كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب أولا:ما الأذواق ولماذا خيار السماع في التصوف المغرب-أفريقي؟ سؤال قد يفرض نفسه في بوتقة التفاعل النفسي والاجتماعي ،وثقل الضغوطات الاقتصادية والسياسية والبيئية ،وتلون المنافسات الفنية والجمالية التي عرفتها البشرية وتعرفها، وخاصة في عصرنا الحالي على سبيل تأسيس نموذج تواصلها وعناصره الإيجابية. فالسماع مشتق من السمع وهو يمثل إحدى أهم الحواس الخمسة وأقواها في الإدراك والوعي،بل هو المدخل الرئيسي لكل المعارف الإنسانية والسبيل إلى تحقيق استقرارها في الوجدان الشعوري واللاشعوري معا. كما أن السماع قد يكون هو الوسيلة الدقيقة والمحققة في مجال الجمال والمحبة والعشق وتناسق الفعل الخيالي المؤدي إلى الإبداع والسبح في عالم المعاني التي تحدد لنا شكل المباني. ولا أريد أن أسهب في الكلام عن الحب ومذاهبه الجمالية عند الصوفية وأهميته في سلوكهم ،لأنه قد كان جل شغلهم وحديثهم،بل هو الأساس في سمو أخلاقهم وامتيازها والذي كانوا يفرغونه سماعا شجيا ولحنا روحيا خالدا يذكرهم دائما من خلال الأحوال المترتبة عنه بالميثاق الأعظم الذي أشهدهم عليه رب العزة في عالم الذر حيث قال:"وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟قالوا:بلى!شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون؟"[1]. وهذا هو ما فسر به الشيخ أبو القاسم الجنيد سر الحال والوجد عند الصوفية حينما يقترن بالسماع وخطاب المحبة والأشواق لما سئل: "ما بال الإنسان يكون هادئا فإذا سمع السماع اضطرب،فقال:إن الله تعالى لما خاطب الذر في الميثاق الأول بقوله:"ألست بربكم؟ قالوا:بلى!"،استفرغت عذوبة سماع الكلام الأرواح فلما سمعوا السماع حركهم ذكر ذلك"[2]. فالوجد كما يقول السهروردي في "عوارف المعارف""سر صفات الباطن كما أن الطاعة سر صفات الظاهر،وصفات الظاهر الحركة والسكون وصفات الباطن الأحوال والأخلاق..."[3]. وبقريب من هذا المعنى سيعرف التصوف الشيخ حمزة القادري بودشيش رحمه الله تعالى:"التصوف أخلاق وأذواق وأشواق". ثانيا:التصوف الفني والحضور في عمق الوجدان الإفريقي وارتباط السماع والوجد عند الصوفية بالمحبة قد جعله حقلا خصبا للدراسات النفسية والجمالية والفنية حتى اعتبر مسألة فريدة من نوعها كما يقول الدكتور علي سامي النشار في كتاب :نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام عن فرضية التصوف كظاهرة جمالية وفنية:"يتميز التصوف بتذوق الجمال تذوقا لم نشاهده في كثير من رجال هذا الفن البحتيين،كما تميز أيضا بفن السماع إلى الموسيقى والرقص،بل إن الإسلام قد انتشر في كثير من البلاد الإفريقية بواسطة سماع الطرق الصوفية التي توغلت من المغرب ومن مصر جنوبا وهي تحمل موسيقى صوفية كاملة كما تحمل معا أناشيد روحية أثارت الكثير من القبائل الإفريقية وجذبتم إلى اعتناق الإسلام. ولدى الباحثين ما يثبت أن التروبادور اللاتينيين قد حملوا الموسيقى العربية من الأندلس إلى البروفانس في فرنسا خلال صوفية الإسلام.بل وجدنا أيضا كيف نفذت الأغنية الصوفية العربية خلال سان خوان دي لاكروا ودخلت إلى أناشيد الكنيسة.وبعد فهل التصوف هو فن جمالي أو هو تعبير موسيقي؟.لا شك أن أبحاثا من هذا النوع ستفيد الدراسات الصوفية وستغنيها،ولكن ليس التصوف كله سماعا أو موسيقى وفنا!"[4]. إن هذا الربط بين الجانب النفسي والفني الجمالي أولا ثم التركيز على المغرب ومصر كمحورين كبيرين في العالم الإسلامي وتأثيرهما على الحياة الروحية الإفريقية ثانيا لمما يستدعي منا وقفة تأمل وتحليل وإن كانت سريعة وإشارية أكثر منها إشهارية وشكلية. بحيث إن موضوع الجمال والجلال سيمثل حالة نفسية وروحية بامتياز في الميدان الصوفي وذلك باعتباره عنصر الموازنة وصياغة المشرب الذوقي للصوفي المغربي ومعه الإفريقي عامة، نظرا لهذا الارتباط والارتهان التاريخي القائم بين الشمال والجنوب. كما أن الجمال سيتمترس بحسب الظروف والأحوال النفسية والاجتماعية ولما لا السياسية في بلد ما وفترة معينة ،لأن الصوفي ابن وقته كما يقال.فقد يكون الجمال ظاهرا وعلى العكس يكون الجلال باطنا وهذا هو الأرقى .كما قد يكون الجلال ظاهرا وباطنا بحسب الظرف وهكذا دواليك. ومن أقصى شمال أفريقيا ،أي المغرب، سينطلق المد الروحي الصوفي المغربي نحو أعماق الصحراء وعلى امتداد الساحل الإفريقي مشكلا الحياة الروحية للمنطقة برمتها وذلك على منهج جمالي معتمد على العاطفة والانتماء والولاء ،خاصة وأن مبدأ إمارة المؤمنين، بمفهومه السني ، سيحتفظ به المغرب كمرتكز رئيسي لتحقيق استمرار المرجعية التاريخية والروحية ،ممزوجة بالسياسية، للحفاظ على الوحدة الوطنية المركزية وامتداداتها المعنوية إلى الأطراف المجاورة للمملكة . حتى قد يصرح باستمرار عن إقرار البيعة من طرف صوفية وعلماء إفريقيين ،كالسينغاليين والماليين وأهل النيجر، لأمير المؤمنين على مر العصور من غير إكراه ولا تسلط ولا استدراج إيديولوجي ماكر ،لأن التاريخ هو المعبر وهو المرجع في توطيد هذه العلاقة ذات الرأسمال اللامادي غير قابل للاستهلاك السياسي والإعلامي.ولا يرون في ذلك نقصا و مناقضة لوطنيتهم أو تعارضا مع حكامهم.فالسياسة لها أحكام والعمل الروحي له أذواق وأنغام . والسر في هذه الرابطة والعروة الوثقى هو أن التصوف المغربي قد اقترن دائما باعتماده على السند الروحي والجمالي المتكامل والسند النسبي الشريف المتسلسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم.وهنا قد تكاملت العواطف والأشواق فأخرجت لنا تصوفا جماليا جلاليا في نفس الوقت . كما أنه قد كان دائما مقترنا بالمكونات الرئيسية للشخصية الإنسانية المتكاملة بين الحياة العاقلة والفاعلة والمنفعلة حسب التقسيم العلمي الحديث للظواهر النفسية الإنسانية.سيلخصها بشكل رسمي العلامة عبد الواحد ابن عاشر في منظومته الشهيرة والسائدة بين المغاربة والأفارقة عموما: في عقد الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك فكان من أبرز الطرق السائدة في إفريقيا وشمالها خصوصا من غير منازع هي الطريقة الشاذلية نسبة إلى أبي الحسن الشاذلي الغماري و المستمدة رأسا من الشيخ عبد السلام بن مشيش المقيم بجبل العلم وما واكبها من تلك الرحلة المشرقية وملحمة البحث عن الشيخ ببغداد ثم العودة إلى المغرب.وهي طريقة جامعة بين السند الروحي السني والنسب النبوي الشريف والتي قد تفرعت عنها طرق شتى بحسب أسماء شيوخها كان من أبرزها الطريقة الدرقاوية نسبة إلى الشيخ محمد العربي الدرقاوي، بحيث سيتفرع عنها فرعان مختلفان في المنهج والذوق وهما :الفرع الجلالي من خلال الشيخ محمد البوزيدي وبعده الشيخ أحمد بن عجيبة ،والفرع الجمالي قد تشخص بوضوح لدى الشيخ محمد الحراق بواسطة قصائده الرائعة والغارقة في الحب والعشق والهوى الروحي ."كأماطت عن محاسنها الخمارا" وغيرها. في حين ستكون الطريقة القادرية ،أصل الطرق كلها،نسبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني وهي وافدة من الشرق وواصلة إياه بالمغرب على حلة متكاملة وجامعة بين الجلال والجمال ،كما سيصل منتهاها وذروة ظهورها وتأثيرها في البلدان الإفريقية الجنوبية بواسطة الطريقة القادرية البودشيشية كفرع متميز ،هذا مع احتفاظ فروع قادرية أخرى بالاسم التقليدي للطريقة عبر التاريخ. بحيث إن الطريقة القادرية البودشيشية ستتخذ شعارا لها قارا ومستمرا ،وخاصة في فترة الشيخ حمزة القادري بودشيش رحمه الله تعالى ثم الشيخ جمال الدين حاليا ،الذي زاد من تألقها وإمعانها في معنى الجمال ،عنوانه الصلاة الجمالية والتي صيغتها"اللهم صل على سيدنا محمد الذي ملأت قلبه من جلالك وعينه من جمالك فأصبح فرحا مؤيدا منصورا وعلى آله وصحبه وسلم تسليما والحمد لله على ذلك"كرمزية على المعراج النبوي وما تضمنه من مظاهر الجمال والجلال في العالم الأخروي. في حين نجد أن الطريقة البودشيشية قد كانت ما تزال تنهل قصائدها، إضافة إلى ما صدر عن شيوخها وبعض مريديها ،من كثير من الطرق المواكبة لها كالحراقية والعليوية والدرقاوية عموماوغيرها من غير تحرج،وذلك باعتبار توافق المشارب والأذواق وأن لا تعارض في باب الجمال والمحبة عند الصوفية.وبتوجيهات من الشيخ جمال الدين وذوقه الرفيع يتم تنظيم القصائد بواسطة ابنيه منير و معاد باعتبارهما ممثلين رئسيين لمكونات المشيخة بالطريقة، مع تأسيس للفرقة الوطنية للسماع الصوفي الجمالي البودشيشي بالمغرب وخارجه والتي قد أبهرت الجميع بأصواتها الشجية وتناسقها وما يرافقها من معان كلها تصب في الجمال والرقة والسمو الروحي. لكن وكأرقى وأعمق قصيدة عرفتها وأنشدتها هذه الطريقة فيما قبل هي قصيدة الشيخ حمزة رحمه الله تعالى مطلعها: يا طالبا بلوغ الحقيقة ادن فإن الوصول بصحبتي وإلى سبيل الله دعوتي على بصيرة من أمري ويقظتي
وأيضا نجد الطريقة التيجانية نسبة إلى الشيخ أحمد بن محمد بن المختار بن سالم التيجاني المقيم بفاس حيث ضريحه وزواره من شتى البقاع على رأسها الإفريقية.والتي اتخذت صلاة متميزة أيضا سمّيت بصلاة "جوهرة الكمال". وللطّريقة التيجانية أوارد أخرى في التّوحيد، وأحزاب في الاستغفار والحمد، شبيهة بما نجده لدى الطريقة القادرية أو الشاذلية.وهذا ما يؤكد بأن الطرق الصوفية المغربية ذات مشرب واحد وسند متصل ومتواصل بحسب شروط الصحبة. هذه الطرق الثلاث ستكون الأكثر حضورا وتنافسا إيجابيا في إفريقيا على كسب قلوب الأفارقة واكتساب ولائهم ووجدانهم.بحيث ستكون التيجانية أكثر حضورا في فترات مضت من التاريخ الصوفي من حيث الربط بين الشمال والجنوب الغربي لأفريقيا وذلك لأن بعض الملوك العلويين قد كانوا يتبنون هذه الطريقة دعما وتعاونا ولربما هناك شبه انتماء واستفادة من أورادها.فتداخل الولاء الروحي مع السياسي وتوثقت العلاقة بين بلدان مثل السينغال ومالي وساحل العاج وغيرها مع المغرب بشكل استثنائي. ثالثا:التوافق المزاجي بين الأفارقة والتصوف الجمالي المغربي إن الحضور الصوفي المكثف عند الأفارقة بهذا الشكل قد يمكن تبريره أيضا بالطبيعة الخاصة لأهل أفريقيا الذين يغلب عليهم الفرح والسرور والرقص والغناء كما ذهب إلى ذلك ابن خلدون ،بل إن جذور هذه الظاهرة وتأكيد رسوخها قد ابتدأ منذ زيارة أهل الحبشة للنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وتأديتهم رقصة بالمسجد النبوية بكل أريحية وترحيب وهذا ما يعرف برقصة الزنج و"دونكم يا بني أرفدة" كما كان يشجعهم به النبي صلى الله عليه وسلم. يقول ابن خلدون:" و لما كان السودان ساكنين في الإقليم الحار و استولى الحر على أمزجتهم و في أصل تكوينهم كان في أرواحهم من الحرارة على نسبة أبدانهم و إقليمهم فتكون أرواحهم بالقياس إلى أرواح أهل الإقليم الرابع أشد حراً فتكون أكثر تفشياً فتكون أسرع فرحاً و سروراً و أكثر انبساطاً". وعلى هذا المقياس فيكون التصوف الجمالي هو الأنسب للأفريقيين الجنوبيين ،في ربطهم بالشماليين ،والأكثر تأثيرا في أرواحهم وسلوكهم وأذواقهم بواسطة السماع المهيج للوجدان والمستحث له على التواصل والمحبة والرضا.كما يؤكد هذا التأثير على أن الإسلام لم يدخل إلى إفريقيا بواسطة العنف أو القهر ولكن عن طريق المحبة والتسليم والموالاة الروحية التي كان مركزها المغرب عبر العصور والأزمان وسيبقى كذلك إن شاء الله تعالى مهما كانت المحاولات لطمس هذا المعين الروحي الفياض في أرجائه بل أرجاء العالم الإسلامي المتنور.
[1] سورة الأعراف آية172-173 [2] القشيري:الرسالة ص153 [3] السهروردي:عوارف المعارف،ذيل إحياء علوم الدين،دار الكتب العلمية ج5ص112 [4] علي سامي النشار:نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ج3ص22