بيير فريموران، أستاذ جامعي فرنسي، سبق له أن درس في المغرب لمدة سبع سنوات. صدرت له خمسة كتب عن المغرب، وهو بهذا يعد أحد الأسماء المنشغلة بمستقبل وتطور الحياة السياسية المغربية. من كتبه التي نالت قراءات متعددة، «المغرب في طور الانتقال»، الصادر في سنة 2001 و«تاريخ المغرب منذ الاستقلال».. هو، إلى ذلك استاذ محاضر بجامعة السوربون، وعضو مركز الدراسات الافريقية، كتب عن الانتقال الديموقراطي في المغرب، واهتم بتفاعلات بلادنا. في كتابه الاخير، الصادر في يونيو 2009، حول الانتقال الديموقراطي غير المكتمل في المغرب، زاوية للمعالجة تستحق الاهتمام، وإن كانت لا تعني بالضرورة الاعتماد الكلي أو الانخراط الكلي من القارىء المغربي، وخصوصا إذا كان فاعلا سياسيا أو اعلاميا أو ما شابه. المغرب ملكية دستورية منذ 1962؛ ومحمد الخامس أدخل تحديثا على المؤسسة السلطانية التي تحولت سنة 1957 ملكية وراثية تاركا لابنه الحسن الثاني مهمة إقرار أول دستور في البلاد (دجنبر 62). ومنذ ذلك الوقت توالت 8 تعديلات على الدستور آخرها تعديل 1996. والدستور المغربي يضم ما لا يقل عن 108 مادة. والحسن الثاني المولع بالقانون الدستوري حافظ على صداقة متينة مع كبار فقهاء القانون الدستوري الفرنسيين من بينهم موريس دوفيرجي الذي تعرف عليه خلال دراساته القانونية بجامعة بوردو، وطلب خدماتهم كلما قرر تقديم جواب دستوري للأزمات السياسية التي تخللت حكمه. هؤلاء الفقهاء صاغوا صحبة الملك دستورا على المقاس، نقحه الملك فيما بعد، وكان الامر يتعلق بخلط الماء والنار بالتنصيص في نفس الوثيقة على قواعد نظام ديمقراطي يرتكز على الفصل بين السلط وحقيقة ملكية مطلقة مبنية على الانتماء لآل البيت. في الفصل الاول ينص الدستور على أن المغرب ملكية دستورية ديمقراطية واجتماعية، وهي صياغة قريبة جدا من دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة الذي ينص على أن فرنسا جمهورية غير مجزأة، علمانية ديمقراطية واجتماعية. وإذا كان القانون الاساسي للبلاد يصنف المؤسسات العمومية الكبرى (الملك، البرلمان، الحكومة، المجلس الدستوري، العدل، مؤسسات الرقابة....) فإن الفصل 19 يؤسس لطبيعة السلطة الحقيقية. فمفهوم «أمير المؤمنين» يعطي للملك موقعا مهيمنا في النظام السياسي السني. فروح هذا المفهوم هي التي تعطي هذا الموقع المتميز أكثر من الصيغة في حد ذاتها ،فالملك منوط بمهمة إلاهية سامية، وهو ما يعطيه هيمنة دينية ودستورية وسياسية ورمزية عسكرية وقضائية، كما ينص على ذلك الدستور صراحة. فالملك شخص مقدس له سلطة مطلقة، يتمتع بهيبة دينية وسياسية يستمدها من هيبة السلطان عبر قرون ومن كاريزما شخصه وبركة الشرفاء. فالملك يظل فوق السلط وهو ما يعني مراقبتها وتوجيهها. صحيح ان بعض الحدود والقواعد منصوص عليها في الدستور، ولكن الفصل 19 يقول صراحة بأن الرغبة المطلقة للملك وتصوره الشخصي لتسيير شؤون البلاد تبقى أبرز الحدود لقوته بغض النظر عن الواجبات المنوطة بممارسة مهمة لها كل هذه الحمولة الرمزية والدينية. ولذلك من البديهي بعد حكم مطلق طويل في عهد الحسن الثاني، يبرز النقاش العمومي حول الاصلاح الدستوري، وبالتالي تقليص أو على الاقل تقاسم سلطات الملك، هذا النقاش الذي كان مستحيلا في عهد الحسن الثاني، مهم، لاسيما وأن العهد الجديد استعمل كثيرا في بدايته مرجعية النموذج الاسباني في الانتقال (الانتقال من الدكتاتورية الفرانكاوية الى الملكية الدستورية البرلمانية). وإذا كان هذا النقاش قد ساهم في إرساء مرحلة سماح، فإن هذا النقاش سرعان ما أغلق: فالملك والمقربون منه يرفضون النموذج الاسباني ويعلنون ان المغرب «ملكية تنفيذية» وعلى هذه الخلفية تسممت أجواء العلاقة بين الملك وابن عمه هشام الذي يعتبر من أنصار الاصلاح الدستوري، ودسترة سلطات الملك. النقاش لم يتطور كثيرا خلال 10 سنوات، ومازال الاصلاح الدستوري في الانتظار. بعض الشخصيات عبرت علانية عن قناعات جمهورية دون أن يعرضهم ذلك للمتابعة، بالمقابل فإن القوى السياسية التي تغريها هذه التصورات تبقى مقصية من اللعبة السياسية، وهو الامر الذي ينطبق على جماعة العدل والإحسان، لزعيمها عبد السلام ياسين، الذي عبر على لسان ابنته نادية ياسين، عن ميله الى إقامة جمهورية إسلامية. منظمات وشخصيات سياسية أخرى لم تخف أملها في الاصلاح كما هو الشأن بالنسبة لليسار الراديكالي الذي رفض المشاركة في انتخابات 2002 في غياب إصلاح دستوري. وخوفا من الاندثار، شاركت هذه التنظيمات في انتخابات 2007 تحت لواء الحزب الاشتراكي الموحد، هذا الحزب الذي أعلن سنة 2006 على لسان أحد قيادييه (محمد الساسي) أنه لن تكون هناك دمقرطة في البلاد دون إصلاح دستوري حقيقي، هذا البرنامج الانتخابي المبني على هذا الخط لم يمنحه أصوات الناخبين. كما أن حزب العدالة والتنمية الاسلامي طالب على لسان أحد قيادييه (مصطفى الرميد) سنة 2004 «بفصل حقيقي بين السلط وتوسيع صلاحيات السلطة التنفيذية». وعاد الاهتمام بضرورة الاصلاح الدستوري الى الواجهة مع اقتراب انتخابات 2004، وفي دجنبر 2005 أوصى التقرير النهائي لهيئة الانصاف والمصالحة بضرورة إصلاح المؤسسات بهدف توضيح الاختصاصات الامنية للملك (الشرطة، الاجهزة والقوات المسلحة). وانتقل النقاش الى الصحافة حول اختصاصات الملك من خلال خلاصات تقرير هيئة الانصاف والمصالحة ومطالب الهيئات السياسية (الاتحاد الاشتراكي) بضرورة مراقبة الحكومة والبرلمان للقوى الأمنية وأيضا ضرورة تعيين الوزير الاول من نتائج صناديق الاقتراع وليس من خارجها. ودون الاعلان صراحة عن معارضة الاصلاح الدستوري من حيث المبدأ، ترك الملك والمقربون منه الوقت يمر على خلفية الخوف من إمكانية فوز حزب العدالة والتنمية في انتخابات 2007. ثم فضلوا بعد ذلك تأكيد الخيار الديمقراطي الذي لا رجعة عنه، بتخفيف الوصاية الأمنية واختيار وزير أول سياسي ينتمي للحزب الذي حصل على المرتبة الاولى (عباس الفاسي). في سنة 2008 ألمحت الصحافة شبه الرسمية الى إمكانية إقدام الملك على طرح إصلاح دستوري، لأن الضرورة تقتضي ذلك. وفي سنة 2009 رفعت بعض مكونات الكتلة مذكرة في الموضوع، لكن يبدو أن ثقل وصاية القصر على البلاد، والضعف الواضح للوزير الاول، توحي بإصلاح في حدوده الدنيا، وهو الامر الذي يلقى تشجيعا من الغرب. برلمان تمارس داخله بلاغة الكلام المغرب ملكية دستورية برلمانية، لكن مادام الفصل بين السلط غير مكتمل، فإن البرلمان (مجلس النواب) يبقى مؤسسة في الدرجة الثانية بعد مؤسسة الملك والحكومة. صحيح ان النواب ينتخبون بحرية، والاغلبية البرلمانية تساند الحكومة، والبرلمان يصوت على القوانين، ومشاريع القوانين يقدمها الوزير الاول أو البرلمانيون. والحكومة مسؤولة أمام البرلمان وأمام الملك. ومنذ 1996 تم إحداث غرفة ثانية (مجلس المستشارين) تنتخب بالاقتراع غير المباشر لتعزيز المؤسسة... والملك يرأس الدورة الخريفية (أكتوبر) للبرلمان، ويلقى خطاب الافتتاح أمام نواب الأمة، ولكن البرلمان لا يمكن أن يناقش خطاب الملك، ومنذ 1997 أصبح المغرب يحترم الاستحقاقات الانتخابية، ومنذ 2002 تم فرض آلية لتمثيلية المرأة في حدود %12 على الأقل. وبعد انتخابات 2007 اختار الملك الوزير الاول من الحزب السياسي الذي احتل المرتبة الاولى. ولكن، بالرغم من صلاحياته الدستورية، فالبرلمان يبقى مؤسسة تمارس داخلها أساسا بلاغة اللغة. وأسباب ضعف الفعالية البرلمانية عديدة ويمكنها ان تكون موضوعا للعديد من الأطروحات الاكاديمية في القانون الدستوري. ويمكن ان نشير الى ثلاثة أنواع من الاسباب: أسباب مؤسساتية وسياسية واجتماعية، ولا تبدو مسؤولية المخزن إلا ثانوية.... المسؤولية الاولى لهذا الضعف البرلماني مؤسساتية. صحيح أن البرلمان يصوت على القانون «التعبير الاسمى عن رغبة الأمة». لكن ليست هناك سلطة خارج سيطرة القصر، والملك عمليا (بحكم الفصلين 29 و35) أن يمارس صلاحيات بواسطة ظهائر (وهكذا باستطاعته إعلان حالة الاستثناء أو حالة الطوارئ لمدة 30 يوما...) والفصل 67 و69 يمنحان للملك إمكانية أن يطلب من الغرفتين قراءة ثانية لأي مشروع أو مقترح قانون... وهذه القراءة الثانية لا يمكن رفضها، ويمكن للملك بعد قراءة جديدة أن يطرح بواسطة ظهير أي مشروع أو مقترح قانون على الاستفتاء. وهكذا يستطيع الملك قانونيا التأثير على التصويت على القوانين وبالتالي تجاوز البرلمان. والملك يصدر القوانين (الفصل 26) ويضمن تنفيذها، وهذه المهمة موكولة لوزيره الاول المسؤول أمامه، وبحكم قداسته، فالملك لا يخضع لمجال القانون، وبما ان الاسلام دين الدولة، فإن أمير المؤمنين هو الضامن لمطابقة القانون الوضعي مع شريعة الاسلام. ويمكن للملك أن يقيل الحكومة (الفصل 24) ويحل مجلس النواب بغرفتيه (27 و71)، وفي حالة حل البرلمان يمارس الملك صلاحية المجال التشريعي لمدة ثلاثة أشهر (72) بحيث ان البرلمان يتقاسم أكثر مما يمارس السلطة التشريعية، مع بقائه على الدوام خاضعا لضغط «الملكية التنفيذية». وهذا الضعف لمؤسسة البرلمان له أيضا أسباب سياسية، ففي البرلمان المنتخب سنة 2002 و2007، ظهر أن التمثيلية الحزبية مبلقنة وغامضة، فالبرلمان مقسم الى أربع فئات: «الاحزاب الادارية» التي فرخها القصر أو الداخلية في العهد السابق، والحركة المنبثقة عن الاستقلال (تضم اليساريين والوطنيين)، والاعيان الملكيين الامازيغ ممثلة في التيار الحركي والاسلاميين من حزب العدالة والتنمية (ولكن لا أحد من هذه التيارات الاربعة حريص على تماسكه وانسجامه) ومع ذلك فإن هذه النظرة تبقى جزئية لكون 23 حزبا سياسيا ممثلة في البرلمان (من أصل 35 حزبا شارك في انتخابات 2007).