ربما ساهم استيلاء قوات تحالف الدولة الإسلامية على الموصل وتكريت والفلوجة ومعظم الأنبار في تفجير الأزمة الحالية في العراق وإعادة الاهتمامين العربي والدولي بهذا البلد المنكوب، لكن المسؤول الأكبر عن حالة الفوضى الراهنة هو الاحتلال الأمريكي الغربي والدعم العربي له، وأي كلام غير هذا هو نوع من التضليل وحرف للأنظار عن هذه الحقيقة. خروج القيادة العربية من المثلث العراقي السوري المصري إلى دول النفط العربية، بعد تهميش هذا المثلث وتمزيقه وإضعافه داخليا هو الذي أدى إلى حالة الانهيار التي تعيشها المنطقة حاليا والتي يبدو أنها ستستغرق زمنا طويلا، ولا نستبعد أن من شاركوا في عملية التمزيق هذه، بمبادرة ذاتية أو بتحريض غربي، سيدفعون ثمنه تمزيقا وتفتيتا أيضا. إشعال فتنة الاستقطاب الطائفي لإنهاء التيار العروبي الجامع الموحد انعكس سلبا على العرب أنفسهم وليس على إيران، مثلما أراد من يقف خلف هذه الفتنة في الجانب العربي، فإذا كانت إيران استخدمت هذه الورقة الطائفية مثلما يقولون فلينظروا إلى هذه الفتنة في بعض دول الخليج، فإن العرب هم الذين اكتووا بنارها ودفعوا، ويدفعون، ثمنها تمزيقا وتفتيتا واقتتالا داخليا وطائفيا، بينما بقيت إيران موحدة متماسكة تملك أسباب القوة، مثلما تملك أذرعة مسلحة في مختلف دول المنطقة، وجهتها الداخلية متماسكة حتى الآن على الأقل. الحروب طائفية الطابع الدائرة حاليا وعلى أشدها بين إيران والمملكة العربية السعودية تتم على الأرض العربية، في سورية والعراق، أهم دولتين في المنطقة، والضحايا جميعا من العرب، ومن النادر أن يقتل إيراني واحد، والمليارات يخسرها العرب أيضا، والفوضى في البلدان العربية، ولكن إيران تخرج الفائز الأكبر فيها وتجبر الغرب على الركوع أمامها، وها هي أمريكا تستجدي التعاون معها في العراق، الأمر الذي يحتم إجراء مراجعة لهذه السياسات السعودية. الفشل في العراق عربي بالدرجة الأولى، مثلما هو في سورية وفي مصر وفي ليبيا، ولا ننسى الفشل العربي الأكبر في فلسطين، والشرخ الطائفي يتعمق أكثر في المنطقة العربية، وسيؤدي حتما إلى تقسيم بلدان مستقرة، مما يحقق نبوءة الفيلسوف والمؤرخ اليهودي الصهيوني برنارد لويس ليفي الذي كان أول من طالب بتقسيم العراق باعتباره دولة مصطنعة، وتبنى نظريته هذه جو بايدن، نائب الرئيس الأمريكي الحالي. الأسابيع المقبلة حاسمة في العراق بل وفي المنطقة بأسرها، واجتماع الجامعة العربية الطارئ الذي يعقد في اليومين المقبلين، وعلى مستوى المندوبين (للأسف)، لن يقدم أو يؤخر، لأن عرب الجامعة تآمروا على العراق في معظمهم، وأهملوه على مدى عشرة أعوام من الاحتلال، والآن يجعلون من نوري المالكي، رئيس وزرائه، كبش فداء ويحملونه المسؤولية الكبرى، وكأنهم أبرياء من الإهمال وشركاء له في المأساة العراقية. نعم، الفشل السياسي في شمال العراق لحكومة المالكي وسياساتها الإقصائية والتهميشية يتحمل المسؤولية في حدوث الانفجار الراهن، ولكن التعاطي العربي الرسمي مع الأزمة العراقية منذ عشر سنوات كان إقصائيا وتهميشيا وطائفيا أيضا، تماما مثلما هو التعاطي الحالي مع الأزمة السورية. السياسة لا تدار من منطلقات انتقامية ثأرية في القرن الواحد والعشرين، وشخصنة الأزمات تؤدي إلى تفاقمها أكثر، ومن المؤسف أن العداء للسيدين المالكي والأسد معظمه شخصي طائفي، أعمى أصحابَه عن رؤية سياسية بعيدة النظر والصائبة، فمن يريد ديمقراطية في سورية عليه أن يبدأ بنفسه ومن ينتقد طائفية المالكي، وهي صحيحة، عليه أن يتعرف على موطنه بطريقة غير طائفية. العراق مقبل على مجازر بشعة في ظل التحشيد الطائفي الحاصل حاليا، فالسيد علي السيستاني، المرجع الشيعي الأعلى في العراق، أصدر فتوى بالقتال في حرب «مقدسة» ضد «الإرهاب»، والمرجعيات السنية برئاسة الشيخ يوسف القرضاوي ردت بوصف هجوم مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام بكونه «»ثورة عارمة» للسنة نتيجة لسياسات الذل والتحكم في مصيره وقوته ومستقبل أبنائه». لم نسمع عن أحد يطالب بالتصدي لهذه الفتنة التي سيكون ضحاياها من العرب والمسلمين من الطائفتين، وبمئات الآلاف، من خلال الدعوة إلى لقاء عاجل لكل قادة الرأي وأهل الحكمة في الجانبين، وفتح حوار سعودي إيراني فوري لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وعدم تكرار الفشل الحالي في سورية. الحرب الدموية في سورية لم تحل بالمواجهات العسكرية، وبات الجميع على قناعة تامة بهذه النتيجة، بما في ذلك الدول التي دعمت أطراف هذه الحرب وسلحتها؛ فإذا كان الحل السياسي موضع إجماع في سورية فلماذا لا يكون كذلك في العراق؟ وهل ننتظر مقتل مئات الآلاف من العراقيين حتى نصل إلى هذه القناعة؟ العراق لا يتقسم جغرافيا فقط وإنما نفسيا وديمغرافيا أيضا، والتحريض الطائفي في الجانبين هو السائد للأسف، وعلى لسان مرجعيات صدعت رؤوسنا بالحديث عن حوار الأديان والتسامح بين المذاهب وعقدت العشرات من المؤتمرات في هذا الصدد. أمريكا أصابتنا بداء الطائفية وانسلت، وتركتنا نقتل بعضنا البعض، والآن يستنجد بها الطرفان، ولكنها لن تتدخل لأنها هي التي خططت لمثل هذا السيناريو الذي تعيشه المنطقة، ينخدع البعض منا لتحريكها حاملات طائراتها إلى مياه الخليج، ويعتقد أنها قادمة لإنقاذ العرب، ألم تحرك هذه البوارج وهذه الحاملات استعدادا للهجوم على إيران ثم فوجئ حلفاؤها بحوار سري ثم اتفاق مع الأخيرة؟ من الصعب أن نرى طرفا منتصرا في هذه الأزمة العراقية، ربما يتم الاستيلاء على مدينة هنا أو استعادة مدينة هناك، ولكن الحسم العسكري لن يحدث في المستقبل، القريب على الأقل. عداد الموتى بدأ العد، وعداد المهجرين الهاربين بأرواحهم بدأ أيضا، و»إبراهيمي العراق» جارٍ البحث عنه.. نحن نتحدث عن العراق وليس عن سورية، ألا تتشابه الظروف والوقائع وربما النتائج أيضا؟! عبد الباري عطوان