الوقف الخيري في الإسلام، من دعائم أيّ نهضة اجتماعية وحضارية للمسلمين ، فهو ركن ركينٌ للازدهار الاقتصادي، والتنمية الاجتماعية، لأنّه ينبني على روح التكافل والبذل والعطاء والتّعاون وقد حقّق المجتمع الإسلامي في مختلف أطوار تاريخه تقدّماً اجتماعياً وعلمياً وحضارياً واقتصادياً بفضل هذا العمل الخيري الذي فتح الإسلام أبوابه، والذي نرجو أن تعود الأمّة الإسلامية إليه بكامل الإيمان بوعد الله الصّادق، وتمام اليقين بجدوى الوقف بكل أبعاده التنموية، مع التجديد والاجتهاد في سبُل استثماره وتوظيف خيراته. كتاب الدكتور السعيد بوركبة »الوقف الخيري في الإسلام وأبعاده التنموية، من خلال الدراسات التي تناولت الوقف عند المسلمين« والصادر سنة 2030ه/ 2009م عن دار أبي رقراق في الرباط، مساهمة قيّمة في بيان فضائل هذا العمل الخيري، ومختلف ما يتصل به، ولا شك أنّ هذه الدّراسة تحفّز على مزيد الاهتمام بالوقف ومزيد البذل، باعتبار أنّ كل ذلك لبنات في بناء المجتمع الإسلامي وتحصينه وتقويته. الوقف: أركانه وشروطه يقول المؤلف: »ليس من شك في أنّ الوقف الخيري في الإسلام، يعتبر أساسا من بين أسس التعاون والتضامن والتكافل لدى المسلمين، كما يعتبر دعامة كبرى من بين دعائم البر والإحسان فيما بينهم، نظرا لما له من أبعاد تنموية هائلة في مجتمعاتهم، تربويا ودينيا وثقافيا ومجتمعيا وصحيا واقتصاديا واستثماريا وبيئيا ودعويا وجهاديا وحضاريا، وغيرها«. وقبل أن يلقي المؤلف أضواء على هذه الأبعاد، قدّم تمهيدا لها ببيان شامل لمفهوم الوقف، وذكر طبيعته والأصل في مشروعيته وحكمته وأهم دوافعه، مع إجمال آراء المذاهب الفقهية في ملكية الموقوف. ثم أتبع ذلك بفصل أول يتضمن الكلام على أركان الوقف وشروطها، مع ذكر شروط الواقفين، وشروط الواقفين العشرة ثم ذكر مبطلات الوقف وأقسامه وناظره. ثم أتبعَ ذلك بفصل ثانٍ يتضمن معالجة الكلام على أبعاد الوقف التنموية في حياة المسلمين في عدة مباحث. وهكذا حدد، في التمهيد، مفهوم الوقف، وذكر طبيعته، والأصل في مشروعيته وحكمته، وأهمّ دوافعه، مع إجمال آراء المذاهب الفقهية في ملكية الموقوف. وينقسم الفصل الأوّل إلى ستة مباحث هي: أركان الوقف وشروطها، شروط الواقفين، شروط الواقفين العشرة، مبطلات الوقف، أقسامه، ناظره. بينما ينقسم الفصل الثاني الذي تناول فيه المؤلف الأبعاد التنموية للوقف الخيري في الإسلام، إلى عشرة مباحث هي: البعد التربوي، البعد الديني، البعد الثقافي، البعد المجتمعي، البعد الصحي، البعد الاقتصادي، البعد الاستثماري، البعد البيئي، البعد الدعوي والجهادي، البعد الحضاري. حدد المؤلف مفهوم الوقف لغة واصطلاحا، وقد ورد التحديد الاصطلاحي في عدة تعاريف، كان من أهمها في نطاق المذهب المالكي ماعرفه به الإمام ابن عرفة حيث قال: »الوقف: إعطاء منفعة شيء مدة وجوده، لازماً بقاؤه في ملك معطيه ولو تقديراً«. فما يعطى في الوقف هو منفعة الشيء الموقوف، لاذاته، وقد أوضح الشيخ محمد أبو زهرة أنّ أجمع تعريف لمعاني الوقف عند الذين أجازوه، أنه حبس العين وتسبيل ثمرها، أو حبس عين للتصدق بمنفعتها. ذكر المؤلف الأدلّة العامّة على مشروعية الوقف، فالإنفاق في سبيل الله والتصدق الذي أمر الله به الأغنياء، وفعل الخير كل هذه الأمور ندب الله إليها عباده الأغنياء وحثهم عليها - زيادة على ما كان واجبا منها - كإحسان إلى الفقراء وذوي القربى واليتامى والمساكين والضيف وأبناء السبيل. وبالنسبة لما يرجع إلى السنة فقد رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث تشير إلى مدى أهمية الوقف. وأما الأدلة الخاصة على مشروعية الوقف فقد ذكر المؤلف عدة نصوص. وهكذا »وبالنظر إلى ماسبق من نصوص شرعية، يتضح لنا أن الوقف له أصل أصيل في القرآن وفي السنة النبوية مما يدل دلالة واضحة على ما له من أهمية كبرى في نطاق التعاون والتكافل وفي نطاق الضمان المجتمعي لدى المسلمين« (ص 23 24). ثم ذكر المؤلف أهم الدوافع إلى الوقف: الدافع الديني، والدافع الاجتماعي (المجتمعي)، والدافع العائلي، والدافع الواقعي، والدافع الغريزي. كما أجمل آراء المذاهب الفقهية في ملكية الموقوف.لينتقل بعد ذلك الى الحديث عن أركان الوقف وشروطها. فالواقف هو من ينشئ الوقف ويوجده، ولكي يصح وقفه لابد أن تتوفر فيه عدة شروط وهي: 1 أن يكون أهلا للتبرع. 2 بالغا 3 عاقلا. 4 حرا 5 غير محجور عليه لسفه أو غفلة أو دين مختارا غير مكره، مالكا للعين التي يريد وقفها. وأما الموقوف فهو ما وقفه الواقف على شيء وهو محل الوقف الذي تترتب عليه آثاره الشرعية، ولكي يكون الموقوف معتبرا شرعا، لابد أن تتوفر فيه عدة شروط هي: أن يكون مالا متقوما، وأن يكون معلوما علما يزيل الجهالة، وأن يكون ملكا للواقف وأن يكون قابلا للوقف بطبيعته والموقوف عليه هو الجهة التي تستفيد من الوقف، فقد تكون إما إنسانا واحدا، أو متعددا أو تكون مؤسسة مجتمعية أو ثقافية أو دينية. وإما أن تكون مكانا مقدسا، أو حيوانا محترما أو غير ذلك. ومهما يكن الموقوف عليه، فقد اشترط فيه أن يكون الوقف عليه قربة في ذاته، ولدى الواقف. ويتفرع عنه: ما وقفه غير المسلم على فقراء المسلمين وأهل ملته؛ ما وقفه المسلم على فقراء المسلمين وغير المسلمين؛ ماوقفه المسلم و غير المسلم على بيت المقدس؛ وما وقفه غير المسلم على مسجد غير بيت المقدس؛ ماوقفه المسلم وغير المسلم على بيعة أو كنيسة. فالأربعة الأولى صحيحة، والخامس غير صحيح. ويضاف الى ذلك عدم صحة الوقف على الأغنياء، وعدم اشتراط وجود الموقوف عليه وقت إنشاء الوقف وعدم اشتراط أن يكون الوقف على الأشخاص، واشتراط ألا يكون الموقوف عليه ميتا، وعدم اشتراط أن يكون الموقوف عليهم محدودين ومحصورين. وتحدث المؤلف بعد هذا عن صيغة الوقف، وهي مايدل على إرادة الواقف وإنشائه، وتقسم إلى صريحة وإلى كنائية.كما تحدث عن شروط الواقفين في نطاق كل من المذهب المالكي، والحنبلي، والحنفي. فالمالكية يرون أنه إذا اشترط الواقف في وقفه حرمان البنات من الاستحقاق في الوقف، أو تقييد استحقاقهن بعدم الزواج، فإن ذلك الشرط يكون ممنوعا. وأكثر فقهاء المذهب الحنبلي ينظرون في الأحكام إلى المآلات، ، وهو ما يسمى في الفقه الإسلامي بالذرائع، فإن الحكم فيها يأخذ حكم المآل، فإذا كان الفعل في ذاته مباحا، ولكنه يؤدي إلى الحرام، يكون حراما، كبيع السلاح في الفتن فإنه عند الحنابلة يكون باطلا، لأنه يؤدي غالبا إلى أن يسهم حامل السلاح في هذه الفتن القائمة، وذلك حرام، فما يؤدي إليه غالبا يكون حراما. وقسم فقهاء الأحناف شروط الواقفين إلى شروط مبطلة مانعة من انعقاد الوقف، وهي الشروط التي تنافي اللزوم والتأبيد، وشروط باطلة، وشروط صحيحة، يجب الأخذ بها، وتجب رعايتها، والعمل على تنفيذها، وهي الشروط التي لاتنافي مقتضى الوقف، وليس فيها مخالفة للمبادئ الشرعية، ولاضرر بالوقف والمستحقين. وأما شروط الواقفين العشرة فتتمثل في الزيادة والنقصان، والإدخال والإخراج، والإعطاء والحرمان، والتغيير والتبديل، والإبدال والإستبدال. ثم تطرق المؤلف لمبطلات الوقف وهي كل ما يخل بركن من أركانه، أو بشرط من شروطه ولا سيما منها شرط الحيازة. ومن ذلك، مثلا، أنّ الوقف يبطل بسبب حصول مانع له قبل حوزه من قبل الموقوف عليهم، سواء كان المانع موتا أو فلسا أو مرضا متصلا بموته، ويرجع الوقف للغرماء في الفلس، وللورثة في الموت إذا لم يجيزوه، وإلا نفذ». وينقسم الوقف إلى وقف خيري، ووقف معقب، أو أهلي، أو ذري، ووقف مشترك بينهما. فأما الوقف الخيري، فهو ما يقفه الواقف على وجه البر والإحسان، ويصب في عدة قنوات داخل المجتمع الإسلامي، وما يزال معمولاً به في عدة دول عربية وإسلامية إلى الآن، وتقوم بعض الدول العربية والإسلامية الآن لإحيائه، نظرا لما له من أبعاد تنموية جادة في حياة المسلمين من جهة، ولكونهم يريدون أن يقطعوا السبل على المتربصين به من أعداء الإسلام من جهة أخرى. وأما الوقف المعقب، فهو الذي يقفه الواقف على أولاده أو على أولادهم أو أولاد أولادهم إلى أن ينقرضوا سواء سمى مرجعه بعد انقراضهم أو لم يسمه. وقال أبو زهرة «لم يبق من الأوقاف الخيرية إلا وقف المساجد وما يوقف عليها، فإنّ الناس مازالوا يقبلون على هذا النّوع من الوقف الخيري» (ص 42). وأشار المؤلف إلى ظهير الأحباس المعقبة المشتركة الذي صدر بعد استفتاء العلماء المغاربة في هذا الشأن «وهكذا لم يقدم المشرع المغربي على تصفية الحبس المعقب أو المشترك إلا بعد صدور فتاوى من المجالس العلمية في الموضوع وكانت المجالس العلمية التي أفتت في هذا المجال آنذاك تتمثل في: المجلس العلمي بفاس، المجلس العلمي بمكناس، المجلس العلمي بتارودانت المجلس العلمي بتطوان، الأمانة العامة لرابطة علماء المغرب بطنجة» (ص 44 45). وأجمل المؤلف كل هذه الفتاوى. ومبحثا للحديث عن ناظر الوقف وهو الذي يقوم بإدارة شؤونه وحفظ أعيانه واستغلال مستغلاته وصرف ريعه في مصارفه وتنفيذ شروط الواقف الواجب تنفيذها ورعاية مصالح الوقف والموقوف عليهم. وشروط تولية الناظر النظارة على الوقف هي: البلوغ، والعقل، والكفاية، والعدالة، والإسلام. الأبعاد التنموية للوقف الخيري: يعتبر الوقف كما قال المؤلف أعظم مؤسسة خيرية عرفها المسلمون منذ عهد الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الآن، وقد كانت له أبعاد كثيرة في حياتهم، سواء منها ما يتعلق بالمجال التربوي، أو الديني أو الثقافي أو المجتمعي أو الصحي أو الاقتصادي أو الاستثماري أو البيئي أو الدعوي والجهادي أو الحضاري. فالبنسبة للبعد التربوي للوقف ف «لا ريب أن المسلمين كانوا يهتمون بتربية أبنائهم الصغار منذ نعومة أظفارهم، تربية حسنة، حيث كانوا يعهدون فيها إلى كتاتيب قرآنية تجعلهم يتعلمون فيها القراءة والكتابة، والقرآن، ومبادئ اللغة العربية، والحساب والسلوك الحسن (...) ومن المعلوم أنّ الكتاتيب القرآنية، كانت منتشرة في أصقاع العالم الإسلامي ومنها مدن المغرب ولاسيما منها ما كانت عاصمة له، كمكناس وفاس ومراكش وتارودانت، (...) والبعد التنموي التربوي، لا يقتصر على الكتاتيب القرآنية وحدها، وإنما يتعداها أيضا إلى المساجد والمدارس» (ص 60 62). ويتمثل البعد الديني للوقف في مجالات شتى كبناء المساجد والجوامع ووقفها، وجعلها تقوم برسالتها أحسن قيام، والاهتمام بآليات تفعيل سيرها من علماء وأئمة وخطباء، ووعاظ ومرشدين وقراء ومؤذنين، ومنظفين، ورعاية هؤلاء من قبل الواقفين المحسنين، تلكم المساجد والجوامع التي تعتبر مراكز إشعاع ديني وثقافي وحضاري... وليس البعد التنموي للوقف ينحصر في بناء المساجد ودعمها بأوقاف متنوعة، وإنما يشمل أيضا أشياء أخرى كمساعدة غير القادرين على القيام بأداء فريضة الحج التي هي أحد الأركان الأساسية للإسلام، بالإضافة إلى نفقات الجهاد، وهناك أيضا أوقاف توقف من أجل التوسعة على أصحاب العلم والأيتام والفقراء والمساكين. ويتمثل البعد الثقافي للوقف في تمويل مراكز الثقافة وآليات تفعيل سيرها، سواء أكانت هذه المراكز مساجد أم جوامع أم مدارس أم زوايا أم غيرها. «وتجدر الإشارة إلى أن المساجد أوالجوامع قد ارتبطت منذ العصور الإسلامية الأولى بالأوقاف فهي التي تمولها وتغذيها بما تدره عليها من غلات ومنافع، مما يجعلها تنشط في أداء رسالتها تثقيفا، وتقويما وتهذيبا. ومن هنا كانت مراكز تربية وتكوين، إضافة إلى كونها أماكن للعبادة. ولقد دأب الواقفون المحسنون على وقف بعض ثرواتهم عليها لتبقى مستمرة في عطائها المعرفي. ولم يفت الواقفين أن يقفوا على الأساتيذ وعلى الطلبة وغيرهم ممن يعمل فيها» (ص 66). وفي هذا السياق، ذكر المؤلف بعض الجوامع الإسلامية والأوقاف المدعمة لها، كجامع الأزهر، وجامع القرويين، وجامع ابن يوسف. ولا يقتصر البعد الثقافي على المساجد بل يشمل إلى جانبها مدارس كثيرة قامت بدورها في المجال الثقافي في معظم الدول العربية والإسلامية ولهذه المدارس كان للوقف أثر فعال في تنميتها الثقافية، ولا سيما منها الثقافة الإسلامية. واستحضرا لمؤلف أسماء ومؤسسي بعض المدارس لبعض الدول العربية، كمدارس القاهرة، ومدارس بغداد، ومدارس بيت المقدس، ومدارس فاس، ونجد نفس البعد الثقافي في الربط المنتشرة في كثير من المناطق الإسلامية، وهو يتجلى أيضا في المكتبات الثقافية الموجودة في أنحاء العالم الإسلامي كدار العلم بالموصل، وخزانة دار العلم في بغداد. ودار الحكمة بالقاهرة، ومكتبة جامع القرويين. وأما البعد المجتمعي للوقف الخيري فيتجلى في عدة مبرات إحسانية وإسعافية تكفل بها المحسنون نحو كثير من المستضعفين في الأرض مساندة لهم في مواجهة أعباء الحياة، قال الله تعالى: (وأقرضوا الله قرضا حسنا، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا). وتنصب المبرات الإحسانية كذلك على خدمات أخرى لعامة المسلمين كبناء حمامات وأفران وأرحاء وفنادق وحفر آبار للشرب منها، وأشار المؤلف إلى بعض هذه المبرات في المغرب نموذجا لما كان سائدا في الأقطار الإسلامية الأخرى، كالحجاز ومصر وسوريا والعراق وغيرها. فمثلا اهتم أبو الحسن المريني بالشيوخ ببناء دور للعجزة وبالإنفاق عليهم، وكذلك اقتفى أثره ولده السلطان أبو عنان حيث أسعف كثيرا من المساكين والضعفاء والعجائز، والمشايخ الملازمين للمساجد بجميع الجهات المرينية. ونفس الاهتمام أولاه أبو الحسن المريني للأيتام. وبالنسبة للبعد الصحي للوقف، فقد أصبحت التنمية الصحية في ازدياد مستمر برعاية الأوقاف المدعمة لها. وقد تركزت هذه الخدمات فيما أنشئ من مؤسسات صحية، كالمستشفيات والبيمارستانات، والمراكز الصحية والمستوصفات. وذكر المؤلف عدة مستشفيات كمستشفى ابن طولون بمصر، ومستشفى الخليفة هارون الرشيد، ومستشفى صلاح الدين الأيوبي بالاسكندرية ومستشفى مدينة سلا، ومدينة الرباط. وأما البعد الاقتصادي للوقف فيتمثل في إسهامه في الوفاء بالحاجات الأصلية للفقراء من حيث الغذاء والكساء والمسكن وكما لاحظ بعض الباحثين فإن آلية الوقف حين تحرك جزءا من رأس المال إلى أيدي الفقراء تؤدي الى دفع عجلة التنمية الاقتصادية، ونشاط طبقة متوسطة، تخدم الصناعات الصغيرة، والحرف..