إليزابيث جريم أرسينولتس :عن مجلة المستقبل عرض: رغدة البهي، مدرس العلوم السياسية المساعد - جامعة القاهرة في الوقت الذي يسعى فيه التحالف الدولي الذي تقوده الولاياتالمتحدة لاستعادة السيطرة على معاقل تنظيم "داعش" في شمال العراق؛ تُفوض واشنطن مسئولية التعامل مع معتقلي التنظيم للقوات العراقية والكردية؛ بهدف تجنب الانتهاكات والتجاوزات التي شهدتها السنوات الأولى من حرب العراق (مارس 2003) في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق "جورج دبليو بوش"، وتقليل انتقادات منظمات حقوق الانسان لها بسبب سياساتها للتعامل مع معتقلي التنظيمات الإرهابية في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. بيد أن الاعتماد على القوات العراقية والكردية لا يعفي الولاياتالمتحدة من مسئوليتها عن أفعال حُلفائها، حتى وإن لم يكن الأسرى والمعتقلون تحت سيطرتها المباشرة. وفي هذا الإطار، تتجلى أهمية دراسة "إليزابيث جريم أرسينولتس" (الأستاذ المساعد ببرنامج الدراسات الأمنية بجامعة جورج تاون)، والمُعنونة "سياسة الاعتقال الأمريكية تجاه داعش"، الصادرة عن دورية Survival، في عددها الرابع من العام الجاري. وفيها أكدت الكاتبة أن احترام حقوق الإنسان -كما تجسده اتفاقيات جنيف، واتفاقية مناهضة التعذيب، واتفاقية القضاء على التمييز العنصري- يُعد ركيزة للهوية الوطنية الأمريكية. ويُدلل على ذلك إدراج مبادئ اتفاقيات جنيف، واتفاقية مناهضة التعذيب، في القانون العسكري الأمريكي، والمبادئ، والمناهج، والتدريبات العسكرية. غياب سياسة متبلورة: أشارت الكاتبة إلى أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 كشفت عن عهدٍ جديدٍ من الحروب التي لا تُطبّق فيها القواعد والاتفاقيات الدولية. فعلى إثرها، أعطت الولاياتالمتحدة الأولوية لجمع المعلومات الاستخباراتية على الامتثال لأحكام القانون الدولي، بعد أن أذنت إدارة بوش الابن لوكالة المخابرات المركزية ووزارة الدفاع باستخدام أساليب استجواب استثنائية للحصول على المعلومات من المعتقلين المحتجزين. وعقب الكشف العلني عن ممارسات الولاياتالمتحدة في العراق وأفغانستان، أصدر الرئيس الأمريكي السابق "باراك أوباما" الأمر التنفيذي رقم 13491 في عام 2009 بإغلاق المعتقلات. وأدت الانتخابات الرئاسية لعام 2016 إلى إحياء المناقشات حول حدود تقنيات جمع المعلومات الاستخباراتية في زمن الحرب. فقد أشار الرئيس "دونالد ترامب" إلى دعمه للتقنيات القسرية -خلال حملته الانتخابية- كأداة لجمع المعلومات في عمليات مكافحة الإرهاب، موافقًا على الأساليب التي تتجاوز تقنيات الاستجواب المتطورة المعتمدة في السنوات الأولى من إدارة "بوش" الابن، وتوظيف أساليب "أسوأ من الجحيم" إزاء المشتبه في تورطهم بالإرهاب، وإن شملت الغمر بالماء. ويتفق ذلك مع رأيه القائل بأن السلطات البلجيكية كانت قادرة على إحباط الهجوم الإرهابي الذي وقع في مارس 2016 في بروكسل عن طريق تعذيب الإرهابيين المشتبه بهم الذين سبق اعتقالهم قبل وقوع الهجوم بعدة أيام. ويُشكل كل ذلك ضوءًا أخضر ووعدًا مفتوحًا بارتكاب جرائم حرب. وفي ضوء تلك الخلفية، لا توجد إرادة سياسية تضطلع بمهمة وضع سياسة متبلورة لاعتقال واحتجاز أسرى "داعش". ففي بيانٍ موجز في 10 مارس 2016، أوضح "بيتر كوك" السكرتير الصحفي باسم وزارة الدفاع (البنتاجون)، ردًّا على سؤالٍ حول سياسة إدارة "أوباما" تجاه معتقلي تنظيم "داعش"، "أن أي اعتقال من المرجح أن يكون قصير الأمد إلى أن يتم تسليم المعتقلين للسلطات المحلية المناسبة". ضرورة مُلِحة: تشير الكاتبة في دراستها إلى أن القوات الأمريكية احتجزت مباشرة اثنين فقط من التابعين لتنظيم "داعش" هما: "أم سياف" و"سليمان داود العفاري". وقد تناولت تفاصيل عملية اعتقالهما. ففي مايو 2015، شنت القوات الخاصة الأمريكية غارة في شرق سوريا، أسفرت عن مقتل "أبو سياف" والقبض على أرملته "أم سياف"، المُزمع تورطهما في تعذيب وموت ناشطة حقوق الإنسان الأمريكية "كايلا مولر". احتجزت القوات الأمريكية "أم سياف"، وهي مواطنة عراقية، لمدة ثلاثة أشهر، قبل نقلها إلى المعتقل الكردي. ولم تُوجِّه لها حكومة إقليم كردستان أية اتهامات، ويدّعي الأكراد العراقيون أنهم بانتظار توجيهات الأمريكيين. وفي فبراير 2016، أصدرت وزارة العدل الأمريكية أمر اعتقال ضد "أم سياف" لتقديم الدعم المادي لتنظيم داعش، مما أسفر عن موت "مولر". ومنذ اعتقالها، زوَّدت "أم سياف" السلطات بمعلوماتٍ استخباراتيةٍ ساعدت التحالف الذي تقوده الولاياتالمتحدة في شن هجماتٍ على شبكات التنظيم الإرهابي المالية والنفطية. وفي فبراير 2016 أيضًا، ألقت القوات الأمريكية الخاصة القبض على "سليمان داود العفاري"، وهو عنصرٌ هام في برنامج الأسلحة الكيميائية التابع لتنظيم "داعش". وعقب القبض عليه، ذكر مسئولون من وزارة الدفاع الأمريكية أن الولاياتالمتحدة لا تعتزم احتجاز "العفاري" أو أي سجناء آخرين لفترةٍ طويلةٍ من الزمن، وبدلًا من ذلك تعتزم نقلهم إلى السلطات الكردية أو العراقية بعد استجوابهم. وعليه، تدعو الحاجةُ الولاياتالمتحدة إلى وضع سياسة لمعتقلي تنظيم "داعش"، وهو ما فسرته "الكاتبة" في ضوء سببين، هما: السبب الأول- ضرورة تحديد ملامح سياسات الاعتقال على نحوٍ واضح: من المُرجح أن يتسبب سوء التخطيط ونقص التدريب في التعامل مع المعتقلين في إشكالياتٍ جمّة، وهي ما يمكن تجنبها من خلال خطةٍ منظمةٍ ومعلنة، تُوضح تقنيات الاستجواب المسموح وغير المسموح بها. ففي أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وقّع بوش الابن مذكرة تفاهم وسّعت بشكلٍ كبيرٍ من السلطات السرية الممنوحة لوكالة الاستخبارات المركزية تجاه تنظيم القاعدة، بما في ذلك الإذن بالقبض على قادة التنظيم واحتجازهم واستجوابهم، ولكنها لم تُحدد ضوابط لذلك، تاركة الأمر إلى تقدير المخابرات الأمريكية. السبب الثاني- قد تُؤثر سياسة الاعتقال التي يتبعها الحلفاء سلبًا على الولاياتالمتحدة: حيث يتوقع أن يستخدم الحلفاء الأمريكيين أساليب اعتقال تنتهك حقوق الانسان مقارنة بتعامل الولاياتالمتحدة منفردة معهم. إن التخلي عن وضع سياستها الخاصة، ورفض تحمل المسئولية؛ يُقلل من مصداقية واشنطن، فسياسات الحلفاء يمكن أن تُضر أيضًا بسمعتها. إن كسب قلوب وعقول المواطنين في أماكن مثل العراق -في نظر الكاتبة- هو أمرٌ حيوي للحد من دعم المتطرفين، ولتحقيق تلك النتيجة، يجب على الولاياتالمتحدة أن تضمن امتثال حلفائها لمعايير معاملة السجناء الإنسانية. ولا يُرجح أن تُسفر تلك السياسة عن آثارٍ سلبية، وخاصة أن الولاياتالمتحدة تزيد من تواجدها لدعم القوات العراقية لاستعادة السيطرة على الموصل. ومع ازدياد حدة العمليات ضد "داعش"، من المُرجَّح أيضًا أن يزداد عدد المعتقلين. وبالتالي، يجب الاستناد إلى المعايير التي تقوم عليها اتفاقيات جنيف واتفاقية مناهضة التعذيب قبل تزايد حدة الصراع مع "داعش" مرة أخرى. خيارات بديلة: عدّدت "الكاتبة" من الخيارات المتاحة لدى الولاياتالمتحدة، والتي يمكن إجمالها على النحو التالي: الخيار الأول- نقل المعتقلين إلى دولهم للملاحقة القضائية: من شأن ذلك الخيار أن يقلل من التكلفة الأمريكية المتكبدة جراء احتجاز المعتقلين وإعادة تأهيلهم وإدماجهم. وفي المقابل، ستفقد الولاياتالمتحدة فرص جمع المعلومات الاستخباراتية من هؤلاء المعتقلين. وبالإضافة إلى ذلك، فإن أي تكتيكات قسرية لجمع المعلومات من قِبل أطرافٍ ثالثة من شأنِها أن تُقوِّض الأهداف الاستراتيجية الأمريكية. فقبل نقل المحتجزين إلى بلدانهم الأصلية، يجب على الولاياتالمتحدة أن تتأكد من معاملتهم معاملة إنسانية، ومن عدم إضرارهم بالأمن القومي الأمريكي. الخيار الثاني- الملاحقة الجنائية في الولاياتالمتحدة: إن المحاكم الجنائية الأمريكية غالبًا ما تكون أكثر صرامة على الإرهابيين من المحاكمات العسكرية، فالمحاكم الاتحادية لديها خبرة في الموازنة بين حماية الحريات المدنية الفردية والأمن القومي، وذلك على النقيض تمامًا من المحاكم العسكرية. ومع ذلك، فإن حقوق المُدَّعى عليهم في مراجعة الأدلة ومحاكمتهم يُمكن أن تُعرِّض المعلومات السرية للخطر. وبالإضافة إلى ذلك، فإن المحاكمة الجنائية في الولاياتالمتحدة ستجعل للمعتقلين حقوقًا أكثر من حقوق أسرى الحرب بموجب اتفاقيات جنيف. ومن شأن الملاحقة الجنائية الاتحادية أن تضمن للمُدَّعى عليهم حقوقًا قد لا تتواجد في ولاياتٍ قضائيةٍ أخرى. الخيار الثالث- إنشاء معتقلاتٍ جديدة: من شأن وجود معتقلٍ جديدٍ في العراق أن يسمح للجهات المختصة باستجواب الإرهابيين المشتبه بهم للحصول على المعلوماتٍ التكتيكية. ولعل السماح لممثلي اللجنة الدولية للصليب الأحمر بالرقابة عليه يُجنِّب الولاياتالمتحدة انتهاكات الماضي، ويُحافظ على المصداقية الدولية. بيد أن ذلك قد يُصبح أرضًا خصبة محتملة للمتطرفين والمتمردين. فقد تكهّن البعض بأن زعيم تنظيم داعش "أبو بكر البغدادي" قد سبق احتجازه في أحد المعتقلات الأمريكية المسماة "بوكا" Bucca. فبدون اتخاذ تدابير لمنع التطرف داخل المعتقلات قد يظهر تمردٌ جديدٌ أكثر تدميرًا. وختامًا، إن مكافحة الإرهاب لا تقتصر على جمع المعلومات الاستخباراتية فحسب؛ بل هي فرصةٌ للولايات المتحدة كي تكون رائدة في تعزيز قيمها الدفاعية. ولا يمكن الاضطلاع بذلك الدور القيادي إلا بوضع سياسةٍ واضحةٍ لا لبس فيها للمعتقلين، ورفض استخدام التقنيات القسرية من قِبل الحلفاء، ورفض التسامح مع ممارسات الماضي. ولن يتحقق ذلك إلا إذا عمل الرئيس "ترامب" مع الكونجرس كي تُمثل تلك السياسة القيم والقوانين الأمريكية في أوسع معانيها.