ناشر دار الساقي منشرح جدا، لأنه هو وحده من عرف كيف يقتنص الفرصة من الكاتب والروائي المغربي محمد شكري وهو لايزال على قيد الحياة، وانتزع منه عقدا بنشر روايته «الخبز الحافي» في الوقت الذي كانت فيه الرواية ممنوعة من التداول ومحظورة في أغلب المعارض العربية، بسبب الضجة التي صاحبتها. كان شكري يمضي في اتجاه التكريس كأيقونة في الأدب العربي المعاصر، خاطا الطريق نحو مزيد من الحرية في مجال الكتابة والإبداع. لا ننسى أن دار الساقي هي من اختار أن ينشر رواية شكري «زمن الأخطاء» التي نشرها بعنوان آخر هو «الشطار»، قبل أن يبرم الكاتب عقدا بالنشر الحصري ل«الخبز الحافي» مع هذه الدار التي كانت تنشر للطليعة الثقافية في العالم العربي، حاملة مشروعا ثقافيا كبيرا، وهو شأن أغلب دور النشر اللبنانية، مثل دار الآداب أو دار الجديد أو دار رياض نجيب الريس. قلت لناشر دار الساقي، الذي التقيت به في العديد من المعارض العربية: لقد وصلتم إلى الطبعة العاشرة من «الخبز الحافي».. بدا الرجل سعيدا وهو يحدثني عن مبيعات الكتاب القياسية وعن دخوله العلني والسري إلى أغلب المعارض العربية بما في ذلك المعارض الخليجية. قال لي إن محمد شكري كان خيرا ويمنا على الدار، على الرغم من الرقابة التي تمنعه من الدخول العلني إلى معارض مازالت تؤمن بالمنع. ففي السنة الماضية تسلل شكري إلى معرض الرياض، وبيع هناك من تحت الستائر وتخطفته الأيدي، متجاوزا تلك «الحدوثة» العابرة التي أحدثتها الرواية النسائية الخليجية عن «بنات الرياض» على غيرها من أعمال، مرت كظاهرة عابرة، في حين يظل «الخبز الحافي» كتابا صامدا في وجه الزمن منذ صدوره أكثر من ثلاثين سنة إلى الآن. حين قلت للناشر اللبناني: هل مازالت حقوق نشر طبعات «الخبز الحافي» تذهب إلى ورثة شكري، أخبرني بأن هذا ما يحدث بالفعل. قد يكون الرجل صادقا تماما، لكننا نعرف جميعا المشاكل التي نجمت بعد رحيل شكري، والتي تتعلق كلها بإرثه المادي والرمزي، في الوقت الذي كان فيه وزير الثقافة المغربي السابق محمد الأشعري، قد أعلن عن تأسيس «مؤسسة محمد شكري» في 2003، خلال موسم أصيلة. في تلك السنة كان محمد شكري حريصا، وهو على قيد الحياة، على أن يمضي مشروع المؤسسة، التي رغب فيها بقوة، على طريق التنفيذ السريع، لكن الموت عاجله بعد ذلك في الخريف، كي تدخل المؤسسة الموعودة إلى نفق التسويفات والتعقيدات، فيما كتب الرجل ووثائقه والأعمال الفنية التي كانت بحوزته، وكل ما يمت إليه بصلة، في دائرة التلف والأيادي التي لا تعرف قيمة «متروك الميت»، بل تتركه مبعثرا يمنة ويسرة. لا احتفاء عندنا بالأموات، والباقي من قيمهم الرمزية يتم استهلاكه بمجانية في الخطب الطويلة والمناسبات الانتخابية، بينما يأتي «الغريب» كي يستثمر فينا ويبيعنا أحسن ما في سوق الكتب أو في سوق الفن، كما حدث ويحدث مع العديد من الكتاب والمبدعين والرسامين والرياضيين حتى. منذ أول طبعة لدار الساقي نشرتها من «الخبز الحافي»، باعت الدار أكثر من 60 ألف نسخة حسب التقديرات الأولية، وقد تكون باعت أكثر، وحين أرى شكري في واجهة دار الساقي بذلك العرض الجميل الذي يفيد بأن هذا الكتاب ينتمي إلى عائلة «البيست سيلير»، لا أشك لحظة في أن محمد شكري بيننا، وأنني يمكن أن أناديه بكل حب.. «محمد شكري بيننا، يا مرحبا يا مرحبا»، وأتذكر حوارا أجريته معه في 2002، كانت المناسبة معرض الكتاب. اتفقنا على الموعد في الليل، وفي العاشرة صباحا أراد شكري أن يتملص من الموعد، قال لي: «أنا مريض يا حكيم، ثم ما عساي أقول لك، تعبت من الحوارات».. لكنني احتلت عليه وأنزلته من غرفة الفندق، وبين سؤال وسؤال كان يقول لي: «باركا علي»، وأنا أستمهله في تفصيل جديد، إلى أن حسم الأمر: «طفي المسجلة، وخلينا ندويو على خاطرنا». رجل يشبه نفسه، يكتب بصعوبة، ويحكي مثل حياة، ويبيع أكثر في دار الساقي، أليس هذا هو شكري الذي نحبه حيا وميتا؟