نصت مختلف المواثيق والتشريعات الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان على مبدأ الحق في المحاكمة العادلة لما له من تعزيز وتوطيد لحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا، ومن ضمانة لحقوق الأشخاص المعتقلين في جميع أطوار المحاكمة بما فيها مرحلة الأبحاث التمهيدية التي تباشرها الشرطة القضائية، والمغرب وكغيره من الدول، قام بتنزيل هذا الحق على مستوى التشريع الأساسي (الدستور) والتشريع الجنائي الشكلي (قانون المسطرة الجنائية) ، حيث خول للشخص المعتقل على خلفية قضية من القضايا الجنحية أو الجنائية جملة من الحقوق والضمانات القانونية في طليعتها مبدأ "قرينة البراءة" وحقه في الإشعار بدواعي إيقافه وإخبار عائلته، وحقه في الاتصال بالمحامي والمساعدة القضائية، وكذا الحق في "التزام" الصمت، وسنتوقف عند الحق الأخير في مرحلة البحث التمهيدي الممارس من قبل الضابطة القضائية، -ليس فقط- باعتباره يعكس مدى تقدم الدولة في المجال الحقوقي والقانوني، ولكن أيضا، بالنظر إلى بعض الصعوبات العملية التي يمكن أن يطرحها تطبيقه في هذه المرحلة التمهيدية للمحاكمة العادلة، وعليه سنتوقف عند "الحق في التزام الصمت وأساسه النظري الوطني" (أولا) ثم مقاربة هذا الحق على "مستوى واقع الممارسة" (ثانيا). -أولا : الحق في التزام الصمت وأساسه النظري: 1-مفهوم الحق في التزام الصمت : يقصد بالصمت بشكل عام امتناع الشخص عن التعبير والإفصاح عما بداخله، إما بشكل صريح أو بشكل ضمني، والتعبير الصريح يكون باللفظ وهو الوسيلة المعتادة أو بالكتابة أو بالإشارة المتداولة عرفا، كما يقصد به أن يضل المتهم "صامتا" لا يتكلم لا بالسلب ولا بالإيجاب، سواء كان ذلك في مرحلة جمع الاستدلالات أمام الشرطة، أو في مرحلة التحقيق الابتدائي أمام النيابة العامة أو قاضي التحقيق، دون أن يعتبر صوته بأية صيغة من الصيغ قرينة أو دليلا ضده، وعليه يمكن القول أن "الحق في التزام الصمت" هو تلك الحرية التي يمنحها القانون للمشتبه فيه أو المتهم، والتي يستطيع بموجبها الامتناع عن إبداء أجوبة أو تصريحات سواء أمام الشرطة القضائية أو أمام السلطات القضائية، وهو حق يتيح للمعني بالأمر /المشتبه فيه/ المتهم، عند سؤاله أو استجوابه، رفض الإجابة عما يوجه إليه من أسئلة إما جزئيا أو كليا، دون أن يفهم من هذا الامتناع على أنه قرينة على ثبوت الأفعال المنسوبة إليه ضده. 2- الأساس النظري للحق في التزام الصمت حسب التشريع الوطني : بعيدا عن المواثيق والقوانين الدولية ذات الصلة بمجال حقوق الإنسان التي أحاطت الأشخاص الموقوفين أو المعتقلين بجملة من الضمانات القانونية، تدعيما وتعزيزا للحق في المحاكمة العادلة، فقد سار التشريع الوطني في نفس الاتجاه بالنظر إلى أهمية هذا الحق في توطيد حقوق الإنسان، وفي هذا الصدد فقد كرسه الدستور المغربي، من خلال التنصيص على أن قرينة البراءة والحق في محاكمة عادلة مضمونان. وأن كل شخص معتقل يتمتع بحقوق أساسية، وبظروف اعتقال إنسانية ( الفصل 23) ، كما كرسه من خلال الفصل الفصل 23 الذي أوجب إخبار كل شخص تم اعتقاله، على الفور وبكيفية يفهمها، بدواعي اعتقاله وبحقوقه، ومن بينها حقه في التزام الصمت"، ولم يتوقف المشرع الدستوري عند هذا الحد، بل صان السلامة الجسدية أو المعنوية للشخص من خلال الفصل 22، ومنع المساس بها في أي ظرف ، ومن قبل أي جهة كانت، خاصة أو عامة، وكذا التنصيص على عدم جواز معاملة الغير، تحت أي ذريعة، معاملة قاسية أو لا إنسانية أو حاطة بالكرامة الإنسانية، معتبرا أن ممارسة التعذيب بكافة أشكاله، جريمة يعاقب عليها القانون . وقد سار التشريع الجنائي المسطري على نحو التشريع الدستوري، من خلال التنصيص في المادة الأولى (5) على أن البراءة هي الأصل إلى أن تثبت إدانة الشخص بحكم مكتسب لقوة الشئ المقضي به، بناء على محاكمة عادلة تتوفر فيها كل الضمانات القانونية، وتنزيلا لمقتضيات الوثيقة الدستورية، فقد عزز هذا التشريع الجنائي المسطري شروط المحاكمة العادلة، بعدما أحاط الشخص المقبوض عليه من قبل الشرطة القضائية بمجموعة من الضمانات القانونية، ومن ضمنها إخباره فورا وبكيفية يفهمها بدواعي اعتقاله، وبحقوقه ومن بينها حقه في التزام الصمت، إضافة لحقه في الاستفادة من مساعدة قانونية ومن إمكانية الاتصال بأحد أقربائه والحق في تعيين محام، وكذا الحق في طلب تعيينه في إطار المساعدة القانونية، وهو نفس الاتجاه الذي سار عليه المشرع من خلال مسودة قانون المسطرة الجنائية . ثانيا : واقع تطبيق مبدأ الحق في التزام الصمت : لقد أنيطت بضباط الشرطة القضائية بموجب التشريع الجنائي المسطري، جملة من المهام والاختصاصات من قبيل تلقي الشكايات والوشايات وإجراء الأبحاث التمهيدية وممارسة السلطات المخولة لهم في إطار حالة التلبس بجناية أو جنحة ( المادة 21)، وبالتالي فمؤسسة الضابطة القضائية، تقوم بأدوار متعددة الزوايا فيما يتعلق بمحاربة الجريمة بمختلف مستوياتها، وعملها يشكل المدخل الأساس للمحاكمة العادلة، لذلك، وعلى مستوى واقع الممارسة، تجد هذه الضابطة القضائية نفسها أمام معطيين إثنين : - أولا: ضرورة تعميق الأبحاث والتحريات بشأن القضايا المعروضة عليها لمساعدة القضاء في الوصول إلى الحقيقة. - ثانيا: ضرورة الالتزام بصيانة الحقوق التي متع بها المشرع الأشخاص المقبوض عليهم أو الموضوعين رهن تدبير الحراسة النظرية، وعدم المساس بها، و في طليعتها "الحق في التزام الصمت" . وفي هذا الصدد، وتنويرا للرؤية، يمكن الإشارة إلى أن الأشخاص موضوع تدبير الحراسة النظرية من قبل الضابطة القضائية، يختلفون حسب المستويات الثقافية و الاجتماعية والاقتصادية، إذ يمكن أن نميز فيهم بين عديم السوابق العدلية وبين من اعتاد على الجريمة، بين المثقف وغير المثقف، بين المشتغل والعاطل، بين الموظف العادي والموظف الإطار، بين المستخدم ومدير الشركة، بين الممرض والطبيب ... إلخ ، وبالتالي وفي ظل هذا الاختلاف المتعدد الأوجه، قد يتأثر ضابط الشرطة القضائية بالوضع الاجتماعي والاقتصادي للمشتبه فيه -الماثل أمامه- في إطار قضية من القضايا الجنحية أو الجنائية، مما قد ينعكس على منهجية تعامله مع الحقوق القانونية للمعني بالأمر ومن ضمنها حقه في التزام الصمت. فمثلا إذا كان المشتبه فيه "عاطل" أو"من ذوي السوابق العدلية"، قد يتعامل ضابط الشرطة القضائية المعني بالبحث بنوع من "البراغماتية" في التعامل مع الحقوق القانونية، حيث قد يتجاوزها بشكل ناعم ويكتفي بتضمينها بالمحاضر احتراما لشكليات هذه الأخيرة خلافا للواقع، تفاديا للوقوع فيما قد ينجم عن استعمال هذا الحق من عرقلة للإجراءات المسطرية، ومن تضييق لدائرة الأبحاث والتحريات، وقد يحدث العكس تماما، لما يكون ضابط الشرطة القضائية -مثلا- أمام مشتبه فيه "طبيب" أو "مهندس" أو"إطار بشركة " على وعي بما يخول له القانون من حقوق وضمانات ، ففي هذه الحالة، لايجد مناصا من تطبيق مقتضيات النص الجنائي المسطري، بالحرص على اطلاع المعني بالأمر على كافة حقوقه القانونية، ومن ضمنها "حقه في التزام الصمت"، تفاديا لأية تداعيات لاحقة أو ردود أفعال من جانب الشخص المعني. وسواء تعلق الأمر بالحالة الأولى أو بالثانية، يمكن ربط "الحق في الالتزام بالصمت بواقع الممارسة، وبالتالي التساؤل هل كل ضباط الشرطة القضائية يقومون بتفعيل مقتضيات المادة 66 من قانون المسطرة الجنائية فيما يتعلق باطلاع المشتبه فيهم بكافة حقوقهم القانونية ومن ضمنها حقهم في التزام الصمت ، بغض النظر عن مستوياتهم الاجتماعية والاقتصادية ؟ أم أن تطبيق مقتضيات هذه المادة تتحكم فيه عدة اعتبارات، من قبيل الوضع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي للمشتبه فيه وضغط القضايا، وهاجس احترام مدة الوضع تحت الحراسة النظرية والتقديم إلى العدالة؟ وطبيعة الفعل الجرمي المقترف، من قبيل جرائم الإرهاب وتبييض الأموال وغير ها، والتي تحتل فيها المعلومة المصرح بها أهمية بالغة؟ وكذا مدى جرأة ضابط الشرطة القضائية في تطبيق النص القانوني وما يقتضيه من إجراءات مسطرية ( الحق في تعيين محام ) أو ما قد تترتب عنه من آثار من شأنها التأثير على مسار البحث (الحق في التزام الصمت) ؟ وبغض النظر عن الكيفية التي تنزل بها الحقوق القانونية على مستوى واقع الممارسة، لا بد من الإشارة إلى أن هذا الحق يعطي للمشتبه فيه إمكانية قانونية لالتزام الصمت، وبالتالي عدم الرد على الأسئلة الموجهة إليه، وهو في ذات الآن يمس بحقوق أخرى، من ضمنها حق الضحية في الوصول إلى الحقيقة وإدانة الطرف الجاني/ المشتبه فيه، وحق السلطات القضائية بدورها في الوصول إلى الحقيقة، والتي على ضوئها يتم تحديد الجزاء الذي يتناسب ودرجة الفعل المقترف .. ذلك أن ضابط الشرطة القضائية إذا تجاوز "الحق في الالتزام بالصمت" بطريقة "ناعمة" واكتفى فقط بتضمينه بمحضر الاستماع كإجراء شكلي، فهذا لن يثير أي إشكال من الناحية المسطرية، لكن في حالة إذا ما قرر المشتبه فيه "الالتزام بالصمت" بعد اطلاعه أن ذلك يبقى حقا قانونيا، فهذه الوضعية قد تضع ضابط الشرطة القضائية في المحك، مما قد يعرقل مجريات البحث والتحري ويقلص من فرص التوصل إلى الحقيقة، خاصة في الحالات التي يصعب فيها تملك وسائل الإثبات .. وإذا ما استحضرنا الواقع العملي، يبقى التساؤل واردا بخصوص حدود وهوامش هذا الحق، فهل معناه "الالتزام بالصمت" بشكل كلي دون تحريك ساكن؟ أم الإفصاح عن الهوية الكبرى، وبعدها الالتزام الكلي بالصمت؟ أم الإجابة على بعض التساؤلات والتزام الصمت بخصوص أخرى؟ (التزام جزئي)، ثم يمكن التساؤل عن صيغ هذا الالتزام، بمعنى هل الشخص الموقوف يلتزم كليا الصمت ولا يدلي بأي تصريح؟ أم يتكلم ويكتفي بالإشارة بأنه لا يرغب في الجواب أو يمتنع عن الإدلاء بأي تصريح بخصوص الأسئلة الموجهة إليه ؟ فمن باب الإيضاح، قد يقرر المشتبه فيه الإجابة عن أسئلة ويلتزم بالصمت في أسئلة أخرى، أو يشرع في إبداء تصريحاته، ولما تخابر مع محاميه قرر الالتزام بالصمت بشكل كلي، أو إذا صمم منذ البداية على الالتزام بالصمت بما في ذلك عدم الإفصاح عن البيانات المتعلقة بهويته الكبرى، ففي أية حالة من الحالات المذكورة، إما يستقبل ضابط الشرطة القضائية تصريحات جزئية لا تسعفه في التعرف على درجة تورط الشخص المقبوض عليه وكذا الأشخاص المتورطين بمعيته في القضية (مشاركون، مساهمون)، أو يواجه بالتزام "كلي" يجعله أمام نوع من "المأزق المسطري"، مما يضيق من هوامش البحث، ويؤثر بالتالي على جودة المحاضر خاصة تلك المنجزة في إطار الجنح، و التي يوثق بمضمنها إلى أن يثبت العكس بأية وسيلة من وسائل الإثبات، خصوصا إذا كانت وسائل الإثبات محدودة أو غير كافية لإدانة المشتبه فيه/ ملتزم الصمت. وعلى المستوى المسطري الإجرائي، يمكن التساؤل -في حالة الالتزام الكلي بالصمت- هل يتم فقط إشعار النيابة العامة هاتفيا بذلك؟ أم أن الجانب المسطري، يقتضي تحرير محضر، يشير من خلاله ضابط الشرطة القضائية، إلى التزام المعني بالأمر بالصمت؟ وفي هذا المستوى، قد يتعذر على الضابط تبرير سبب الالتزام، خاصة في الحالات التي يمتنع فيها الموقوف عن الكلام بشكل كلي، يتعذر معه الإحاطة بسبب أو أسباب الالتزام بالصمت ؟ وكلها حالات، من شأنها أن تصادف ضباط الشرطة القضائية أثناء ممارسة مهامهم الاعتيادية، من يفرض، فتح نقاش قانوني وقضائي، يحيط بالحق في التزام الصمت من كل الجوانب، من أجل التوصل إلى أجوبة عملية بشأن كل الحالات القائمة أو المحتمل وقوعها. تيسيرا لعمل الضابطة القضائية .. وعليه فإذا كان الحق في التزام الصمت، تدعيما لحقوق الإنسان وضمانا قويا للمحاكمة العادلة، فهذا الحق قد يستغل من طرف بعض الأشخاص المشتبه فيهم والذين خبروا عالم الإجرام، لتقييد عمل الضابطة القضائية في الوصول إلى الحقيقة كما هو الشأن بالنسبة لقضايا الاتجار الدولي في المخدرات التي غالبا ما تحاط بنوع من السرية والكثمان، حيث يمكن استثمار هذا الحق القانوني إما لإبعاد الفعل الجرمي أو للتغطية على أفراد الشبكة، ومع ذلك لا يمكن لضابط الشرطة القضائية اللجوء إلى وسائل الإكراه لكسر حاجز الصمت وإرغام المشتبه فيه عن التصريح سواء كان الإكراه ماديا (العنف، الحرمان من النوم والطعام والإرهاق ...) أو معنويا (التهديد ، التخويف ،الإغراء ، الخداع ...). واستنادا إلى مبدأ "قرينة البراءة" ، فالشخص المشتبه فيه، لا يمكن عموما مطالبته بأي دليل لنفي الأفعال المنسوبة إليه، أي أنه غير مطالب بإثبات "براءة" قائمة أصلا بحكم التشريع المسطري، كما أن "صمته" لا يصح أن يفسر على نحو يضر بمصلحته، وفي ظل هذا الواقع، فثقل الإثبات يلقى على ضابط الشرطة القضائية المكلف بمباشرة البحث والتحري، من خلال البحث عن كل وسائل الإثبات التي من شأنها إدانة المشتبه فيه "الملتزم بالصمت" (معاينة، حجز أدوات الجريمة أو مستندات، شهود، خبرات، شهود، مبلغين ...إلخ)، وفي هذا الصدد، يمكن الإشارة إلى بعض وسائل الإثبات الحديثة، من قبيل الاستجواب عن طريق التخدير أو استعمال جهاز كشف الكذب أو التنويم المغناطيسي ...إلخ، لكننا نرى أن مثل هكذا وسائل، من شأنها أن تسلب الإرادة الحرة للشخص المشتبه فيه، مما قد يشكل مسا صارخا بالحق في التزام الصمت وانتهاكا ناعما لحقوق الإنسان. إذن بناء على ما سلف، ورغم ما يلاقيه الحق في التزام الصمت من معارضة أو مؤاخذات، فإنه يعد دعامة من شأنها تقوية حقوق الإنسان، وضمانة قوية من ضمانات المحاكمة العادلة، وهو حق يضع ضباط الشرطة القضائية أمام تحدي البحث عن كل وسائل الإثبات القانونية، في ظل الاهتمام المتزايد بالحق في المحاكمة العادلة، وهذا لن يتأتى إلا بحسن تطبيق مقتضيات النص الجنائي المسطري، وتطوير آليات ووسائل عمل الضابطة القضائية، في ظل واقع قانوني تهاوت فيه مقولة "الاعتراف سيد الأدلة" ، وهو واقع، يقتضي، تجويد التكوين الأساس لضباط الشرطة القضائية، وتأهيلهم المستمر، لتجويد كفاياتهم القانونية والحقوقية والتواصلية، خصوصا فيما يتعلق بتقنيات ومناهج البحث الجنائي، من أجل تنزيل أمثل لأهداف ومقاصد السياسية الجنائية الوطنية في مستواها المتعلق بالشرطة القضائية، والتي تتأسس في مجملها على احترام القانون وصون الحريات وضمان شروط المحاكمة العادلة وحماية صرح حقوق الإنسان ..