صدر أخيرا طبعة ثانية لكتاب أكرية السفن، لمؤلفه أبي القاسم خلف بن أبي فراس القروي الإفريقي؛ وهو فقيه مالكي عاش بالقيروان، حاضرة إفريقية، في القرن الرابع للهجرة العاشر للميلاد، قام بدراسة الكتاب وتحقيقه بطبعتيه الأولى والثانية الدكتور عبد السلام الجعماطي، أستاذ التعليم العالي مؤهل بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين، وأستاذ زائر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، جامعة عبد المالك السعدي. وقدم له الأستاذ الدكتور جعفر ابن الحاج السلمي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان. صدرت هذه الطبعة المنقحة والمزيدة عن دار الأمان بالرباط، بدعم من وزارة الثقافة، والتي تربو عن سابقتها (الصادرة بتطوان سنة 2009)، بما قدره 63 صفحة، حيث جاءت الطبعة الجديدة للكتاب في 200 صفحة، من القطع المتوسط، وتشمل الدراسة والمتن، والملاحق والفهارس. وتزين الغلاف صورة صحن من الخزف يمثل سفينتين أندلسيتين. ومما جاء في تقديم الكتاب ما نصه: "حَقَّقَ د. عَبدُ السَّلامِ الجَعماطِيّ، التِّطوانِيُّ المَرتينِيّ، كِتابَ "أَكرِيَةِ السُّفُن"، لِأَبي القاسِم، خَلَفِ بنِ أَبي فِراسٍ القَرَوِيّلِيُعَمِّقَ مَعرِفَتَهُ وَمَعرِفَةَ النّاسِ بِتاريخِ العَصرِ الوَسيطِ الإسلامِيّ، في الغَربِ الإسلامِيّ، وَتاريخِ حَوضِ البَحرِ الأَبيَضِ المُتَوَسِّط ... وَلَقَد بَذَلَ في سَبيلِ ذلِكَ ما بَذَلَ مِن مالٍ وَجَهدٍ وَوَقت، وَقَطَعَ في ذلِكَ عُطَلَه، وَقَصَّرَ في ذلِكَ لَيالِيَه، وَأَحياها بِخِدمَةِ البَحثِ وَالمَعرِفَة، صابِرًا مُحتَسِبًا عَلى المَشَقَّةِ وَاللَّأواء"، خِدمَةً لِهذا التّاريخِ الإسلامِيِّ المَجيد، وَرَغبَةً مِنهُ في فَهمٍ أَفضَلَ لَه، مُقَدِّمًا وَثيقَةً فِقهِيَّةً تاريخِيَّةً قَديمَةً جِدًّا، في غايَةِ النَّفاسَةِ، لا تَحقيقَ مَن لَيسَ لَدَيهِ وِجهَةٌ هُوَ مُوَلّيها. بَل لِلرَّجُلِ وِجهَةٌ هُوَ مُوَلّيها، يَستَبِقُ فيها الخَيرات. وَاللَّهُ حافِظُهُ فيها، وَمُمِدُّهُ بِمَدَدٍ مِن عِندِه". وكتاب أكرية السفن، هو أقدم تأليف في الفقه البحري المالكي بلغ إلينا بنصه كاملا، وهو أصيل وفريد في بابه، بحيث يمكن عدّه من بين أعرق القوانين البحرية العربية الإسلامية، الجامعة لمختلف أوجه التشريعات الفقهية المنظمة لمجال الملاحة البحرية، وأحكام النواتية العاملين عليها، وأصناف كراء السفن المضمونة والمعينة، وأنواع التعاقدات المعمول بها في قطاع الملاحة البحرية والتجارة الموانئية، من شركة وتأجير وقراض... وآراء فقهاء المالكية في مشروعيتها، ونظرهم في ما يطرأ على هذا المضمار من نوازل، كالعطب والغرق، وفساد السلع والأمتعة، وتصادم المراكب، وتأخر وقت السفر إلى حين تعذره، وما يعترض الملاحة البحرية من حوادث القرصنة واللصوصية والغصب. وقد استمد المؤلف مادته الفقهية من كبار علماء المذهب المتقدمين عنه والمعاصرين له، كما استرشد بخبرته في معرفة أحوال البحر وأصناف التعاقدات بين أرباب السفن والملاحين والتجار، فجاء كتابه مزيجا من المعرفة الفقهية الدقيقة والخبرة العملية، بحيث يستعصى أن نقف على مثل هذا الاتفاق العجيب بينهما في ذات التأليف، بالنسبة لقطاع يعتبره المتخصصون من أكثر أصناف التأليف ندرة من حيث المصادر النصية والوثائقية الأصيلة. وقد اعتمد الباحث في تحقيقه على ثلاث نسخ خطية، الأولى منها توجد بمكتبة سان لورينثو الموجودة داخل دير الإسكوريال بإسبانيا، والثانية توجد بخزانة جامع القرويين بفاس، فيما تعود ملكية النسخة الثالثة إلى مكتبة خاصة بالرباط. ويجدر القول إن نسخة القرويين عتيقة جدا مقارنة مع النسخة الإسبانية، غير أن المفهرس لم يضع العنوان الأصلي للكتاب، وإنما اكتفى بتعريفها بعنوان "تقييد في موضوع مسألة السفن"، لأن الجهة التي أشرفت على الفهرسة لم تهتد إلى كونه نسخة خطية لكتاب "أكرية السفن"، وقد اهتدى المحقق بتوفيق من الله سبحانه إلى التعرّف على هذه النسخة والتنويه بها، بعد مقابلتها مع النسختين الأخريين، مما كشف له عن هويتها. وأنها الأصل الذي نسخت عنه النسخة الرباطية الخاصة. استعرض الباحث في الباب الأول من قسم الدراسة، السياق التاريخي الذي أحاط بتأليف الكتاب، مبرزا التطورات الكبرى التي شهدها تاريخ الملاحة البحرية ببلاد إفريقية، وكذلك النشاط التجاري البحري لهذا القطر خلال عصر التأليف. كما نوّه بالدور الذي أدّاه الفقه المالكي في تقنين المعاملات التعاقدية بين أرباب السفن والتجار؛ مع الإشارة إلى المحنة التي تعرض لها فقهاء المالكية بإفريقية، دون أن تفتّ في عضدهم، أو تبعدهم عن الارتباط بالحياة الاقتصادية، وتقنين العلاقات التي تجمع المتعاقدين في قطاعاتها. بينما تناول في الباب الثاني الحديث عن هوية المؤلف، بحيث صنع الباحث له ترجمة مفصلة، انطلاقا من كتب التراجم والطبقات ومجاميع الفقه المالكي التي ذكرته؛ وتبين أن الرجل كان أحد أهل الفتوى والاجتهاد في فقه إمام دار الهجرة بالغرب الإسلامي. أما في الباب الثالث من الدراسة، فقد انصب الحديث على أهمية الكتاب المحقق، أولا من الناحية الفقهية، بوصفه أحد أقدم المتون المصنفة في فقه كراء السفن؛ وثانيا من الناحية التاريخية، فالكتاب يعدّ وثيقة تاريخية فريدة وغنية بالمعطيات الاقتصادية والاجتماعية، المتصلة بكراء السفن والمعاملات التعاقدية بهذا المضمار، في ظل الأحكام الشرعية والاجتهادات التي تستدعيها التطورات الطارئة، على قطاع الملاحة البحرية، وما يرتبط به من تبعات. وتم تخصيص القسم الثاني من الكتاب للمتن المحقق، وهو يتألف من مقدمة وتسعة أبواب، خصص كل باب منها لموضوع فقهي محدد، بحيث تتكامل الأبواب جميعها في تبيان فقه الملاحة التجارية في المذهب المالكي، كما تم إلحاقه بسبعة وعشرين من النصوص الفقهية المتعلقةبالملاحة البحرية والتجارة الموانئية في بلاد الغرب الإسلامي عموما، تغطي أو تكاد معظم فترات العطاء الحضاري العربي الإسلامي في مضمار الملاحة البحرية، استكمالا للفائدة المرجوة من دراسة الكتاب، والتنويه بمساهمة الأمة العربية في الملاحة البحريةوالتجارة الموانئية بالبحر المتوسط.