إذا كان القانون الجنائي هو الذي يجرم و يحدد العقوبات المناسبة لكل جريمة على حدة ، فان قانون المسطرة الجنائية هو الذي يعنى بتنظيم البحث عن مرتكب الجريمة بطريقة علمية سليمة لا تتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان و مع الدستور، فقواعد المسطرة الجنائية هي التي تحرك نصوص القانون الجنائي و تبث فيها الحياة لتقوم بدورها وبأهدافها ، فقانون المسطرة الجنائية هو الذي يعبر عن السياسة الجنائية للدولة ، فعلى سبيل المثال فإن تقليص مدة الحراسة النظرية و احترام المدة المنصوص عليها في القانون هو دليل على أن الدولة تحترم و تقدر حرية الأفراد ، وكذلك فإن تحريم انتهاك حرمة المنازل و الدخول اليها و منع تفتيشها بطريقة تعسفية غير قانونية خارج الأوقات المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية يعني أن الدولة تحترم خصوصيات الأشخاص ، و كذلك فإن منع الإكراه و التعذيب المعنوي و الجسدي يعني أن الدولة قد خرجت من مرحلة الدولة البوليسية إلى مرحلة دولة الحق والقانون ... و لهذا قام المغرب في إطار الإستراتيجية الهادفة إلى ملاءمة التشريع الداخلي مع المواثيق و الإعلانات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان و منها على الخصوص تحسين و تطوير قانون المسطرة الجنائية بهدف توفير أفضل الضمانات لحماية حقوق الإنسان وتوفير الأمن القضائي للمواطنين و تحقيق جودة الأحكام أو على الأقل التقليل من الأحكام الرديئة و المجحفة الضارة بحقوق و مصالح المواطنين و لهذا نص الدستور على «مبدأ افتراض براءة المتهم « و مبدأ «المحاكمة العادلة «. ومن أهم مقومات المحاكمة العادلة احترام مقتضيات قانون المسطرة الجنائية أو ما يعرف بقانون الشكل أثناء مثول المتهم أمام المحكمة التي يفترض فيها أن تكون علنية و نزيهة و حيادية و مستقلة, كما تنص على ذلك المادة 11 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية ، و يتضمن مبدأ المحاكمة العادلة عدة مقتضيات أكد على بعض منها الدستور المغربي و تعززت بمجموعة من المواد في قانون المسطرة الجنائية ، و جميع هذه المقتضيات جاءت من أجل حماية حقوق و حريات المواطنين وتحقيق أمنهم القضائي وهذا يعني حماية المواطنين من الأعمال السلبية للقانون ومنع التعسفات و الخروقات و الاخلالات التي تشوب مسطرة البحث و التحقيق أثناء توقيف المشتبه فيهم أو احتجازهم أو محاكمتهم و كذلك من أجل تحقيق العدالة عند النطق بالأحكام التي تصدر باسم جلالة الملك و طبقا للقانون ، و ينص الفصل 119 من الدستور على أن كل مشتبه فيه أو متهم بارتكاب جريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته بمقرر قضائي مكتسب لقوة الشيء المقضى به ، و من أجل تطابق مواد الدستور الذي هو أسمى القوانين مع القوانين الجنائية نصت المادة 1 من قانون المسطرة الجنائية على أن « كل متهم أو مشتبه فيه بارتكاب جريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته قانونا بمقرر مكتسب لقوة الشيء المقضى به بناء على محاكمة عادلة تتوفر فيها كل الضمانات القانونية « ، كما أن قانون المسطرة الجنائية جاء متلائما مع المادة 9 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية التي تنص على الحق في افتراض البراءة وعلى أن المتهم بريء أصلا إلى أن تثبت إدانته ، و الحق في مناقشة شهود النفي و الإثبات و حمايتهم ( المادة 14 من نفس العهد ) وهذه المقتضيات هي مطابقة للمادة 82-3 من قانون المسطرة الجنائية التي تنص على وجوب الاستماع إلى الشاهد من طرف النيابة العامة و إخفاء هويته و تضمين هوية مستعارة له أو غير صحيحة و عدم الإشارة إلى العنوان الحقيقي للشاهد ووضع رهن إشارته رقم هاتفي خاص بالشرطة و توفير حماية جسدية له من طرف القوة العمومية بشكل يحول دون تعرض الشاهد أو أسرته أو أقاربه للخطر، لكن من الناحية التطبيقية يلاحظ أن هذه الإجراءات لا تحترم في كثير من الأحيان من طرف النيابة العامة و الضابطة القضائية ، ومن أهم مبادئ المحاكمة العادلة ما نصت عليه المادة 66 من قانون المسطرة الجنائية التي جاء في فقرتها 2 على أنه : « يتعين على ضابط الشرطة القضائية إخبار كل شخص تم القبض عليه أو وضع تحت الحراسة النظرية فورا و بكيفية يفهمها بدواعي اعتقاله و بحقوقه و من بينها حقه في التزام الصمت»، فهذه المقتضيات لم يضعها المشرع المغربي عبثا أو من أجل الديكور القانوني بل من أجل توفير الضمانات القانونية للأشخاص المحتجزين و حماية حقوقهم و حرياتهم ، فمن حق كل مواطن تم إيقافه أن يعرف أسباب اعتقاله حتى يتمكن من إعداد الدفاع عن نفسه و كذلك له الحق في أن لا يدلي أمام الضابطة القضائية بأي تصريح قبل الاتصال بمحاميه حتى لا يورط نفسه في جريمة لم يرتكبها أو يفوه بأقوال ليست في مصلحته ... فكم من شخص بريء تم إيقافه عن طريق الخطأ فأخذ يصرح بأقوال و يعترف بأفعال لم يرتكبها بدافع الخوف و الرعب أو التهديد أو الضغط أو الإكراه و التعذيب ، و من أجل تحقيق هذه الضمانات التي جاء بها الدستور يجب إدخال تعديل على قانون المسطرة الجنائية و ذلك بالتنصيص على حق المحامي لحضور البحث التمهيدي أمام الضابطة القضائية والتوقيع في محضر الاستماع إلى جانب ضابط الشرطة القضائية و الشخص المحتجز حتى يتم رفع الغموض والالتباس والشك الذي يحوم دائما حول مصداقية محاضر الضابطة القضائية التي يوثق بمضمنها طبقا للمادة 290 من قانون المسطرة الجنائية و التي يواجه بها المشتبه فيه أمام المحكمة و في غالب الأحيان لا يستطيع المتهم إثبات عكس ما جاء فيها، أما السماح للمحامي بالحضور إلى جانب المتهم أمام النيابة العامة أو قاضي التحقيق بعد انتزاع تصريحات و اعترافات منه, فإن ذلك الحضور الشكلي لن يفيد في شيء و هو محاولة لحجب منبع الخلل و هو البحث التمهيدي الذي يعرف عدة خروقات و تجاوزات خطيرة تفسد مجرى المحاكمة العادلة إذ كان من المفروض تعزيز ضمانات حقوق المحتجزين بحضور المحامي في جميع مراحل البحث التمهيدي لتحقيق جودة الأحكام التي يهدف إليها الدستور، هذا بالإضافة إلى أنه من الناحية العملية يلاحظ تسجيل خرق مقتضيات المادة 66 من قانون المسطرة الجنائية و خاصة الفقرة المتعلقة بحق المحتجز في التزام الصمت, فإن الضابطة القضائية لا تحترم غالبا مقتضيات المادة 67 من نفس القانون التي تنص على أنه « يجب على ضابط الشرطة القضائية أن يقوم بإشعار عائلة المحتجز فور اتخاذ وضعه تحت الحراسة النظرية بأية وسيلة من الوسائل و يشير إلى ذلك بالمحضر» و تعتبر مسألة إشعار عائلة المحتجز من أهم الإجراءات التي لها دلالتها و أهدافها القانونية والحقوقية و تتمثل في حق عائلة الشخص الموقوف في معرفة مصير ابنها الموقوف من أجل اتخاذ ما تراه لازما للدفاع عن حقوقه و حريته ، فهذه المقتضيات المسطرية مستمدة من روح الدستور الجديد الذي نص على حماية الأشخاص ، فجاء في الفصل 23 على أنه «لا يجوز إلقاء القبض على أي شخص أو احتجازه أو اعتقاله أو متابعته أو إدانته إلا في الحالات و طبقا للإجراءات التي ينص عليها القانون ، الاعتقال التعسفي و السري و الاختفاء القسري من أخطر الجرائم و يتعرض مقترفوها لأقصى العقوبات « . إن الاعتقال التحكمي التعسفي يمس بمبدأ قرينة البراءة المنصوص عليها في المادة 23 من الدستور و المادة 1 من قانون المسطرة الجنائية ، و كل خرق يمس بمقتضيات المسطرة الجنائية من طرف الضابطة القضائية أو قضاة النيابة العامة أو قضاة الأحكام يترتب عنه المسؤولية أمام القضاء المختص لتعويض الشخص المتضرر عن الأضرار التي ألحقت به من جراء الخطأ القضائي طبقا للفصل 109 الفقرة 3 من الدستور الذي ينص على أنه» يعد كل إخلال من القاضي بواجب الاستقلال و التجرد خطأ مهنيا جسيما بصرف النظر عن المتابعات القضائية المحتملة» و يحق لكل مواطن تضرر من عمل قضائي أن يلتجئ إلى القضاء المختص لطلب التعويض إذا وقع هذا الخطأ من القاضي أو من ممثل النيابة العامة, سواء تعلق الأمر بغش أو تدليس أو غدر أو خطأ مهني جسيم أو إذا امتنع القاضي عن الإجابة عن استدعاء قدم له أو عن الفصل في قضية جاهزة للحكم ... و الدولة مسؤولة عما يحكم به على المسؤول عن الخطأ طبقا للمادة 400 من قانون المسطرة المدنية و المادة 17 من وثيقة الأممالمتحدة الخاصة بالمبادئ الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية ، إن من أهم ما جاء في الدستور الجديد هو أن كل من يتحمل المسؤولية يتحمل المحاسبة والمتابعة و العقاب ، فلا أحد فوق القانون في هذه البلاد يفعل ما يشاء دون مراقبة و لا محاسبة و لا مجال للإفلات من العقاب في ظل دولة الحق و القانون، فالقضاة هم الأمناء على الحقوق و الحريات و نشر العدالة بين الناس و تطبيق القانون الذي على أساسه يبنى المجتمع ، فهم يصدرون الأحكام باسم جلالة الملك و لهذا يجب أن تكون تصرفاتهم و سلوكاتهم داخل المحاكم و خارجها في مستوى الأمانة المودعة لديهم وفي مستوى طموحات جلالة الملك الذي يصدرون الأحكام باسمه، و هذا يجرنا إلى شروط اختيار القضاة, حيث يجب أن تتوفر فيهم صفات الكفاءة و الأخلاق الحميدة و النزاهة و التجرد و الاستقلالية و الاستقامة و الشرف و كذلك يجب أن تتوفر هذه الشروط الحميدة في المحامية و المحامي الذي هو شريك القاضي في صيانة الحقوق و الحريات و هما توأمان درسا في كلية واحدة و جلسا على مقعد واحد و نهلا من علم واحد و هما الآن يعملان في مجال واحد هو تحقيق العدالة . أما فيما يخص قرار الاعتقال, فانه في كثير من الحالات فإن النيابة العامة تتستر بسلطة الملاءمة و السلطة التقديرية لاتخاذ قرارات تعسفية مخالفة لقانون المسطرة الجنائية ، مثال ذلك الاعتقال التعسفي دون توفر حالة التلبس المنصوص عليها في المادة 56 من قانون المسطرة الجنائية تحت غطاء عدم وجود ضمانات لحضورالمتهم أمام المحكمة... في حين أن هذه السلطة ليست مطلقة بل هي مقيدة بنصوص قانونية و أخلاقيات مهنية راقية أهمها الاستقلالية و التجرد في اتخاذ القرار، و في الحالة العكسية يتم إطلاق سراح المتهم الذي تم ضبطه في حالة تلبس، فالسلطة التقديرية تخضع لقواعد مسطرية يجب على النيابة العامة الانتباه إليها لأن قرار الاعتقال بجرة قلم مسألة سهلة و بسيطة ، أما حرية الإنسان فإنها لا تقدر بثمن و هي تتطلب دراسة جيدة لملف القضية و الحذر و الاجتهاد ، وعند ارتكاب خطأ قضائي جسيم, فإن أول المتضرر هو سمعة الدولة المغربية و سمعة القضاء في الداخل و الخارج... * المحامي بهيأة وجدة