"بنو آدم كالأعضاء بالنسبة لبعضهم .. خُلقوا من جوهر واحد .. فإن تألّم عضو .. لا يقرّ لبقية الأعضاء قرار .. وأنت .. يا من لا تهتم بمعاناة الآخرين .. فإنك لا تستحق اسم (بني آدم)" .. أبيات للشاعر الإيراني "سعدي" من كتابه "حديقة الزهور"، بدايتها اقتباس من حديث رسول الله (ص) الذي قد يحفظه أكثرنا عن ظهر قلب "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم، مثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى"، وتتمّتها من روح ثقافته الإسلامية التي عبّر عن عالميّتها وإنسانيتها هو وغيره من المصلحين والمفكّرين والفلاسفة والشعراء ومن قبلهم القرآن الكريم وسنّة رسول الله (ص) التي تمتلئ كتبنا بأقواله وأفعاله الممزوجة بعبق التسامح مع الآخر المختلف ديناً وعقيدة وفكراً وقومية، ورغم ذلك خاصمها أشدّ الخصام عموم المسلمين فتحوّل الوطن الإسلامي الكبير إلى ساحات اقتتال بين الإخوة في الدين والإنسانية لاختلاف في العقيدة أو حتى في فرع من فروعها، فأينما نولّي وجوهنا فثمّ فتنة قائمة وقودها (الناس) من طوائف المسلمين والمسيحيين و(حجارة) تلقي بها أيدٍ خفية .. وليست بخفية للبيبٍ يقرأ ما خلف السطور ويعي. روح الدين قائمة على خلق (التسامح) الذي نحن أحوج ما نكون إلى فهمه فهماً صحيحاً ومن ثم ممارسته بقناعة وحكمة لإطفاء نار فتنة اشتعلت في (غابة) من التعصّب الطائفي والمذهبي، ولن ينفع معها رذاذ ماء يُرشّ عليها من هنا أو هناك من قبل المستأكلين بالدين بالاستشهاد بسماحة رسول الله (ص) والعمل بنقيض ذلك تماماً، فالتسامح الذي عمل به رسول الله (ص) وعلّمه قومه استطاع به أن يوحّد القبائل العربية المتناحرة آنذاك، وبه استلّ شوكة أعدائه في العقيدة والفكر .. هذا النوع من التسامح لا نجد له موقعاً في ثقافة أكثر المسلمين وليس له أثر على سلوكهم. ربما لالتباس معنى "التسامح" لدى عموم المسلمين واختلاطه بمعنى "العفو عن المسيء"، فالمتسامح – حسب المفهوم المتداول – هو الشخص الذي يصفح عن الآخرين إذا أساءوا إليه أو أخطأوا في حقه، وهذا هو معنى (العفو) لغوياً أي التّجاوز عن الذنب من قبل الله تعالى وترك العقاب عليه، أو هو بالنسبة للإنسان تنازل صاحب الحق عن حقه بطيب خاطر، بينما (التسامح) الذي كان سمة الإسلام المحمدي في بداية الدعوة وندعو إليه له علاقة بالأفكار لا بالشتائم والاعتداءات والإساءات، فالإنسان (المتسامح) هو الذي يعترف بوجود أيديولوجيات وأفكار وعقائد متنوعة يؤمن بها الآخرون وعليه أن يحترم حق أصحابها في الاعتقاد بها ويسمح لهم بإبداء رأيهم والتعبير عن مقاصدهم، رغم اعتقاده بعدم صحتها أو حتّى بدناءتها، فعلى المتسامح إذاً أن يسمو فوق ذلك ويتحمّل نوعاً من المعاناة في السماح للتعبير عن أفكار وقناعات يراها غير صحيحة أو منافية لما يؤمن به هو. قد يظن البعض أن الدعوة إلى "التسامح" بهذا المعنى دعوة إلى اللامبالاة وعدم الاكتراث للموافقة والتصديق على كل ما هو دنيء والانجراف مع كل ما هو غير مقبول عرفاً أو غير مشروع شرعاً .. ليس المطلوب هنا احترام ما هو دنيء، بل المطلوب أن لا نمنع الآخرين من حق التعبير عن الأفكار المناقضة لأفكارنا بحجة أن ما يؤمنون به دنيء أو قبيح برأينا، ففي مجتمع متنوع، وفي عالم اليوم (بل ودائما) لا يخلو مجتمع من هذا التنوع، وإنّ محاولة تطبيق مبادئ الديمقراطية يُحتّم علينا احترام "التعبير عن الأفكار المناقضة لأفكارنا"، لكي لا يتصرّف أحد بأنه يمتلك الحقيقة ويريد أن يفرضها عنوة على الناس ويُكمّم أفواههم عن سواها، بل لابد أن يعتقد المرء بأنّ لكل فكرة وجيهة يؤمن بها هناك فكرة وجيهة أخرى يؤمن بها الطرف الآخر، كلٌّ من وجهة نظره، ومحاولة فرض أي طرف على الآخر بأنّ وجهة نظره هي الحق ووجهة نظر الآخر هي الباطل يوقع المجتمع في دوامة التعصب التي لا خلاص منها إلا بممارسة مزيد من التسامح. من أمثلة (اللاتسامح) الفاقعة التي باغتتنا الأسابيع الفائتة ما حدث في ماليزيا بين المسلمين والمسيحيين حيث تعرّضت الكنائس - وهي بيوت يذكر فيها اسم الله - للحرق بسبب احتجاج حفنة من المتعصبين على استخدام المسيحيين هناك لفظ "الله" بدلاً من (God) في كتاباتهم، فإذا بحثت عن السبب فسترى أصابع السياسة تلعب بالدين لتحقيق مآربها بالحصول على مزيد من الأصوات في الانتخابات القادمة، ثم انظر إلى القتلى من المسلمين - من الطائفتين - والمسيحيين على حد سواء في جوس النيجيرية، وفي الصومال، والعراق، وباكستان، وفتش عن السبب فستجد السياسة قابعة في زاوية ما تحرك الخشب تحت النار باسم الدين، وقس على ذلك ما يجري في كل البؤر الملتهبة في العالم الإسلامي والعربي. الثقافة والأخلاق أرقى وأرسخ في النفوس وأقوى أثراً في تقدّم الأمم وازدهارها من سياسات الملوك وسماسرة السياسة، وقد اشتهرنا كعرب ومسلمين باهتمامنا بالقيم والمبادئ ولم تحدّنا الحدود ولا اختلاف الثقافات، وكنّا نتعامل مع الآخر المختلف من منطلق أخ لنا في الدين أو قرين لنا في الخلق، إلى أن عبث فينا الجهل والتعصّب فودّعنا تسامحنا وسماحتنا، وقد صدق طبيب الأمة (ص) "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها".