هناك من الأشخاص من هم بلا علم ولا كفاءة، ولا جهد ولا دراية، لم يحصلوا على خبرة نادرة، لم ينالوا مؤهلات عالية، لم يؤتو مالا ولا ورثو ثروة عن آبائهم ولا من دويهم، لم يفوزا بيانصيب ولا برهان خيول.لكنهم يرفلون في رغد من العيش ويتمرغون في بحبوحته، و ينعمون بالثراء وإمتيازاته. لأنهم تخصصوا في معرفة "من أين تؤكل الكتف" بفضل مواهبهم الخفية، وقدراتهم الخرافية، على إبتكار الوسائل الجهنمية وخلق الأساليب الشيطانية لتحقيق المكاسب المادية بإستغلال نفوذ الوظيفة و المنصب. وهم كثر في المصالح الحكومية والمرافق الاجتماعية والمنظمات السياسية والنقابية، كل ثرواتهم حرام ولا يقرها شرع ولا دين. أعرف وأحدهم، ولاشك أنكم تعرفون الكثير من أمثاله، لأنه ليس حالة فريدة منفردة، ولا نخاله يتيمة هذا البحر اللجي من التسيب والتجاوزات، كما لا نتصورها قليلة في حلكة هذه الفوضى التي غابت فيها الوطنية وتنحت الإنسانية وتمكن الجشع والشبقية. قصة صاحبنا هذا نموذجية، لأنها قصة رجل داهية، له من السمات الإنسانية البينة والخفية ما يمكن أن جعل منه شخصا ذا مصداقية، لكنه ومع كل أسف الدنيا قد أصابته بعض العقد الاجتماعية، التي لا يجوز السكوت عنها أو تجاوزها. أولها أنه أصيب بمس من جنون الشهرة وعبادة الأضواء، وثانيها النرجيسية وغرمه بالأنانية والتعلق بالذاتية. أما الطيبة والاستقامة فقد أضحت عنده حكمة قديمة مدانة ومشكوك في قيمتها حتى تثبت براءتها، خاصة عندما تسلل كالكثيرين من أمثاله، إلى الشأن العام كشخص بسيط متواضع لا يملك سوى سرواله الوحيد، وقميص اليتيم، يقضي بهما نهاره يغسلهما ليلا ليظهر بهما من جديد عند كل صباحاته الروتينية الموالية. تواطأ، نافق، خادع، غش، طأطأ الرأس، تذلل وتمسكن إلى أن تمكن من منصب قربه من خزائن المال العام السائب. وما هي إلا أعوام قليلة في عدها وتعدادها حتى تغيرت أحواله180 درجة صعودا بلا أدنى طاقة أو مجهود، منتقلا من وزنه البسيط وزن ما دون الريشة إلى دينصور، بل إلى ميغا دينصور. ظهرت ملاح النعمة فجأة فترك "البيُيتْ" المتواضع الذي كان يستأجره بين الجيران في حي بئيس مهمش، وانتقل إلى "فللة" خارقة في أكثر الأحياء راقيا. هجر دراجته التي كانت تركبه أكثر مما كان يركبها لكثرة أعطابها ذهابا وجيئة، وامتطى السيارات الفارهة، وإرتدى البدل "السينيي" من بيوت الأزياء الباريسية، وارتاد العلب الليلية والفنادق المخملية وعاشر الأقوام العالية والطبقات البورجوازية. طغى وتجبر ونسي الجذور، بعد أن عرفت كنوزه طريقها للبنوك السويسرية. هل عرفتموه؟ وهل عرفتم كيف ومن أين راكم كل أمواله، عفوا أموال الشعب؟؟ وهل يمكن ليد العدالة التي يقال عنها أنها طويلة، أن تطاله وأمثاله الذين استحلوا المال العام يأكلونه في بطونهم نارا بغير وازع ولا ضمير؟ أم أن القانون قاصر عن متابعة الكسب غير الشرعي ومساءلة أصحابه وتقديمهم للعدالة؟ أم أنه لا تفتح أبواب جهنم إلا في وجه تعساء الحظ الذين لا يعرفون كيف تؤكل الكتف، وبما عمرهم يما أكلوا تلك الكتف بالمرة. لقد اشتكى الناس حتى ملوا الشكوى، وبكوا حتى جفت مدامعهم، وصرخوا حتى تقرحت حلوقهم وبحت حناجرهم، وكتبوا حتى غار مداد أقلامهم. فماذا كانت ردات الأفعال تجاه مطالبهم المشروعة، وهل تمت متابعة من بذر الأموال العامة وعبث بالثروات الوطنية؟؟ ألم يكن الصمت ولا شيء غير الصمت كجواب من كل المسؤولين؟؟. كنا نظن أن الأصوات لا تصلهم، أو أنهم لا يملكون الحقائق الكافية حول تلكم الاختلاسات العارية، والسرقات الوارية، لكن الأحداث والوقائع كشفت أنهم يعلمون أكثر مما نعلم، ويعرفون خبايا الأمور ما ظهر منها وما بطن، ويمتلكون من الملفات ما يمكنهم من صد هؤلاء عن إيذاء العباد ونهب ثروات البلاد، فمتى سيوظفونها لخدمة القيمة والمبدأ ...