إن الصوفية لم ينظروا إلى الحجاب من باب جزئي متمثل في مجرد سترة الرأس كما قد يصطلح عليه بعض المعاصرين من الغربيين والعرب ، وإنما جعلوا من الحجاب موضوعا متكاملا بين الرائي والمرئي ، بين أسباب الإثارة والمؤثر والمتأثر ، وكذلك بين اعتبار الظاهر والباطن وبين الحسي والمعنوي في تحديد طبيعة الشهوات وأبعادها السلوكية والعرفانية ، فجاء فهمهم لآية الحجاب على أحسن وجه وأعمقه وخاصة حينما ضربوا على أسرار الشهوة وخلفياتها بعنف الرياضة وصدق الإرادة. وبهذا كان منهجهم التحليلي يعد من أهم المناهج في الفكر الإسلامي التي يمكن بواسطتها مواجهة وفضح مزاعم المتطرفين من أهل الشهوات والمنظرين لها، وخاصة اليونان وأذنابهم الأوروبيين وبعض بل غالبية عرب هذا الزمان . 1 -خلفيات المكبوتات وعلاجاتها المتناقضة في الفكر الغربي : فالدعوة إلى السفور بل العري الكلي أو شبهه قد أصبح العمل به جارٍ لدى أغلب سكان هذه الأرض وخاصة في الشواطئ وأوكار الفساد من مراقص وملاهي وغيرها ، وكذلك المنتديات الرياضية أو ما يسمى زورا بالثقافية والإنسانية. وهي ليست وليدة العصر أو الساعة وإنما تمثل امتدادا رجعيا بهيميا ومتخلفا قد يعود بالإنسان إلى فترات العصر الحجري وإلى أرجاس الضلال الوثني اليوناني والهمجية البدائية المضادة والشاردة عن خصوصية التحضر الإنساني المؤسس على دعوات الرسل والأنبياء عليهم السلام. وبما أن المنادين لنزع الحجاب أو عدم اعتبار ضرورته ولزومه يتذرعون في عصرنا بوهم الديمقراطية، فلننظر إلى خلفياتها وجذورها في الاصطلاح والممارسة باختصار ،حتى يتبين عند المقارنة البسيطة والواضحة كيف أن المسلمين والصوفية منهم خاصة، هم أهل الحق والحضارة والأصلح للبقاء. فلقد انهارت أثينا وإسبرطة وتهدمت معالمها ولم يبق منها سوى آثار بالية ورموز لمجتمع باد وتدمر تحكي حروبه وأفوله ، لم يتحقق معه حلم فلاسفتهم والمنظرين لتواصله على أساس الشذوذ الشهوي ، والدعوة إلى العري ونزع حجاب الحياء الضامن لصلاح البقاء، والتي من نتائجها – كما قلنا - الاحتراق والاختراق لأنها دعوة نحو البهيمية العمياء وفساد النوع الإنساني. فمن نماذج هذا التنظير أقتطف بعض محاورات أفلاطون في جمهوريته قوله : - فقلت : وهل من الممكن أن نعهد إلى حيوان بنفس عمل حيوان آخر إن لم نغذه ونتعهده بنفس الطريقة ؟ هذا محال. - فإذا ما فرضنا على النساء نفس مهام الرجال فعلينا أيضا أن نعلمهن نفس التعليم. - أجل - وإذن فمن الضروري أن يأخذ النساء بنصيب من هذين الفرعين من التعليم ومن فن الحرب وأن يعاملن نفس معاملة الرجال. - هذا ما يؤدي إليه كلامك ولكن ربما كانت في هذه الاقتراحات أمور تبدو غريبة إذا خرجت إلى حيز التنفيذ وذلك لمخالفتها للمألوف. قد يكون الأمر كذلك بالفعل فماذا تراه أغرب ما فيها ؟ - لا شك أن قيام النساء بالتدريب وهن عاريات تماما مع الرجال في حلبة الرياضة، ولا أعني بذلك الصغيرات منهن فحسب ، وإنما أعني المتقدمات منهن في السن أيضا كالشيوخ الذين يميلون إلى رياضة أبدانهم مع انكماش أجسامهم وقبح منظرها . - أجل إن هذا ليبدو غريبا حقا إذا تأملناه من خلال العرف السائد، ولكن ما دمنا قد بدأنا بعرض آرائنا فليس لنا أن نخشى سخرية الساخرين الذين ينتقدون ما نريد إدخاله من التجديد، لا في موضوع تربية النساء بدنيا فحسب بل وفي تربيتهن الموسيقية والذهنية وتعويدهن حمل السلاح وركوب الخيل. - والحق معك"1. وكامتداد لهذا المسخ الفكري والسلوكي الذي قد لا يحتاج إلى تعليق ، نورد نموذجه المتفرع عنه والمؤيد له في الفكر الغربي الحديث، ونلخصه في بعض آراء فرويد حول الكبت الغريزي والعرض والقلق حيث يقول: "إن الكبت يحدث في حالتين مختلفتين : عندما يقوم إدراك حسي خارجي بإثارة دافع غريزي غير مرغوب فيه، وعندما يثور هذا الدافع الغريزي من الداخل بدون إثارة من هذا النوع، وتحدث هذه الوقاية ضد التنبيهات الخارجية فقط وهي لا تحدث ضد الدوافع الغريزية الداخلية. وما دمنا نوجه اهتمامنا إلى محاولة الهرب التي يقوم بها الأنا، فإننا لن نقترب لذلك من الموضوع الخاص بنشوء العرض. إن العرض ينشأ نتيجة لإرغام الدافع الغريزي على الكبت، غير أن الكبت بإضعاف عملية الإشباع وبإنزاله لها إلى مرتبة العرض إنما يظهر سطوته من ناحية أخرى، فإن ذلك يمنع عملية الإشباع البديل على قدر الإمكان من التفريغ عن طريق الحركة. وحتى إذا لم يكن ذلك ممكنا فإن عملية الإشباع البديل تضطر أن تستخدم نفسها في إحداث بعض التغييرات في بدن الشخص نفسه بدون أن يسمح لها بالاصطدام مع العالم الخارجي، وليس بمسموح لها أن تتحول إلى حركة إذ أن الأنا كما نعلم إنما يقوم بالكبت تحت تأثير الواقع الخارجي، وهو لذلك يحول دون أن يكون لعملية الإشباع البديل أي تأثير على الواقع"2. إن هذه المناهج الممثلة للفكر الغربي بائده وحديثه تكشف عن تناقضاتها سواء عند المقابلة وملاحظة التكامل الشذوذي بين الفكر اليوناني في الماضي وبين الفكر الأوروبي الحديث، أو عند تحليل كل منهما على حدة. كما أن كشف هذه التناقضات قد لا يتطلب بذل جهد وإطناب في استعراض ما بقي من آراء شبيهة لها عبارة ومعنى، إذ محاورات أفلاطون تفترض المستحيل الغرائزي والمستهجن السلوكي حينما تريد أن تروض التجاذب الجنسي والعاطفي بين الرجل والمرأة على سبيل متناقض، وهو افتراض غياب التأثر والانفعال مع التقريب المباشر والمتماس بين المؤثر والمتأثر أو الفاعل والمنفعل بطبيعة تكوينه، وهذا تناقض صارخ لا يقبله عقل ولا تجربة ولا عادة سواء كانت نفسية أو طبيعية، بحيث أن القاعدة العامة في تحديد العلاقة بين العناصر القابلة للتجاذب تؤكد أنه كلما اقتربت مسافاتها وذراتها مكانيا إلا وتقوت نسبة تجاذبها بل نسبة حرارتها، كما نجد لدى الفلكيين في تحليلاتهم لنسب البرودة والحرارة في الكواكب المكونة للمجموعة الشمسية من حيث قربها أو بعدها عن الشمس، بحيث أن الكوكب الأقرب إلى الشمس يكون أقرب إلى الاحتراق وربما الانفجار حينما يستنفذ قوة تحمله. وكمثال آخر قريب من هذا فيزيائيا قد نجد نموذج المغناطيس في تجاذب شطريه المنفصلين، إذ أنه بقدر ما كان التقارب بينهما أكثر بقدر ما ازدادت قوة التجاذب لحد التماس والالتصاق بل قد يصل الحد إلى التصادم المؤدي إلى الانكسار أو التفتت، لكننا إذا عزلنا المغناطيس عن شطره إما بعازل كثيف وإما بتولية أحد شطريه عن الآخر ظهره، أي الجانب الذي لا يقبل معه التجاذب فإن التدافع سيكون هو العكس وبذلك لا يتم الانجذاب ولا الاصطدام إلا إذا وجه الشطران بحسب القاعدة المفيدة للتجاذب عند الاقتضاء. والدليل المغناطيسي على غرار الكهربائي كما سبق وبينا قد يعتبر قريبا جدا إلى تحديد مفهوم الجنسين واتحاد عناصرهما مع اختلاف قطبيهما وخصائصهما، بحيث قد لا يقتصر كقاعدة وتلخيص فيما توصل إليه الفيزيائيون: "وجود قوى الجذب أو التنافر على الأجسام المشحونة بالكهرباء فحسب، بل يتعداه أيضا إلى المواد المغناطيسية كحجم المغناطيس الذي يوجد في الطبيعة على شكل خامة أكسيد الحديد، وتبدو الخصائص المغناطيسية للوهلة الأولى مركزة في مساحتين صغيرتين في طرفي المغناطيس تسميان قطبي المغناطيس، وعندما يعلق قضيب مغناطيسي ويترك بشأنه يتجه إحدى طرفيه مباشرة نحو الشمال ويسمى نتيجة لذلك، قطب المغناطيس الشمالي ش، ويسمى الطرف الآخر القطب الجنوبي ج، والمعروف أن القطب الشمالي يجذب القطب الجنوبي وأن قطبين من نوع واحد يتنافران! وخلافا للشحونات الكهربائية فإنه من المستحيل عزل قطب مغناطيس عن القطب الآخر لأنهما يقترنان دائما ببعضهما البعض، ولذلك فقد أطلق على المغناطيس اسم ثنائي الأقطاب"3 وعلى هذا فتوهم أفلاطون أن الرجال والنساء يمكنهم أن يتعودوا التقارب بينهم مع التكشف ودون الانجذاب الاحتراقي أو الاختراقي بالاصطدام هو مجرد تضليل ومغالطة غريزية.إذ الغريزة عملها اندفاعي نحو مثيرها ومقابلها ما لم تضبط عند الخاطر الأول بالعقل والارادة كما يركز على ذلك الصوفية. وبسبب الاندفاع الغريزي اعتبرت جل أفعال الحيوانات غريزية وليست عقلية لأنها انفعالية ومتحركة بحسب تكشف مثيرها. فإذا كان التوازن السلوكي يقتضي حفظ الاعتدال الوظيفي لكل من القوى العقلية والشهوية والغضبية حسب التقسيم الثلاثي الأفلاطوني للقوى النفسية، فأية وظيفة ستبقى للعقل في ضبط شهوة أو غريزة النوع التي تعتبر من أشد الشهوات والغرائز الانسانية انجذابا واندفاعا، ما دام المؤثر قائما وبارزا والمتأثر حاضرا وأسباب التجاذب القوي متوفرة بسبب رفع الحجاب والتعري الجسدي السافر والمثير للشهوة دون لجام أو ضابط؟ أو ليس هذا هو عين الكبت الذي سينظر له فرويد فيما بعد إسقاطا وبترا، والذي قد اعتبره من أهم الأسباب المؤدية إلى الأمراض العصابية والقلق وكل الشذوذات النفسية وأعراضها السلوكية؟ كما أن النتيجة ستكون من وراء هذا الكبت المفتعل في مجتمعات العري والسفور هي: إما العصاب المؤدي إلى الجنون ،وهذا هو ما اصطلحنا عليه بالاحتراق. وإما الإخلال بالتوازن والاطمئنان الاجتماعي وطغيان ظاهرة الاغتصاب والتسلسل الدوري في دوامة الشهوة المستفزة والمستثارة على التوالي مما قد يؤدي إلى تراكم المكبوتات القاتلة، ما دام العري والسفور هو السائد بإثارته في مجتمع ما وهذا ما عبرنا عنه بالاختراق، إذ النفوس لو تركناها تدور في فلك الإثارة والشهوة فإنها كما يقول ابن حزم الأندلسي :تتمنى لو تنكح نساء العالم!!. فسد باب الإثارة هو الذي يحول دون هذا الاختراق النفسي ويلجم الخيال المريض عن هذا التمني. وهذه المعاني قد أدركها الصوفية بلغة ذوقية كما سبق وعرضنا فالتزموا الضوابط الشرعية ظاهرا وباطنا، وذلك من خلال فهمهم لآية الحجاب وما تتطلبه من غض للبصر الحسي والمعنوي حتى لا يقعوا في دوامة المكبوتات والتي نظروا لها بمناهج متكاملة وموضوعية قبل أن يتحدث عنها فرويد بأسلوبه الاسقاطي المبتور وخلفياته المعبرة عن مجتمعه الفاسد والمختل سلوكيا وأخلاقيا. 2-الفكر الإسلامي وتفادي الكبت والعصاب بالحجاب . هذا وقد عبرالصوفية عن موضوع الكبت بمصطلحات خاصة ومتناسبة مع الواقع ومفهومه لدى الجميع مثل : التحسر والتألم وما إلى ذلك مما هو نتيجة للإثارة الشهوية بين الرائي والمرئي على وجه الخصوص، لأن العين كما يقول الغزالي : "مبدأ الزنا فحفظها مهم وهو عسر من حيث أنه قد يستهان به ولا يعظم الخوف منه والآفات كلها منه تنشأ، والنظرة الأولى إذا لم تقصد لا يؤاخذ بها، والمعاودة يؤاخد بها. قال صلى الله عليه وسلم: "لك الأولى وعليك الثانية " أي النظرة وقال العلاء بن زياد : "لا تتبع بصرك رداء المرأة فإن النظر يزرع في القلب شهوة، وقلما يخلو الإنسان في ترداده عن وقوع البصر على النساء والصبيان، فمهما تخايل إليه الحسن تقاضى الطبع المعاودة، وعنده ينبغي أن يقرر في نفسه أن هذه المعاودة عين الجهل، فإنه إن حقق النظر فاستحسن ثارت الشهوة وعجز عن الوصول فلا يحصل له إلا التحسر، وإن استقبح لم يلتذ وتألم لأنه قصد الالتذاذ فقد فعل ما آلمه، فلا يخلو في كلتا حالتيه عن معصية وعن تألم وتحسر. ومهما حفظ العين بهذا الطريق اندفع عن قلبه كثير من الآفات، فإن أخطأت عينه وحفظ الفرج مع التمكن فذلك يستدعي غاية القوة ونهاية التوفيق"4. وفي نفس المعنى نجد هذين البيتين المتداولين عند الصوفية في شتى المناسبات وهما : وأنت إذا أرسلت طرفك رائدا*** لقلبك يوما أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر *** عليه و لا عن بعضه أنت صابر إن السفور دليل الخوف والحذر*** هذا هو العرف في الأعراض بالخبر فإن رأيت فتاة الحي قد سفرت*** فكن فديتك من هذا على حذر5. فالتلازم قائم بين الشهوة واللذة والألم، وخاصة من جانب الإدراك الحسي والنفسي الجنسي، إذ الشهوة حسب رأي ابن عربي "لا تتعلق إلا بما للنفس في نيله لذة خاصة، ومحل الشهوة النفس الحيوانية ومحل الإرادة النفس الناطقة ، والشهوة تتقدم اللذة بالمشتهى في الوجود، ولها لذة متخيلة تتعلق بتصور وجود المشتهى، فتلك اللذة مقارنة لها في الوجود، فتوجد في النفس قبل حصول المشتهى، واللذة لوجود حصول المشتهى في ملك المشتهي ، فليس عين الشهوة عين اللذة لفنائه بحصول المشتهى وبقاء اللذة"6. واللذة تتبع الإدراك، والإدراك إدراكان : ظاهر وباطن، أما الظاهر فبالحواس الخمس ... ومن اقتصر من لذته على الحواس الخمس فهو بهيمة كما عبر الغزالي لأن البهيمة تشاركه فيها، وإنما خاصية الانسان التمييز بالبصيرة الباطنة ولذة البصر الظاهر في الصور الجميلة الظاهرة، ولذة البصيرة الباطنة في الصور الجميلة الباطنة"7 ومن هنا فتوسيع دائرة النظر إلى الأجسام المشتهاة بغير قيود مقدمات إلى طلب تحصيل اللذات المتراكمة واستفراغ طاقاتها النفسية، وإلا انقلب الأمر إلى غضب مؤلم أو عصاب حسب التعبيرات الحديثة ، إذ الشهوات حسب تعريف الغزالي هي : عبارة عن مجموعة من الآلام يسعى الإنسان إلى التخلص منها والاستراحة من عنائها أو ضغوطها، "فيجد لذة بسبب الخلاص."8 وبهذا فتحريك الشهوة طلب للذة وتحصيل اللذة استفراغ للآلام المتراكمة عن إثارة الشهوة، وهذه الآلام تتحدد منافعها ومضارها بحسب الاعتدال أو الإفراط والتفريط في إثارتها وإخمادها ، لأنها في اعتدالها آلام ملائمة لطبيعة الإنسان وتكوينه وسعادته فردا ومجتمعا، لكنها عند الإفراط أو التفريط قد تصبح آلاما حقيقية تتحسر منها نفسه وجسده، وبالتالي سببا إلى الاختراق والاحتراق أو الغضب والعصاب الناتج عن الكبت، خاصة في مجتمع متبرج ومتغنج وذي تمنع متصنع ومتهيج، مما يعني التضاد السلوكي والتناقض الذاتي بين الإثارة المفرطة والمتعمدة وبين عدم القدرة على تحصيلها كلها رغم تعلق الإرادة شهوة بها لأنها خارجية ليست في ملك العين ، إذ أن "التضاد مؤلم كما يقول الغزالي سواء كان بسبب خارج أو داخل، فإن سم العقرب في العضو يؤلم لفرط برودته المضادة لحرارة البدن فلا تظن أن الآلام كلها تدخل من خارج ، فإن قلت إن العقرب إنما لدغت من خارج ، فاعلم أن ألم السن وألم العين لا يقصر عنه وإنما سببه انصباب خلط داخل مضاد لمزاج العين والسن، وليس ذلك بأهون من لذغ العقرب والحية، واعلم أن تضاد الصفات في القلب يؤلم إيلاما لا ينقص عما يؤلم السن والعين".9 فالصوفية حينما أدركوا موضوع الكبت وأسبابه الداخلية والخارجية ، عالجوه بوسائل موضوعية تستند على الأمر الشرعي ومقتضيات العقل والغريزة السليمة ، وذلك من خلال هذه الإجراءات التي سيلخصها الغزالي في قوله بأنه : "مهما أفرطت هذه الرغبة -أي الجنسية- فكسرها بالجوع، والنكاح، وغض البصر، وقلة الاهتمام بها وشغل النفس بالعلوم واكتساب الفضائل فبهذا تندفع"10. ومن خلال هذا المنظور الصوفي الموضوعي والسليم ستفتضح بلغة العلم والعرفان الذوقي خلفيات المناداة الملحة والضاغطة بالسفور والتبرج عبر التلفزات واستقبالاتها عن طريق الأقمار الصناعية والأطباق الهوائية والأنترنيت، وعبر المجلات والمنتديات المختلطة والكتابات المنحرفة والمسماة زعما وإيهاما بالعلمية والمدافعة عن حقوق المرأة... إلخ إذ أن المناداة بهذا أسلوب ونحو هذا الاتجاه قد تعتبر بالمقياس العلمي والذوقي تضليلية وإفسادية للكيان الإنساني واطمئنانه النفسي، مهما تقدم علم النفس في تحديد الوصفات العلاجية للكبت وأعراضه والقلق وأضراره، إلا إذا روعي العلاج بالحجاب وغض البصر وارتباطهما بالإيمان بالله كما نص عليه القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وهو ما فهمه المسلمون الملتزمون والصوفية منهم خاصة على وجه جيد جدا. إذ سيكون من نتائج المناداة بالسفور والتبرج المثير مع الادعاء تناقضا بإمكانية تهذيب الغرائز ومنعها من الاستجابة لموضوع الإثارة كما يقول الشاعر : ألقاه في اليم مكتوفا وقال له *** إياك إياك أن تبتل بالماء وهذا هو الذي قد أصبح طاغيا في عصرنا، إذ غالبية الناس تائهون بين مناقضات أفلاطون في العري والتعود عليه وبين مناقضات فرويد في الكبت وإطلاق إفراغاته، مما يترتب عليه كما يشهد له الواقع لدى كل من سلك طريق هذه المتناقضات إما الاحتراق وإما الاختراق كما عبرنا مرارا. إذ الغرائز تتهذب بصرفها عن مثيرها لا بمقابلتها به وتقريبها منه. وفي هذا المضمار كمثال يحكى أن رجلا هذب قططا وجعلهن تحمل الشموع وتقف حول الموائد، وفي يوم من الأيام حملت القطط الشموع فسقط عليها فأر فألقت الشموع على الأرض وفرت وراءه، فاحترق البيت وذعر الجالسون... لأن الغريزة لا يمكن تغييرها أو قلعها جذريا، إذ سيؤدي الحال حينذاك إما إلى شذوذ غريزي أو مسخ شخصي أو إلى مرض جسدي ونفسي تتعطل معه الأعضاء ووظائفها. ولهذا فقمعها كلية غير ممكن "وليس الأمر على حد تعبير الغزالي - كما ظنه فريق من لزوم قمع الغضب وإماطته بالكلية وقمع الشهوة وإماطتها بالكلية، بل الواجب ضبطها وتأديبها".11 وعند هذا الحد نختصر القول بأن الصوفية قد أدركوا جيدا مفهوم الحجاب في الإسلام، فجعلوا منه مدرسة عرفانية وسلوكية ترتقي فوق كل الحسابات السياسية والمذهبيات الاجتماعية الوضعية في الماضي والحاضر، ففهموا من الحجاب معناه العقدي وبعده التوحيدي ليوظفوه في توحيد الله تعالى بلغة الذوق والانشغال بالحق عن حجاب الخلق . فكانت لهم تعاريف للحجاب كثيرة كلها تصب في غاية واحدة كقول بعضهم : "الحجاب حائل يحول بين الشيء المطلوب والمقصود وبين طالبه وقاصده " "الحجاب كل ما ستر مطلوبك عن عينك". "الحجاب انطباع الصور الكونية في القلب المانعة لقبول تجلي الحقائق". "الحجاب كل ما يستر مطلوبك وهو عند أهل الحق انطباع الصور الكونية في القلب المانعة لقبول تجلي الحق" "اعلم أن الحجاب الذي يحتجب به الإنسان عن قرب الله إما نوراني وهو نور الروح، وإما ظلماني وهو ظلمة الجسم. والمدركات الباطنة من النفس والعقل والسر والروح الخفي كل واحد له حجاب: فحجاب النفس الشهوات واللذات والأهوية، وحجاب القلب الملاحظة في غير الحق، وحجاب العقل وقوفه مع المعاني، وحجاب السر الوقوف مع الأسرار، وحجاب الروح المكاشفة، والحجاب الخفي العظمة والكبرياء والحجاب الظلماني هو مثل البطون والقهر والجلال وجملة الصفات الذميمة أيضا، والحجاب النوراني يعني ظهور اللطف والجمال وجميع الصفات الحميدة أيضا"12. يقول الله تعالى : يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون. يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما، إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم، إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون13 كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون. 14 صدق الله العظيم قائمة المصادر والمراجع 1 أفلاطون : جمهورية أفلاطون ترجمة فؤاد زكريا الهيئة المصرية العامة للكتاب 1974 ص : 347 . 2 سجمند فرويد : الكف والعرض والقلق ترجمة محمد عثمان نجاتي دار الشروق ط 3 1403 ه 1983م [3 ألان إسحق – فاليري بيت: الفيزياء ص 40 4 الغزالي : إحياء علوم الدين ج 3، ص :91. 5 ابن عربي : الفتوحات المكية ح 2، ص : 293 6 ابن عربي : الفتوحات المكية ج 2 ص : 193 7 الغزالي : الأربعين في أصول الدين دار الآفاق الجديدةبيروت ص : 190 8 الغزالي، أحياء علوم الدين ج 3 ص 86 9 الغزالي، الأربعين في أصول الدينص : 225. 10 الغزالي، معارج القدس في مدارج معرفة النفس ص : 82 11لغزالي : ميزان العمل ص : 54 12 أنور فؤاد أبي خزام : معجم المصطلحات الصوفية : حجاب مكتبة لبنان ناشرون ط 1 1993 ص 13 سورة الأعراف آية 26 - 27 14 سورة المطففين، آية : 15