ليس المقصود هنا النظام السياسي بالمغرب ، فهو نظام ملكية تنفيذية تهيمن على الحياة السياسية المغربية بيد من حديد ، وسلطته لا تراجع . ويستند في تنفيذيته وهيمنته على الحياة السياسية بأدوات لها نفوذها الكبير على الفعل السياسي كالاقتصاد والدين والاعلام ...الخ . اذن فالبحث سيركز على صورة البرلمان المغربي كتشكيل شكلاني لا فاعلية له ، ولا دور له ، غير دور التابع والمنفذ لتوجيهات ملكية -سامية - ، وكاستراتيجيات فوقية لاسبيل الى الطبقة السفلى لمعارضتها او توجيهها وتعديلها . وتبقى تصريحات رئيس الحكومة الأول في ظل دستور جديد يمنحه بعض الصلاحيات التي تنازل عنها طوعا او كرها ، احدى أهم المؤشرات على ذيلية العمل الحكومي المنبثق من التركيب البرلماني . فهو صرح أنه أكثر ملكية من الملك ، وأبدى أكثر من مرة رغبته الحرون في التنازل عن صلاحياته للملك ، وبذلك ترك السؤال مطروحا : وماذا تفعل اذن يارئيس الحكومة في منصبك ؟ لم لاتتنازل عنه للملك ؟ . واذا كان النظام البرلماني قد تم ابتداعه لترسيخ مبدأ الديمقراطية ، والايهام بنوع من التشاركية ، فان دولا كثيرة اعتمدته كمؤسسات صورية ، ويبقى مجلس الدوما السوفياتي دليلا قائما في التاريخ السياسي لمثل هذه المؤسسات . وبالتالي فان تنصيب برلمان ما لا يعني أن البلاد المعنية تعيش حياة ديمقراطية ، وهذا ما عاشه المغرب منذ أول حكومة ومنذ اول برلمان . فعندما نلفظ مصطلح البرلمان يتبادر الى الذهن مباشرة مفهوم التمثيلية ، سواء الاقليمية أو المهنية ، أو الاجتماعية ، على اعتبار أن المنتخبون هم اختيار الشعب ، وللشعب ميول شتى ومتعارضة أحيانا ، فقد ينتخب المرشح البسيط معززا بسلوك اجتماعي وبعلاقات انسانية تستميل اهل منطقته ، وقد ينتخب رجل أعمال باستخدامه المال في استمالة المحتاجين ، وقد ينتخب رجل علم أ ومثقف لقدرته على التأثير الخطابي على الناخبين . وهناك طبعا مداخل أخرى لفوز أحدهم بمقعد انتخابي ، ويبقى التزوير كما عشناه في المغرب لأزيد من نصف قرن المدخل الأساس لولوج قبة البرلمان . وهنا يبقى من نافل القول ان الدولة تلعب كل الأدوار في عملية التزوير . بيد أن دور البرلمان يبقى الركن الأساس في دراسة هذه المؤسسة ، باعتباره المؤسسة التشريعية الوحيدة في النظم الديمقراطية ، وان كان في العالم الديني والاسلامي أساسا دور هام للمؤسسات الدينية النظامية والعشوائية على حد سواء . فدور البرلمان يقتضي منه مراعاة مصالح المجتمع قبل الدولة في جوهر تكوين هذه المؤسسة ، لأنه نهض وابتدع ليؤدي وظيفة واحدة هي خدمة طموح الناس وتلبية تطلعاتهم ، فطريقة تكوينه ومنشأه الذي ينشأ منه " الانتخابات الشعبية " ، وخطابات حملاته الانتخابية ، والمؤسسات التي يمثلها البرلماني " الأحزاب غالبا " ، تبقى مؤشرات وسمات دالة على الأهداف والوظائف التي يفترض أن يراعيها البرلمان . غير أن الصورة في المغرب تظل دائما معكوسة وان في ظل البرلمان الراهن ، وهو برلمان منبثق عن دستور قنن له صلاحيات غير مسبوقة . لكنه ظل أضعف برلمان في تاريخ المغرب ، وكأن كل فصول الدستور الجديد لم يتم استيعابها ،أو أن اللعبة اصبحت مكشوفة ولا تستحق البحث فيها الا لتعزيز تصورات قائمة واثبات عدم جدية النظام السياسي الحقيقي الذي يسوس شأن المغاربة . لكن المغرب وبخاصة المؤسسة الملكية ارتأت ان تزيد الطين بلة حين أقرت نظام الغرفتين في البرلمان ، وهو نظام راود الملك الحسن الثاني منذ أول دستور سنة 1962 ، غير أن التجربة لم يقيض لها النجاح بعد حالة الاستثناء الذي شهدها المغرب سنة 1965 ، وتم الغاء نظام الغرفتين في دستوري 1970و1972 ، حيث تم اعتماد نظام الغرفة الواحدة , لكن دستور 1996 أقر مرة أخرى نظام الغرفتين ، مع تشكل بوادر الصلح بين المعارضة القديمة وبين القصر ، فكان على القصر ان يضع العراقيل أمام اي محاولة للاستفراد بالتشريع والهيمنة على اقرار القوانين ، فاستبق الأمر باقرار نظام الغرفتين . وهو ماخلق العديد من الدراسات التي ركزت على وظيفة الغرفة الثانية باعتبارها نظام كبح وليس نظام تطوير للعمل السياسي ، وهذا ما أثبتته التجربة السياسية منذ ما يقرب العقدين . وها نحن اليوم نعيش بنظام برلماني مشلول ومزور ومفروض على المغاربة ، اذ تعتبر الغرفة الثانية غرفة لادستورية ، وتشكل انحرافا عن الدستور وتعطيلا للقانون ، واستنزافا لمالية خزينة الدولة .فرغم اقرار الدستور الجديد -2011- الذي يفترض الغاء المؤسسات السابقة عليه ، بحكم أن كل دستور جديد هو تأسيس لنظام سياسي جديد ، فان الغرفة الثانية بقيت على حالها ما يقارب السنتين . وبذلك يصبح البرلمان المغربي برلمانا مشوها وفاقدا للأهلية الدستورية . مما يلزم أن كل القوانين التي تم تقنينها في ظل هذا النظام هي قوانين فاسدة ، اذ تفتقد شرعيتها البرلمانية ، وبالتالي شرعيتها الدستورية . وهو برلمان لايعبر عن ارادة الشعب باعتبار أن الشعب لم يصوت على ما يقرب من 270 مستشار وهو عدد برلمانيي الغرفة الثانية ؛ سواء بالاقتراع المباشر أو غير المباشر . لقد وضع النظام السياسي بالمغرب ، والمقصود به هنا العائلة السياسية الرسمية ، من قصر وأحزاب وهيآت نقابية ومهنية وجهوية ، نفسه في مأزق دستوري خطير ، وشوش كثيرا على دستوره الجديد وعطل أهم مفاعيله الاجرائية ، بتثبيت مؤسسة دستورية تقوم بمهام التشريع في ظل خرق قانوني فاضح ، مما يفقد البرلمان المغربي شرعيته الدستورية ويرهن البلاد في لعبة الدول الهجينة .