يشهد العراق حالة انهيار كامل ومتسارع لما تبقى من الدولة العراقية ومؤسساتها، ناهيك عن هيبتها، إذا ما كانت لها هيبة، بعد نجاح قوات الدولة الإسلامية في العراق والشام، بقيادة أبي بكر البغدادي، والقوى المتحالفة معها، مثل جنود وضباط الجيش العراقي السابق بقيادة عزة إبراهيم نائب الرئيس صدام حسين، وجيش المجاهدين، وأنصار الإسلام، في السيطرة على محافظتي نينوى (عاصمتها الموصل) وصلاح الدين (تكريت) وتقدم قواته نحو العاصمة بغداد وبات على وشك أن يطرق أبوابها. البرلمان العراقي فشل، يوم الخميس، في تلبية مطالب السيد نوري المالكي، رئيس الوزراء المنتهية ولايته، بإعلان حالة الطوارئ في البلاد لأن نصابه، أي البرلمان، لم يكتمل، الأمر الذي أضاف أزمة شرعية أخرى إلى أزمات العراق المتفاقمة، وأثبت وجود حالة «تمرد» في صفوف أعضائه؛ فإذا كان النصاب لا يتحقق في ظروف تتهدد فيها الدولة بالانهيار، فمتى يتحقق؟ تقسيم العراق بات في طريقه إلى التكريس النهائي، وسيكون العراقيون محظوظين إذا ما اقتصر على ثلاثة كيانات (شيعية وسنية وكردية) لأن الفوضى من المرجح أن تكون عنوان المرحلة المقبلة الأبرز في «محاكاة» أكثر سوءا للنموذج الليبي الدموي الحالي، ولا نستبعد أن نشهد في المستقبل القريب تكرارا لصيغة «المدينة الدولة» على غرار ما حدث في إيطاليا ومحيطها قبل وبعد الإمبراطورية الرومانية، أي أن تكون هناك دولة الموصل ودولة البصرة ودولة بغداد ودولة كربلاء.. وهكذا. العراق يقف حاليا، في اعتقادنا، على حافة حربين أهليتين قد تنفجران قريبا على نطاق واسع، ستحدد نتائجهما ليس صورة الطبعة الثانية من «العراق الجديد» وإنما المنطقة العربية المشرقية بأسرها: - الحرب الأولى: حرب أهلية طائفية بين السنة والشيعة، تكون حربا بالنيابة بين إيران والمملكة العربية السعودية، على غرار ما هو حادث حاليا على الأرض السورية؛ - الحرب الثانية: حرب عرقية، أي بين الأكراد والعرب، وبدأت إرهاصاتها في هجوم تحالف الدولة الإسلامية على مدينة كركوك والاشتباك مع قوات «البشمرغة» الكردية المدافعة عنها استجابة لاستغاثة السيد المالكي بها. ومثلما أجبرت الحرب في سورية حزب الله اللبناني على النزول من فوق السور والزج بقواته فيها علانية إلى جانب النظام، فإن الحرب الأهلية الطائفية الزاحفة بسرعة إلى العراق ستوقع حتما إيران في مصيدتها وبالطريقة نفسها، من أجل استنزافها ماليا وعسكريا، في وقت تتحمل فيه الجزء الأكبر من أعباء الحرب السورية، والتورط في حربين واحدة في سورية وأخرى في العراق سيشكل كابوسا مرعبا للقيادة الإيرانية. أبو محمد العدناني، أحد أبرز قيادات تنظيم «الدولة الإسلامية» والمتحدث باسمه، دعا مقاتلي تنظيمه، في بيان رسمي، إلى مواصلة الزحف «جنوبا» نحو العاصمة بغداد ومدينة كربلاء «لأن الوطيس لم يحمَ بعد.. ولن يحمى إلا في بغداد وكربلاء فتحزموا». وفي المقابل، رد السيد مقتدى الصدر بالتهديد بإحياء جيش المهدي الذي أقدم على حله تحت ضغط السيد المالكي والقيادة الإيرانية، وهناك العديد من الميليشيات الأخرى جاهزة في الجانب الشيعي، مثل عصائب أهل الحق وكتائب العباس وفيلق بدر وميليشيا حزب الدعوة. العملية السياسية في العراق، الممثلة في البرلمان وتقاسم السلطة على أسس محاصصة طائفية وعرقية، تترنح أيضا، وسقطت معها صيغة التعايش المهلهلة والهشة بين الطوائف، والنخبة السياسية الفاسدة المشاركة فيها من خلال أحزاب وتحالفات وكتل ذات طابع طائفي في معظمها، وسيكون السيد المالكي أكبر الخاسرين أيا كانت النتائج، لأن فرصته في رئاسة الحكومة للمرة الثالثة باتت محدودة جدا، إن لم تكن معدومة. نزعات السيد المالكي ذات الطابع الطائفي وفشله في تحقيق المصالحة الوطنية وبناء دولة عصرية حديثة تقوم على التعايش والمساواة والهوية الوطنية الجامعة، وتهميشه للطائفة السنية، كل هذه العوامل أدت إلى التفاف أبنائها أو نسبة كبيرة منهم، وخاصة ضباط النظام السابق الذين يتمتعون بخبرة عسكرية هائلة، بشكل مفاجئ، خلف التحالف الحالي بزعامة الدولة الإسلامية. كثيرون راهنوا على نجاح التحالف «غير المنطقي» بين الجيش السوري الحر وجبهة «النصرة» وفصائل إسلامية أخرى في سورية، من جهة، وحكومة السيد المالكي وقواتها وأنصارها في الجانب العراقي، في الجهة الأخرى، في «اجتثاث» الدولة الإسلامية والقضاء عليها كليا على جانبي الحدود العراقية السورية، وبمباركة أمريكية عربية تركية، ولكن تساقط المدن في العراق، الواحدة بعد الأخرى، أمام قوات تحالفها يؤكد عمليا فشل هذا الرهان، في الوقت الراهن على الأقل، وإظهار قوة هذا التنظيم في المقابل وقدرته على البقاء وتغيير المعادلات على الأرض. تنظيم الدولة الإسلامية، الوارث «الشرعي» لتنظيم القاعدة في طبعته الأصلية الأولى ونهج أبي مصعب الزرقاوي، «أمير» ولاية العراق، بات أكثر قوة وتوسعا من «التنظيم الأم»، وأصبح زعيمه أبو بكر البغدادي هو الأقرب إلى تجسيد شخصية الشيخ أسامة بن لادن وصفاته القيادية، من وجهة نظر الكثير من الخبراء في جماعات الإسلام السياسي. نشرح أكثر ونقول إن تنظيم «الدولة الإسلامية» تنظيم عابر للحدود، لا يحصر قتاله في سورية والعراق فقط، ولا يغلق أبواب عضويته أمام أي مقاتل إسلامي يريد الانضمام إلى صفوفه، مثل تنظيمات إسلامية أخرى، الأمر الذي جعله نقطة جذب ل»مجاهدين» قادمين من إفريقيا وأوربا وأمريكا وآسيا ومعظم البلدان العربية في المشرق والمغرب، لأن هدفه النهائي، مثلما تقول أدبياته، هو إقامة دولة الخلافة الإسلامية، ومن المفارقة أنه أقام نواة أولى لهذه الدولة بإلغاء الحدود السورية العراقية وإقامة كيان يمتد من الرقة غربا حتى حدود الأنبار شرقا، يرفع راياته السود فوق سارياته ويطبق حكم الشريعة فيه. والأخطر من ذلك أن التنظيم بات مكتفيا ذاتيا على الصعيدين المالي والتسليحي، فقد استولى على ما يقرب من نصف مليار دولار نقدا من البنوك العراقية في الموصل وتكريت بعد السيطرة عليها، وشوهدت قوافل من الشاحنات تمتد لعدة كيلومترات تنطلق من الموصل باتجاه مدينة الرقة، مقر الدولة الإسلامية في الشام، محملة بأحدث الأسلحة الأمريكية الفتاكة التي تم الاستيلاء عليها من مخازن الجيش العراقي في الموصل وتكريت وغيرها، تماما مثلما تم الاستيلاء على مثيلاتها بعد الهجوم على مخازن الجيش السوري الحر في مدينة أعزاز قرب الحدود التركية. بعض المحللين استغربوا انهيار وحدات الجيش العراقي في الموصل وتخليها عن أسلحتها ومعداتها، بل وملابسها العسكرية، وهربها إلى كركوك وإقليم كردستان العراق أمام زحف تحالف قوات الدولة الإسلامية الأضعف تسليحا والأقل عددا (800 عنصر هاجموا الموصل التي يحميها ثلاثون ألف جندي عراقي)؛ والرد على ذلك بسيط جدا، فمقاتلو تنظيم الدولة وحلفاؤهم مستعدون لتفجير أنفسهم في حاجز أو مخفر أو مركز للجيش العراقي، ولكن من المستحيل أن تجد جنديا عراقيا مستعدا لتفجير نفسه من أجل السيد نوري المالكي وحكومته. لا يمكن أن ننسى أو نتناسى في هذه العجالة ونحن نحلل المشهد العراقي أن الغزو الأمريكي للعراق، الذي تم بدعم عربي للأسف، هو المسؤول الأول عن كل هذه الكوارث التي حلت وتحل بالعراق وشعبه، ومن ثم المحاصصة الطائفية التي بذر بذور فيروساتها بول بريمير، الحاكم العسكري الأمريكي، بتوصية من السيد الأخضر الإبراهيمي، مبعوث الأممالمتحدة في العراق، (اعتذر الإبراهيمي عن هذا الخطإ رسميا)، وألحقها بحل الجيش العراقي، وهي كلها مجتمعة قادت وتقود إلى الحروب الأهلية الطائفية والعرقية التي نرى إرهاصاتها ومقدماتها في أسوإ صورها حاليا في هذا البلد. لا نريد أن ننكأ الجراح أكثر من هذا، ولكننا نختم هذه المقالة بالقول، ودون أي تردد، ورغم معرفتنا المسبقة بآراء من يختلف معنا ويكابر ويعاند، بأن العراقيين، شيعة وسنة وأكرادا، سيترحمون على مرحلة ما قبل الغزو الأمريكي، ونظام الرئيس صدام حسين، الذي تثبت الأيام أنه كان عراقيا وطنيا أصيلا ولم يكن طائفيا رغم كل مساوئه في نظر هؤلاء، وأراد بناء عراق قوي متعايش يحقق التوازن مع جيرانه ويحافظ على هويته العربية، وينتصر لقضايا أمته العربية والإسلامية، ولهذا تآمروا عليه وعلى العراق لأنه يشكل خطرا على الغرب وعلى إسرائيل. عبد الباري عطوان