قد يتساءل الكثيرون حول اختلاف مسارات "الربيع" بين ما حدث في "مصر" و"تونس" وما حدث في "ليبيا" و"وسوريا" و"اليمن"،رغم أنها كلها دول استبدادية،واجتاحتها جميعها مظاهرات واحتجاجات "الربيع" المفترى عليه.قد تكون هناك عدة أسباب تفسر هذا الاختلاف،لكن يمكن أن نشير،في تقديري،إلى السبب الأساس:وهو وجود نظام سياسي سابق موال تماما للغرب،ولأمريكا بالتحديد،في كل من "مصر" و"تونس"،مع تميز "تونس" بمجتمع مدني قوي وبتنظيمات يسارية نشيطة،ولم يكن هدف التدخل الخليجي الغربي في هذين الدولتين،أو في أي دولة أخرى،إقامة "نظام ديمقراطي" بقدر ما كان الهدف هو استعادة النظام السابق أو إقامة "نظام جديد" موال للغرب،أي تحويل الاحتجاج الشعبي عن أهدافه المتوخاة بالسيطرة على مساره،وهو ما حصل في "مصر" و"تونس" بعودة أركان النظام القديم،الأمر الذي لا يوجد في "ليبيا" و"سوريا"،ففي "ليبيا" "دولة شمولية" لم تسمح بتطور المجتمع المدني ولا بتنظيمات سياسية معارضة،لكنها على العموم كانت دولة معادية لمصالح الغرب في المنطقة،وفي سوريا نفس الشيء،نحن أمام نظام سياسي شمولي،لكنه أيضا معاد لسياسات الغرب في الشرق الأوسط،وعلى الخصوص يقيم سياسة معادية ل"إسرائيل" في المنطقة،و"سوريا" من دول الجوار مع " فلسطين" التي رفضت التطبيع مع هذا النظام المحتل،كما أن رفض "لبنان" للتطبيع لا يمكن فهمه دون التأثير السوري في الساحة السياسية اللبنانية. إذا استبعدنا الأسباب الدعائية التي يروج لها "الإعلام" الغربي والخليجي،فما ذكرناه في الفقرة السابقة هو أحد أسباب الحرب على سوريا.أي معاداتها للغرب ولسياسة إسرائيل بالذات،وتحالفها مع "إيران"،ودعمها المطلق ل"حزب الله"خلال مقاومته ل"إسرائيل" في الجنوب اللبناني المحتل التي دامت أكثر من 17 سنة،وكانت أيضا سببا أساسيا في صمود الحزب في المواجهة الدامية ضد الجيش الصهيوني سنة 2006،طبعا،هناك سبب قوي آخر خفي،ذكرته عدد من التقارير،وهو رفض "سوريا" اتفاق مد أنابيب الغاز من قطر إلى ميناء "طرطوس" على الساحل المتوسطي السوري،وذلك لصالح اتفاق سابق مع "إيران" ولصالح "روسيا" وهما دولتان تقيم معهما "سوريا" تحالفا منذ زمن بعيد،وهذا ما يفسر الحقد القطري الدامي على "سوريا" في إطار التحالف المقدس الذي أقامته مع "السعودية" و"تركيا" تارة باسم "الإسلام الحق" وتارة باسم "الطائفة السنية"،ولسنا في حاجة إلى الإتيان بكثير من الحجج لإثبات أن هذه ادعاءات باطلة،ولا تعدو أن تكون دعاية إعلامية فجة لإخفاء الهدف الأساس هو تدمير "سوريا" وتحويلها إلى "خبر كان" بعد تقسيمها وتمزيق نسيجها الاجتماعي.يكفي أن نذكر ما حدث في ليبيا،حيث لعبت هاتان الدولتان "قطر" و"السعودية" دورا تخريبيا واضحا،مع العلم أن ليبيا بلد "سني" ليس فيه لا "شيعة" ولا "علويين" ولا نفوذ إيراني.وحين بدأت هذه السلسلة بالحديث عن "سايس/بيكو" وترسيمه لدول الخليج على الخرائط فبل أن تكون واقعا فعليا على الأرض،ولم يكن الهدف هو عزل "النفط" عموم الشعب العربي فحسب،بل كان الهدف أيضا هو زرع كيانات العمالة والتبعية لتقوم بأدوار مكملة للدور الصهيوني إن لم تكن أخطر منه نظرا للقناع الديني التي تحمله.وهو ما بدا واضحا خلال التطور الدرامي لأحداث ما سمي ب "الربيع العربي".فدول الخليج ليس لها استراتيجيات سياسية وإنما هي عروش تتربع عليها عائلات استبدادية متخلفة تحتكر الثروة الوطنية ضد مصالح شعوبها دون حسيب ولا رقيب،وضد أي تطور "ديمقراطي" يمس المنطقة،لأنه بالتأكيد سوف ينعكس على بنيتها السياسية التقليدية،وتتقاطع مصلحتها حتما مع مصالح الغرب وإسرائيل وتركيا في تقسيم المنطقة إلى دويلات محمية مثلها،لتعميم العجز والعمالة أيضا،للسيطرة على المنطقة وعلى مقدراتها. لكن الذي لم يكن في حسبان الخليج ودول الغرب مثل أمريكاوفرنساوبريطانيا،هو التحالف القوي الذي أظهر فعاليته في الميدان بين "سوريا" و"إيران" و"روسيا" و"حزب الله" في مواجهة الحملة الغربية الخليجية،رغم التمويل بملايين الدولارات والتموين بآلاف قطع الأسلحة،وتجييش الآلاف من "المجاهدين"،وتسهيل تدفقهم عبر الحدود التركية،ورغم "الآلة" الإعلامية الدعائية الضخمة،وتجنيد المئات من "فقهاء السلطان" وإطلاق المئات من "الفتاوى"،وصب الكثير من "الزيت" على "النار" الطائفية.لم يفلحوا في "تركيع" سوريا.ولو أنهم أفلحوا في تدميرها ماديا ولم يبق في الكثير من مناطقها حجر على حجر.وكلما استمرت الحرب،وارتفعت دعوات لإيقافها،تحججوا ببقاء "بشار" في السلطة،ونحن نعرف أن هذه الحرب لن تتوقف بذهاب "بشار" أو حتى قتله،والمثال واضح في "العراق" الذي أعدم فيها "صدام حسين" سنة 2006،أي بعد الاحتلال الأمريكي بسنتين،ولم تتوقف الحرب هناك،بسبب الزرع الطائفي الخبيث الذي زرعه "بول بريمر" الحاكم الأمريكي للعراق بعد الاحتلال،حين قام بتفكيك "الجيش العراقي" وأجهزة الأمن والمخابرات،أي تفكيك "الدولة العراقية"،ودعا بعدها "النخبة" السياسية التي دخلت فوق دباباته إلى أن يشكلوا "حكومة" على أساس المحاصصة الطائفية أي باعتبارهم سنة وشيعة وأكراد،وهنا وقع هؤلاء على "صك" إعدام العراق باعتباره "دولة فاشلة"،حيث دخلت "إيران" و"السعودية" على الخط.ومما تجدر الإشارة إليه هنا في هذه النقطة بالذات،هو أن "السعودية" تتذمر من التوسع الإيراني في المنطقة،وهي التي سهلت ل"إيران" ذلك،حين فتحت حدودها مع العراق للقوات الأمريكية لاحتلاله.كما يمكن أن نسوق في هذا الصدد مثال "ليبيا" حيث قتل "القذافي" في بداية الثورة،ونحن نرى الاقتتال لا يزال إلى الآن مستعرا فيها بين عشرات التنظيمات المسلحة المرتبطة بدوائر مخابرات دول متعددة ومتضاربة المصالح.ومن هنا لا يخفي على أي متتبع أن المحاججة بأن استمرار الحرب في سوريا سببه بقاء "بشار" هو كلام دعائي فقط،هدفه استمرار الحرب للمزيد من تخريب "سوريا"،إذ يكفي أن نلاحظ أن أكثر من 100 تنظيم مسلح يقاتل على أرض "سوريا"،نصف المقاتلين من ألأجانب،وتخترق هذه التنظيمات مخابرات أقوى الدول منها المخابرات الإسرائيلية،فكيف يمكن ل 100 تنظيم أن يتفاهم على تشكيل "حكومة" ؟؟خاصة وهم في حالة اقتتال بينهم في ظل وجود "دولة مركزية" تقاتلهم جميعا. لقد بدا واضحا أن "الأزمة" السورية الدامية أفرزت مواجهة كبرى بين معسكرين دوليين وإقليميين،فمن جهة هناك المعسكر "الأطلسي" بقيادة "أمريكا" التي تسعى إلى استمرار سياسة "القطب الواحد" عبر المزيد من بسط نفوذها وتمديده،ووراءها عالميا "فرنسا" و"بريطانيا" بالدرجة الأولى،وإقليميا "تركيا" و دول الخليج بزعامة "السعودية" رغم الاختلافات السطحية بين هذه الدويلات المحمية،هذا المعسكر سعى بكل قوة..من خلال "الربيع العربي"،إلى التحكم في العالم العربي عبر تسييد "الإسلام السياسي" الذي لا يخرج في منطقه الاقتصادي عن النظام الاقتصادي العالمي الرأسمالي ،وهو محور الصراع ومداره،وكل ما يريده هو أسلمة الحياة العامة وتحويل الإسلام من "إسلام دعوة وحرية" إلى "إسلام دولة وإخضاع" وهو النموذج السائد في "السعودية" ذاتها وفي عموم دول الخليج بدرجة أقل،أي السير على نهج "الرأسمالية" دون الأخذ بقيمها الاجتماعية الثقافية "التحررية".كما أن تعميم "الدولة الإسلامية" في العالم العربي قد يمد "إسرائيل" بورقة قوية لتبرير "مشروعية الدولة اليهودية"،ولا يخفى أن إسرائيل التي تدعي "الديمقراطية" هي من أشد الدول عداوة ل"الدولة المدنية" أي دولة المواطنين.في مواجهة هذا الحلف الأطلسي من جهة أخرى تقف هناك "روسيا" وخلفها دول " بريكس" و"إيران" و"حزب الله"،وهذه الدول تسعى إلى كسر بنية النظام العالمي ذي القطب الواحد لصالح نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب،ولذلك هي ضد مشروع تقسيم الدول العربية وإضعافها لإلحاقها نهائيا بالمظلة ألأمريكية.وهذا ما يفسر قوة هذا الصراع الدامي في سوريا وشراسته،ففي سوريا "تحطم" المشروع الأمريكي،و"تحطم" الحلم الصهيوني بكسر محور "المقاومة ب"تدمير" حلقته الوسطى الرابطة بين "إيران" و"حزب الله"،وهو محور لا يخفي عداءه الصريح ل"إسرائيل"ويتوعد بالحرب والمواجهة معها، ضدا على شعار "السلام خيار إستراتيجي" التي تروج له "السعودية" التي تسعى إلى إخراج علاقتها ب"إسرائيل" من حالة السرية إلى الحالة العلنية برعاية أمريكية طبعا،وهنا يكمن العداء القوي السعودي ل"إيران"،ليس لأنها "شيعية" ونحن نعلم أن كل سلاح تنظيمات المقاومة الفلسطينية "السنية" هو سلاح "إيراني" وحتى "تقنية" صناعة الصواريخ هي تقنية إيرانية،كما أن تقنية بناء الأنفاق هي تقنية "حزب الله" الشيعي الذي اكتسب خبرة كبيرة في هذا المجال،ومن هنا يمكن أن نفهم لماذا جاء الشكر ل"إيران" في مقدمة الدول التي شكرتها الكلمة التي ألقاها الناطق الرسمي باسم المقاومة الفلسطينية في نهاية الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة.باختصار،نقول إنه ليس لدى "السعودية" وأخواتها من سياسة إستراتيجية تواجه بها "إيران" سوى لغة الطائفية (شيعة/سنة) ودينية (مجوس/إسلام) وعرقية (فرس/عرب)،لأنها دولة تدافع عن استمرار "عرش" عائلة حاكمة،وتخاف من انهيارها في ظل عالم يتغير ويتحول .ولا ننس "الوثيقة" الرسمية التي يخاطب فيها "الملك السعودي" التاج البريطاني ويصرح أنه "لا يرى مانعا في منح أرض فلسطين لليهود" وأنه مع أي قرار يتخذه التاج البريطاني. بقي أن نسأل : هل ما حصل في سوريا كان نتيجة طبيعية لتطور الأحداث داخليا ؟؟ الجواب طبعا هو: لا. هناك الكثير من الأدلة تثبت أن "سوريا" كانت مستهدفة منذ زمن بعيد،وأصبحت مستهدفة أكثر مباشرة بعد احتلال العراق مباشرة،ولم يكن "العراق" سوى "الضحية" الأولى لمخطط أمريكي توسعي كان يرمي إلى احتلال سبع دول في غضون خمسة أعوام وهذه الدول هي : العراق و سوريا ثم لبنان و ليبيا و الصومال ثم السودان و إيران.كما أن الوزير الفرنسي السابق "رونالد دوما"(93 سنة) سبق وصرح أنه زار بريطانيا قبل اندلاع الأزمة في سوريا بحوالي سنتين وقال له مسؤولون بريطانيون إنهم يحضرون شيئا ما للتدخل في "سوريا"،كما أنه التقى مسؤولين "صهاينة" وأخبروه بنفس الشيء.كما أن الأكاديمي الأسترالي "تيم أندرسون" يتحدث في كتابه (الحرب القذرة على "سوريا") عن عدد من الأكاذيب والأباطيل التي روجت حول هذا البلد لتبرير تدميره،وللإشارة فقد عقد هذا الكاتب عدد من اللقاءات مع مسؤولين بلدان متعددة متورطة في الحرب هناك،كما أنه قام بزياراته "خلال السنوات الخمس الماضية لمناطق متعددة في سورية وعقد لقاءات متعددة مع متزعمين إرهابيين وأناس محليين تعرضوا للإرهاب الدولي،وأناس آخرين في مناطق لم يتعرضوا لهذا الإرهاب، لكن عبّروا عن موقفهم الرافض للفكر المتطرف الذي أصبح ينتشر ومن خطره على الأمة. إضافة إلى قيامه ببحوث في الكتب والمقالات التي تحدثت عن سورية في الآونة الأخيرة"،وأنتج كل ذلك "كماً نوعياً للمعلومات والأدلة التي تتحدث عن خطط واشنطن «لتقسيم» سورية والمنطقة بشكل عام." للمزيد من الاطلاع على فحوى هذا الكتاب الأكاديمي "الحرب القذرة على سوريا" : http://pelest.com/news/view/id/26294