يتعرض الوطن العربي الآن لعواصف دولية تنطلق من مصالح اقتصادية جامحة لأمريكا والغرب، وآمال صهيونية في السيطرة على المنطقة، وأوهام إسلاموية في إعادة تأسيس الإمارة والخلافة. وما بين كل هذا وذاك، تدور صراعات تطْحَن معظم الدول العربية، كل واحدة منها على يد حاكمها الظالم المستبد الذي يرى في ذاته تجسيدا للوطن الذي يحكم، بينما الشعوب الغاضبة لا تدري أن الغضب وحده لا يبني أوطانا بل يهدمها، وأن توفر برنامج سياسي واقتصادي وطني ضمن إطار تنظيمي هو أمر أساسي لنجاح التغيير المنشود من وراء ثورات الغضب. إن القلاقل والمذابح والاقتتال الداخلي والحروب الأهلية، التي تصبغ الآن معظم أرجاء العالم العربي بألوان الدم الحمراء وألوان الحزن القاتمة، هي انعكاس للضبابية والغموض اللذين يكتنفان مستقبل المنطقة ويجعلان من الربيع العربي قضية مبهمة للكثيرين، من منظور أنه كان المُنطلَق لعملية التغيير ولكنه كان، في الوقت نفسه، الحدث الذي أطلق العنان لقوى ظلامية وتطورات لم يعد من الممكن السيطرة عليها أو على نتائجها. وبنفس المقدار، هنالك حروب أخرى يجري التخطيط لها بصمت قاتل من قبل أوساط خارجية مدفوعة بمصالحها الاقتصادية ورغبتها في تعظيم تلك المصالح وحمايتها على حساب دول المنطقة. تشهد المنطقة الآن نموذجا متطورا من لعبة المصالح التي تحركها أسباب استراتيجية واقتصادية تفوق في آثارها حدود الدولة أو الدول المعنية، بل وحتى الإقليم الذي تنتمي إليه تلك الدولة أو الدول. فلو أخذنا، مثلا، ما يجري في سوريا والموقف الروسي منه لتبين لنا أن جزءا كبيرا من الأسباب الحقيقية وراء موقف روسيا المتشدد في دعمها للنظام السوري هي أسباب اقتصادية استراتيجية تتعلق، بالإضافة إلى التسهيلات البحرية المعطاة لها في طرطوس، بمصالح الدولة الروسية الاقتصادية والاستراتيجية، خصوصا في قطاع الغاز باعتبارها المورد الرئيسي لأوربا الغربية، واحتمالية خلق بدائل عربية لتزويد أوربا عبر الأراضي السورية والذي من شأنه، في ما لو حصل، أن يشكل ضربة كبيرة للمصالح الاقتصادية الروسية في أوربا وإضعافا للنفوذ الروسي فيها. وهذا يقودنا إلى محاولة فهم أسباب الحماس القطري لتغيير نظام الحكم في سوريا، والذي استعصى فهمه على الكثيرين، كونه يجافي المنطق ولا يستند إلى أسباب سياسية أو عقائدية أو خلافات عربية بقدر ما يستند ربما إلى النزعة نحو جنون العظمة أو الرغبة في أن تكون قطر جزءا من رؤية غربية تغطي دول الإقليم وتسمح لقطر الصغيرة بالتحليق في آفاق وأجواء هي بالضرورة حكرٌ على الكبار. ومن هنا، فإن هذه الرؤية قد تجنح إلى توفير بديل للهيمنة الاقتصادية للغاز الروسي على أوربا الغربية، يتم فيها استعمال إمارة قَطَر العربية أداة تنفيذية لهذا المخطط وممولا له. إن اهتمام قطر بتغيير نظام الحكم في سوريا لا يعود، إذن، إلى قرار قطري أو عربي بل إلى قرار غربي يستند إلى حقيقة أن ارتباط النظام السوري بروسيا من خلال مصالح استراتيجية متبادلة لا تسمح له بتنفيذ أي مخطط يتعارض مع المصالح الروسية في ما لو طُلِب منه ذلك. إذن، الدعم القطري والخليجي والأمريكي والغربي لتغيير النظام في سوريا هو لأسباب اقتصادية واستراتيجية تصب في مصلحة الغرب، تماما كما أن الممانعة الروسية واستخدامها الفيتو هو أيضا لأسباب اقتصادية استراتيجية تصب في مصلحة روسيا. وأية تفسيرات أخرى لأسباب الهجمة متعددة الأطراف على النظام السوري باعتباره نظاما يُمثل «الممانعة» أو «المقاومة» هي أضغاث أحلام وبعيدة عن الواقع. وفي جميع الأحوال، فإن كل ما سبق لا يلغي حقيقة أن النظام السوري استبدادي ومجرم في حق شعبه، وأن للشعب السوري كل الحق في أن يعيش في كنف نظام ديمقراطي يمثل إرادته ومصالحه وطموحاته. وبالمقياس نفسه، فإن الاهتمام القطري الأخير بقطاع غزة ليس ببعيد عن احتياط الغاز الضخم أسفل شرق البحر الأبيض المتوسط، وزيارة أمير قطر لها جاءت في هذا السياق. وهذا الاحتياطي الممتد بين السواحل السورية واللبنانية والقبرصية والفلسطينية، ومنها الإسرائيلية، يتطلب العمل على إدخال سوريا ولبنان وفلسطين وإسرائيل وقبرص كشركاء في شبكة غاز أخرى قد تصبح رديفا للشبكة التي تغذي أوربا. وهناك إشارات إلى اهتمام قطري بتمويل الاستثمار اللازم لهذا المشروع. إن الأبعاد الخطيرة لهذا المشروع، بالإضافة إلى الهيمنة الغربية والإسرائيلية على تلك الثروة من الغاز، هي في تكريس التطبيع مع إسرائيل وتحويله من حالات فردية معزولة إلى علاقة استراتيجية علنية على مستوى الإقليم. والمضي في هذا المخطط الذي يشمل سوريا ولبنان وإسرائيل يعني حتمية تغيير نظام الحكم في سوريا ووجوب القضاء على حزب الله في لبنان والذي قد يأخذ موقفا معاديا لهذا المشروع. ولعل الأيام والشهور القادمة ستعطينا مؤشرات كافية على المدى الذي ستذهب إليه الأمور في تنفيذ هذا المخطط، مع ملاحظة الازدياد الواضح في التقارير الأمنية الصادرة مؤخرا عن إسرائيل والتي تحمل قدرا من المبالغة في قدرة حزب الله على «تدمير وسط تل أبيب» و»تحرير الجليل»، وهو ما يعتبر تمهيدا لعملية إسرائيلية تستهدف تصفية القدرة العسكرية لحزب الله. إن محاولة إلباس ما يجري في سوريا وباقي الدول العربية من مطالب للتغيير والإصلاح، على مشروعيتها، لباس الوطنية المجردة وتجاهل تأثير العوامل الإقليمية والدولية على تلك المجريات، سوف يقودنا بعيدا عن الحقيقة وعن استيعاب وفهم ما يجري من تطورات. إن استعراض الواقع العربي في هذه المرحلة يشير إلى أن العديد من الدول العربية، وأهمها مصر وسوريا وليبيا وتونس والعراق واليمن والسودان، تعيش حالة من عدم الاستقرار والعنف التي تواكب، في العادة، حالات الاقتتال أو الحروب الأهلية، سواء كانت تلك الحروب مباشرة أو بالوساطة؛ فبعض هذه الدول أصبحت مجرد دول مركزية بالاسم وهلامية في الواقع وأقرب ما تكون إلى دولٍ مكوناتُها وأقاليمُها ملتصقة معا بلاصق من النوع الرديء. لقد أصبحت سوريا ومصر والعراق، وهي ثلاث من الدول المحورية الأربع، تعاني من حالة من التمزق والانهيار السياسي والاقتصادي والمؤسسي، مما يجعل العالم العربي يفتقد دول الإسناد التي تُبْقي هامته عالية ومما يُحَوِّلَه بالتالي إلى كتلة هلامية بدون عمود فقري؛ فسوريا والعراق تحولتا بسبب الحرب الأهلية والقلاقل وعدم الاستقرار من دول محورية، ذات طابع مركزي في نظام حكمها ومؤسساتها واقتصادها، إلى دول هلامية تنحصر سلطتها المركزية، في أغلب الأحيان، في منطقة العاصمة وما يحيط بها. وأصبحت المحافظات تمتلك مقومات أكبر مما تمتلكه المحافظة في المعتاد، ولكن أقل مما يُمكِّنها من التحول إلى دولة. وهكذا أصبحت اثنتان من أربع دول عربية محورية ومركزية، وهما سوريا والعراق، عبارة عن عنوان قوي لمحتوى ضعيف جدا. أما الدولة الثالثة، وهي مصر، فاقتصادها يحتضر، وهنالك محاولات حثيثة لاختطاف مؤسسات الدولة من قبل نظام الحكم وتحويلها إلى مؤسسات «إخوانية». وقد ساهم هذا الوضع في تأجيج الصراع داخل المجتمع المصري بين القوى المدنية التي أشعلت الثورة والقوى الإسلاموية التي حصدت ثمارها، مما أدى إلى إخافة العديد من المواطنين المصريين من تبعات «أخونة» الدولة المصرية. وقد فاقم هذا الوضع من حالة الاحتقان العام داخل المجتمع المصري ودفع إلى السطح بشعارات طائفية وجهوية لم تُسمع من قبل في تاريخ الدولة المصرية الحديثة. وهذا الوضع رفع علامة تساؤل كبيرة حول أمر كان مفروغا منه وهو سلامة الدولة المصرية ووحدة أراضيها ودورها الإقليمي كقائد للعالم العربي. وأما الدولة المحورية الرابعة، وهي السعودية، فإن استقرارها ووحدة أراضيها أصبحا مرهونين بالعوامل الإقليمية، ومنها أثر النفوذ الشيعي الإيراني على شيعة السعودية وتنامي القوة النووية الإيرانية، بالإضافة إلى العوامل الدولية المرتبطة بالنفط وليس بالعوامل الداخلية التي تعكس ترابط المجتمع واحترام حقوق المواطنة ومطالبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وهكذا فإن ما تملكه الدولة المحورية الرابعة من أمرها ضعيف جدا ولا يقارن بما لا تملكه، مما يضع مستقبلها في مهب الريح وفي أيدٍ خارجية لا يهمها إلا مصالحها الخاصة. واستقرار السعودية ووحدة أراضيها سيبقيان بذلك مرهونين للمصالح النفطية لأمريكا ومتطلبات تلك المصالح. من الخطأ الاعتقاد بوجود سيناريو جاهز لما يحدث في المنطقة؛ فالشيء الوحيد الجاهز هو الهدف المنْويُّ الوصول إليه، وبخلاف ذلك يتم التعامل مع التطورات بالقطعة. وعلى أي حال، فإن هذه التطورات تشير إلى أن تفتيت الدول العربية المحورية أو الكبيرة نسبيا أصبح هدفا للغرب وإسرائيل. إن تفكيك دول المنطقة إلى دويلات، أو ما يدعى «بلقنة» المنطقة، لم يعد أمرا خياليا؛ فتمزيق النسيج الوطني وإضعاف مؤسسية الدولة لصالح أنظمة فاسدة ومستبدة حكمت لعقود واستباحت الوطن وثرواته وشتتت وأذلت طبقاته المتعلمة، قد أنهكا دول المنطقة وشعوبها وأضعفا من قدرتها على مقاومة مخططات «البلقنة»؛ فلو بقيت مؤسسات كل دولة متماسكة ومواطنوها آمنين ومحترمين في وطنهم لما ضعفت بنية كل دولة إلى حد الاستسلام لواقع التمزيق والتقسيم. وفي كل الأحوال، فإن إضعاف أي دولة عربية مركزية أو تقسيمها وتدمير قوتها العسكرية يصب مباشرة في مصلحة إسرائيل بغض النظر عن الأسباب الموجبة التي يقدمها البعض لتبرير ذلك. إن الهدف الحقيقي هو جعل إسرائيل بيضة القبان في المنطقة من خلال إحاطتها بدول صغيرة متنافسة أو متناحرة. وليس من المستغرب أن نشاهد في المستقبل القريب محاولات لإضعاف الدولة المركزية في تركيا وإيران. وحتى لا تثور العواطف إذا ما تم اعتبار إسرائيل دولة القياس، يتم استعمال قطر الآن كنموذج لدولة القياس الناجحة، وأن الدول العربية يجب أن يعاد تقسيمها إلى الحجم القطري. وانطلاقا من ذلك، فإن هنالك الكثيرين ممن يعتبرون أن الحدود الوطنية للدول العربية كما تم وضعها في اتفاقيات «سايكس- بيكو» في أعقاب الحرب العالمية الأولى هي أساس الشرعية التي تستند إليها تلك الدول، مما أدى إلى قيام البعض الآن بالدفع بعدم شرعية وصلاحية التقسيمات التي نجمت عن الاتفاقيات في محاولة لاستعمال ذلك كأساس نظري وفكري لتبرير «بلقنة» المنطقة من خلال إعادة تقسيمها إلى دويلات عوضا عن العمل على إعادة توحيدها. إن المعرفة هي الطريق لتعزيز الوعي والإدراك، وإذا عرف العرب حقيقة ما يجري من حولهم فإن هذا سوف يعزز من قدرتهم على مقاومته والتصدي له من منطلق الفعل المستند إلى المعرفة والوعي وليس استنادا إلى ردود الفعل والغضب الطائش.