إن قيمة التكافل قيمة فطرية أصيلة ضاربة جذورها في كيان المجتمع المسلم، تعمل على جمع المسلمين في بوتقة من التساند المادي والمعنوي، وما ذلك إلا نتاج للبعد العقدي والأخلاقي لمفهوم الإحسان في الإسلام، هذا المفهوم "الذي يتجسم مضامين عملية في مختلف المجالات، تستهدف في المجال الاقتصادي والاجتماعي تحقيق أهداف الشرع في تنمية الذات، وفي صياغة المجتمع المسلم بصيغة التآخي والتكافل، عن طريق تنفيذ أوامر الله عز وجل، ووصاياه، في مستواها الجمالي، دون قصر للنظر على المعادلات المادية العاجلة". وانطلاقا من هذا المفهوم وجد المجتمع الخيري المسلم، الذي لا يفرق بين عبادة الله وفعل الخير حيثما ومتى وجب فعله، فالأمر الإلهي: {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الحج:77] يعني عدة أمور: "الأمر الأول: أن الخير معروف بالفطرة والتنشئة وفعل الإيمان، والأمر الثاني: أن الشرع ومن خلال القيم التي نشرها وينشرها هو الذي يعطي الإدراك الفطري للخير معناه القيمي العالي الوتيرة، كما يعطيه الدافع الاحتسابي، والوعد بالأجر في الدنيا والآخرة، وهذا الأمر كما يحدث على المستوى الفردي، يحدث أيضا على المستوى الجماعي، فيظهر المجتمع الخيري، الذي يتكون من أناس فضلاء، ويتخذ قواعد، ليس من الضروري أن يتبعها المجتمع؛ لكنها تصبح دوافع وأعلاما لدى السواد الأعظم من الناس". والمجتمع الخيري في المغرب عموما، وفي مدينة تطوان على وجه الخصوص، سجل صفحات مشرقة في تاريخه، لا زلنا نعيش آثارها إلى يومنا هذا. إن المجتمع الخيري بمدينة تطوان كان من أهم مظاهره الأحباس الإسلامية، التي أخذت أشكالا عدة تصب كلها في تحقيق التنمية الفردية والجماعية للمجتمع، والقضاء على آفة الفقر والعوز، والمتصفح لسجلات الأحباس بالمنطقة يقف على نماذج مشرقة؛ منها: حبس تجهيز العروس اليتيمة، وحبس (القُلَّة) لمن تكسرت قلتها من الخادمات، وحبس (الخبز) لإطعام المساكين والطلبة، ومن أطرف الأحباس حبس اللقلاق (بلاَّرج) خاص بمداواته وعلاجه عندما تصيبه آفة، وغيرها من النماذج كثير...، وكل هذا دليل على أن المجتمع الخيري بالمدينة آنذاك قد حقق سد الحاجيات الضرورية، وانتقل إلى سد الحاجيات الكمالية؛ ومن ثم خلف لنا أجدادنا رحمهم الله" مَبَرَّاتٍ بالإنسانية في مختلف المظاهر، تنبئنا بعظيم اهتمامهم بأمر المسلمين، فقد تغلب في مجتمعهم عنصر الخير فطمس مساوئ الأنانية الممقوتة، ورفع من قيم أنفسهم، فجعل هممهم تتجه صوب المصالح العامة، يجودون في سبيلها بما يخلد ذكرهم في سجل المصلحين، ويُنِيلَهُمْ الزُّلْفَى يوم تجد كل نفس ما عملت من خير مُحْضَرَا". وإذا انتقلنا إلى حاضر مدينتا اليوم، نجد جهودا مُشَرِّفَة من قبل مؤسسات المجتمع المدني، التي تعمل جاهدة على بلورة العمل الخيري على أرض الواقع، فمن جمعيات لكفالة الأيتام والأسر المعوزة، إلى جمعيات مساعدة المرضى والمصابين بالأمراض المزمنة، وجمعيات مساعدة الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة...إلخ، وكل هذه الجهود المبذولة إنما يرجع فضلها بالأساس إلى تبرعات الأفراد، مما يدل على أن العمل الخيري والتطوعي بالمدينة أصيل في ساكنتها. ومما يجدر التنويه به في هذا المقام، ما تقوم به المواقع الإخبارية الإلكترونية، وصفحات التواصل الاجتماعي بمدينتنا تطوان، من تبني هموم الناس، والتحسيس بالحالات الإنسانية التي تستدعي التدخل السريع والعاجل، وهو عمل يعكس الالتزام الأخلاقي الراقي لأخلاقيات الصحافة والتدوين. إننا اليوم في حاجة إلى خلق تنسيق ما بين هذه المواقع الإخبارية ومؤسسات العمل الخيري، وذلك من أجل التَّسْريع بالتَّفْرِيج لهموم الناس وكُرُبَاتِهِم، خصوصا وإننا نشاهد حالات إنسانية تشكل نقطا سوداء في صفحات العمل الخيري بالمدينة، وعدم التبني لها يعد تنازلا صارخا عن قيم الإسلام وتعاليمه. وما حالة المريضة (سامية) التي تعاني الآلام، والشاب الذي يموت ببطء قبالة معهد مولاي الحسن، إلا حالات تختبر قوة المجتمع الخيري بمدينة تطوان من هشاشته. إن المجتمع الخيري بالمدينة الآن، أفرادا وجماعات، مؤسسات عامة وخاصة، مطالب بالعمل الحثيث على جعل تاريخ صفحاته مشرقة كما مضى من تاريخ الأسلاف، وأن لا يكتفي بمرتبة الشرف. ذ.يوسف الحزيمري