1: صيام الأطفال من التقاليد المتوارثة، ومن العادات الهامة والشهيرة لدى جل الأسر المغربية إلى جانب الاهتمام باستقبال رمضان والاحتفال بحلوله، تشجيعهم الأطفال على "الصيام المبكر" وتهيِّئهم للتعود عليه بشكل تدريجي، واحتفاؤهم بالصوم الأول لهم، والذي غالبا ما يكون في ليلة السابع والعشرين من رمضان أو ليلة القدر، حيث يُحتفل بهم فيه بإطلاق روائح البخور الزكية مثل الجاوي والعود القماري، وتُقدم لهم أجمل الهدايا, وألذ الحلويات, وأطيب الأطعمة، ويُؤخذون، بعدها والتراويح، في جولات وفسح شيقة ، إلى شوارع المدينة وإلى محلات التصوير لالتقاط الصور برفقة أفراد العائلة وأصدقائها، لتخليد ذلك الحدث المتميز والسعيد في حياة الأطفال الذين كانت نفوسهم الصغيرة تهفو إلى خوض تجربة الكبار في الصيام، _رغم عدم التزامهم بصيام اليوم بكامله لصغر سنهم- التي يدخلونها إما بدافع الفضول، أو التقليد، أو لفت النظر إلي الإنجاز الذي يعتزون به-كما يفعل جل أطفال المسلمين في كل مكان- وتحرص الأمهات على مكافأته بما يطيب من طعام ويلذ من أطباق حلويات "سلو" و"الشباكية" و"البريوات" و"الفقاص" و"كعب غزال"، التي كانت النساء، في ذاك الزمان الأصيل، يجتهدن في إبراز قدراتهن الخاصة في صنعها وتهيئها، احتفاء بعظمة رمضان وقدسيته عندهم، ويتنافسن في إبداع ما يرضي أذواق أطفالهن الصائمين، وتقديرا لمجهودهم في أول يوم صيام لهم، حتى يبقى محفورا في ذاكرتهم الطفلية، بطقوسها المبهجة والمتميزة عن بقية أيام الشهر بطابعه وطعمه الخاص الذي يجعل الطفل مدركاً لحلاوة رمضان وقيمته، وأنه من أفضل الشهور بدلالات التي تربي فيه الكثير من القيم الحميدة، والمبادئ الإسلامية السمحة. رمضان شهر كريم تتعاظم فيه ذكريات الماضي، التي نعيش عبقها الجميل في مجالسنا الرمضانية، ونغرف من لذاتها الروحية والنفسية، المرتبطة عندي بالحنين النوستولوجي إلى أيام البساطة، والصدق، وطهارة القلوب، وصفاء الذهن والروح والجسد، والقناعة الذاتية، والهدوء النفسي، والتلاحم والتعاضد الأسري والعائلي، والدفء الإنساني، والخل الوفيّ، والبيت الواحد والهم المشترك، والتكافل الاجتماعي. ومن الذكريات التي أحن إليها، وأستحضرها في أيام رمضان ولياليه، تلك التي تقاسمتها مع عائلتي أيام زمان، وحفرت لها في ذاكرتي نقوشا استصعب على السنين محوها أو إزالتها، وهي كثيرة ومتفردة -بعضها طريف والآخر مثير- ومن بينها طقس استعداد ساكنة فاس الجديد لاستقبال شهر الصيام بما يستحق من الحفاوة التي لازلت أستشعر وقعها في نفسي، وأتنسّم أجواءها التي كانت تحفل بعبق وعبير وعطور وبهجة النساء المتجمعات على سطوح المنازل في انتظار رؤية هلال ليعلن عن بدء موسم جديد من الطاعات والمغفرات، بالزغاريد الممزوجة بترانيم "النفار" وأصوات المدافع. ومن أفضل الذكريات أيضا والأكثر رسوخا في ذهني والتي لا تنسى على الإطلاق، يبقى طقس الاحتفال بأول "يوم صيام" الذي كانت تقيم خلاله جل العائلات المغربية احتفالات لكل من تمكن من صيام يوم كامل لأول مرة بلا خياطة أو رتق، كما كان يعتقد الأطفال، وأنا منهم، بأنه بالإمكان صيام جزء فقط من النهار يُحسَب نصف صيام، ثم يكملون في اليوم التالي، فيُربَط النصفان مع بعضهما، ليكتمل اليوم الذي يجعل الصائم الصغير، مُغتبطاً فخوراً بالإنجاز الذي لا يقوى عليه إلا الكبار، والذي يكافأ عليه الصغار، بتناول التمر وكأس من الحليب والكثير من أنواع الحلويات التي يحبونها، من فوق سلم خشبي، ذاك الطقس، رغم بساطته، الذي لم أتوصل ساعتها، ولازلت لم أعرف ما يحمله من دلالات ومعان، والتي قيل عنها، أنه في اختيار السلم دليل على الرقي والسمو، وان الطفل الصائم عندما يتناول أولى لقيماته عليه في أول يوم صيامه، الذي يشكل يوما تاريخيا، يسمو بنفسه إلى درجات روحية عالية تنقله من عالم الصغار، وتقربه من دنيا الكبار، ويدخل منظومة المكلفين. أذكر جيدا أني بدأت الصيام بانتظام، وأنا ابن العشر سنوات أو يزيد قليلا، حيث كان أهلي يأمرونني به قبل أن يتوجب علي شرعا، بغية تربية إرادتي على الصبر والجَلَد، وأتعود على كبح جماح رغبات الجوع والعطش، رغم أني غير مكلف ولم أكن قد وصلت سن البلوغ بعد. كما أتذكر كذلك أني كنت في السادسة من عمري، يوم صمت يوما كاملا دون خياطة أو رتق، كم كانت غبطتي وفخري كبيرين، رغم يقيني أن قضية خياطة أنصاف الأيام ورتقها خرافة ليست ممكنة ولا منطقية، ومع ذلك ما كنت لا أتوقف عن التباهي به على أقراني الذين كنت أتفاخر عليهم بدخولي عالم الكبار وجلوسي إلي مائدتهم، برضاهم ودون زجر أو إبعاد منهم كما كانت عادتهم من قبل، حيث كان الصغار غير الصائمين يبعدون عن مائدة الكبار الصائمين. وكم كان حجم سعادتي شاسعا، وأنا بين يدي أمي وهي تهيئني بعد يومي ذلك الغير العادي، والطويل جدا، والذي كانت فيه فترة الإفطار، بطقوسها وعباداتها الجماعية المثيرة، هي أهم الفترات التي كنت انتظرها طواله- لمصاحبة والدي وبقية كبار العائلة الذين اعتادوا شد الرحال، بعد الإفطار مباشر، إلى بيوت الله، لأداء صلاة التراويح المقدسة لدى أهل فاس، وخاصة تلك التي تؤدى بجامع القرويين حيث عبق التاريخ وروحانية اللحظة، وكم كان زهوي عظيما بما ألبستني أمي من ثياب جديدة للمناسبة، من جلباب، وسلهام، وجبدور، وسروال قندريسي، أي سروال فضفاض، وطربوش أحمر داكن، وبلغة صفراء. عادات وتقاليد وطقوس احتفالية كانت بمثابة أسلوب متميز في التنشئة الدينية للأطفال، وطريقة فعالة لإدماجهم في المنظومة الإسلامية، من باب الصوم، العبادة الروحية الجسدية، التي يتعلّم منها الصغار الإخلاص الحقيقي لله تعالى، إلى جانب الترفيه عن النفس بالسهر خارج البيت للعب كرة القدم التي كانت أنداك هي السمة الرئيسية لشهر رمضان في مدينتنا الشعبية "فاس الجديد"، حيث كانت الفرق الهاوية الصغيرة والكبيرة تجتمع في باب المكينة-قبل تأميمها- لممارستها، وكان أبناء الأحياء يعقدون دورات كروية رمضانية ليلية فيما بينها وبين الأحياء المجاورة حتى السحور، الوجبة الأخيرة في نظام الأكل الرمضاني الليلي، والتي تأتي بعد وجبة العشاء الدسمة، والتي تتنوع بين أكلة الدجاج أو الطاجين المغربي أو الكسكس الشهي، وجبة السحور الذي عادة ما تكون عبارة عن أكلات خفيفة لا تتعدى قطع "الحرشة" أو "الملاوي" وغيرها من الفطائر، مصحوبة بكؤوس الشاي المنعنع، أو مشتقات الألبان وعلى رأسها "الرايب البلدي" وغالبا ما لا يتناوله أهل فاس الجديد، إلا بعد عودة جميع أفراد الأسرة إلى البيت بعد قضاء السهرات الممتعة في الساحات والأماكن العمومية. ومما لاشك فيه أن تلك الأيام والليالي الرائعة الغابرة قد تغير طعمها الخاص والمميز مع تغير العادات وانقلاب المفاهيم، واختلال القيم، وتحول الكثير من العادات والتقاليد الشعبية القديمة المرتبطة بشهر رمضان الفضيل وما يحمل في طياته من رسائل قيمية سامية والكثير من العبر والمعاني والدلالات التي تشبه نكهة طعام الوالدة الذي يبقى ألذ وأطيب من كل ما ابتدعته أفخر وأرقى المطاعم وما تبتكره كتب الطبخ من نظريات ووصفات، إلى تراث للكثير من أبناء مجتمعنا .