فائضة فلابد من التخلص منها بطريقة ما أو معالجتها حتى تصبح نافعة. انقسم الناس – بحسب هذه الرؤية – إلى صنفين: أشياء يمكن تحريكها ونقلها "ترانسفير" من مكان لآخر ليمكن توظيفها على أكمل وجه لصالح الإنسان الغربي، وأشياء لا يمكن توظيفها وبالتالي لابد من إبادتها، ففكرة "الترانسفير" والإبادة، أو "التطهير العرقي" إذاً وجهان لعملة واحدة، ومن هنا بدأ التشكيل (الحضاري) الغربي وذلك بالتخلّص من المعارضين سياسيا، والساخطين دينياً بنقلهم إلى أمريكا، ثم تبعها نقل الملايين من سكان أفريقيا إلى الأمريكتين لتحويلهم إلى مادة استعمالية رخيصة، أو تحويلهم إلى جنود مرتزقة في الجيوش الاستعمارية الغربية. فأثناء العدوان الثلاثي تمّ تقديم دفعات من الجنود الهنود باعتبارهم مادة بشرية يمكن الاستغناء عنها حماية للجندي البريطاني! وفي الحرب العالمية الأولى تمّ تهجير مائة واثنين وثلاثين من المغرب العربي لسدّ الفراغ الناجم عن تجنيد الفرنسيين، كما جُنّد الكثير من المصريين ورُحّلوا إلى البؤر الساخنة حيث كانوا يقومون بالأعمال الوضيعة، وقد استمرت عمليات التسفير "الترانسفير" الضخمة هذه إلى ما بعد الحرب العالمية، ثم نُقلت بعض الأقليات إلى بلاد أخرى كشكل من أشكال الاستعمار الاستيطاني. وقد بُرمج ساسة الغرب على نظرية "الترانسفير" التي يفسّرها مفكّروهم "بأن الإنسان الحديث قادر على تغيير منظومته القيمية بعد إشعار قصير ليتبنى بعدها أية قيم أخرى"، وبالتالي "فهو على استعداد لاستبعاد قيمه الأخلاقية الأصيلة مثل الكرامة، والتمسك بأرض الأجداد، والدفاع عن المبادئ، لتتحول الحياة إلى مادة محضة، فتصبح "الديمقراطية تجارة، والأوطان بوتيكات وفنادق، والإنسان وحدة اقتصادية" كما يصفها الدكتور المسيري. هذا التاريخ الأسود جعل ساسة الصهاينة يعيشون قلقاً هستيرياً متنامياً تدلّ عليه تصريحاتهم المتعجرفة وأخطاؤهم المتتالية، من اغتيال المبحوح إلى التغيّب عن حضور مؤتمر الأمن النووي وما بينها من كيل الاتّهامات لإيران وسوريا، وأشكال انتهاكات حقوق الإنسان في فلسطين، واستخدام استراتيجية "التصعيد المتلاحق" لينشغل العالم بالتصعيد الأخير، بعد نسيان أو تهدئة التصعيد الذي سبقه، وهكذا بالاستمرار في خلق أجواء من التوتر المتصاعد الذي يعكس خوفهم من التنبّؤات القائلة ببداية تحقّق نهايتهم، فهم يعلمون جيداً، بل يعاينون واقعاً "أشواكاً في عيونهم" من المقاومين الشرفاء المتهيّئين للردّ على أية حماقة إسرائيلية ولو على مستوى "تهديد شفهي" في مقابل "تهديد شفهي" آخر، إلى جانب طبعاً – وهو الأهم – تحقيق ميزان الرعب الذي أرعب الغرب المتواطئ مع إسرائيل فتكاثرت زياراتهم المكوكية لا إلى منطقتنا العربية فحسب بل إلى الصين واليابان وروسيا يستجدون عقوبات على إيران، ويحاولون توريط سوريا بتخرّصاتهم، ربما تمهيداً لضربة عسكرية قادمة قد يعلمون بدايتها ولكنهم حتماً لن يملكوا قرار نهايتها ولا نهايتهم.