تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، الذي بات يشكل الصورة الأحدث والأخطر لتنظيم «القاعدة الأم»، حقق يوم الثلاثاء أعظم انتصاراته عندما فاجأ كارهيه قبل محبيه، بما في ذلك حكومة السيد نوري المالكي، بالاستيلاء على محافظة نينوى بالكامل، واقتحام سجونها، والإفراج عن ثلاثة آلاف معتقل فيها من رجاله، والسيطرة على محطتي تلفزيون وكل البنوك وجميع القواعد العسكرية والأمنية. هذا الانتصار لا يعكس قوة التنظيم وصلابته والخبرات العسكرية الهائلة التي يمثلها رجاله فقط، وإنما يعكس أيضا وفي الوقت نفسه هشاشة الدولة العراقية ومؤسساتها الأمنية والعسكرية وانهيار معنويات جنودها، فشهود العيان في مدينة الموصل، عاصمة المحافظة، قالوا إن هؤلاء خلعوا ملابسهم العسكرية والقوا بأسلحتهم على الأرصفة وحرقوا عرباتهم المدرعة وفروا مشيا على الأقدام باتجاه إقليم كردستان، طلبا للسلامة لأن الدولة التي يدافعون عنها وعن هيبتها والقيادات السياسية التي تتحكم في مؤسساتها لا تستحق الموت من أجلها. محافظة نينوى تعتبر واحدة من أهم المحافظاتالعراقية لما تتمتع به من موقع استراتيجي بسبب كونها قريبة من الحدود السورية أولا، وباعتبارها البوابة الرئيسية للمناطق الكردية التي تتمتع بالحكم الذاتي، وخاصة مدينة كركوك الغنية بالحقول النفطية المحاذية. زحف تنظيم الدولة إلى الموصل بعد الفلوجة، واستيلائه على أجزاء من مدينة كركوك، وتقدمه نحو محافظة صلاح الدين، وسيطرته قبل ذلك على مدينة الرقة في سورية، كل هذه المؤشرات تؤكد أن هذا التنظيم بات «دولة داخل دولتين»، أي العراق وسورية معا، وفي طريقه إلى التمدد نحو محافظات عراقية، وربما دول أخرى. أعداد عناصر هذا التنظيم بالآلاف، ولكنها استطاعت أن تهزم الدولة العراقية ومؤسساتها العسكرية والأمنية التي يزيد عدد جنودها على المليون جندي، مدججين بأحدث الأسلحة الأمريكية ويحظون بخبرات عسكرية عصرية اكتسبوها من مدربيهم الأمريكان. الدولة العراقية، إذا كانت هناك دولة فعلا، تقف أمام كارثة حقيقية، ولا نعتقد أنها ستخرج منها في المستقبل المنظور، لأنها أساءت تقدير قوة هذا التنظيم أولا، وتصرفت حكومتها بطريقة طائفية إقصائية، وأضاعت كل الفرص لتحقيق المصالحة الوطنية وبناء هوية عراقية جامعة. السيد المالكي دعا البرلمان إلى اجتماع طارئ الخميس من أجل اتخاذ قرار بإعلان الأحكام العرفية، واستنجد بالعشائر وشيوخها وزعمائها وأفرادها، ودعا المواطنين العراقيين إلى حمل السلاح ومحاربة الإرهاب والإرهابيين، ولكننا لا نعتقد أنه سيجد الاستجابة التي يتطلع إليها، فإذا كان جنوده قد هربوا بملابسهم المدنية وألقوا بسلاحهم في الشوارع ولم يقوموا بواجبهم في الدفاع عن المحافظة الأهم في شمال العراق، فهل يتوقع من المواطنين العاديين أن يفعلوا ما عجز عنه هؤلاء الجنود الذين تخلوا عن أبسط واجباتهم؟ استغاثة السيدين المالكي وأسامة النجيفي، رئيس البرلمان، بالإدارة الأمريكية، أو بقوات البشمرغة الكردية، لمساعدتهم في التصدي لزحف عناصر الدولة الإسلامية ربما لا تجد الاستجابة المطلوبة أو المأمولة أيضا، فالإدارة الأمريكية الحالية لا تريد العودة إلى العراق مجددا بعد أن خسرت خمسة آلاف جندي علاوة على ثلاثين ألف جريح، وثلاثة تريليونات دولار، فهي لا يمكن أن تلدغ من الجحر نفسه مرتين؛ ومن المستبعد أن تهرع قوات البشمرغة لنجدة السيد المالكي الذي يرفض زعيمها السيد مسعود البرازاني التحالف معه، ويصر على استبداله برئيس وزراء عراقي آخر، وإذا استجابت فبشروط تعجيزية أبرزها التنازل عن كركوك، درة التاج الكردي. وصول عناصر الدولة الإسلامية إلى كركوك والاستيلاء عليها كليا أو جزئيا، سيشكل كارثة أكبر لإقليم كردستان العراق الذي يتنعم بحالة من الاستقرار الأمني والازدهار العراقي ليس لها مثيل في منطقة الشرق الأوسط بأسرها، حتى إن البعض وصف أربيل بكونها سويسرا الشرق الأوسط. مواجهة الدولة الإسلامية لا تتم، في رأينا، باستدعاء الأمريكان والعشائر والبشمرغة وإنما بسياسات وعقليات غير طائفية تؤمن بالتعايش ومبدإ الشراكة، ولا نعتقد أن مثل هذه الصفات الجوهرية تتمثل في معظم قيادات النخبة السياسية العراقية في الجانبين السني والشيعي للأسف، وعلى رأسها السيدان المالكي والنجيفي وباقي المنظومة السياسية التي تدور في فلكها. الولاياتالمتحدةالأمريكية هي التي بذرت بذور الدمار والخراب، ليس في العراق وحده وإنما في المنطقة بأسرها، ومن المؤلم أن من مهدوا لغزوها للعراق وتفكيك هياكل حكمه، وحل جيشه، وتكريس المحاصصات الطائفية، هم الذين يقودون عملية التفتيت وعدم الاستقرار. تنظيم الدولة الإسلامية هو القوة القادمة العابرة للحدود، وهو الخطر الزاحف الذي خرج المستفيد الأكبر من الفوضى الأمريكية الخلاقة، والدول الفاشلة التي أوجدتها في ليبيا والعراق وسورية واليمن، ولا نستبعد أن يتخذ من دولته الجديدة على طرفي الحدود السورية العراقية المشتركة منطلقا لهجمات ضد أمريكا والدول الأوربية في المستقبل القريب، فهو، على عكس تنظيم «القاعدة»، يملك حاضنة إسلامية واجتماعية قوية وأطنانا من الأسلحة والعتاد وموارد مالية ضخمة، عنوانها سيطرته على أكبر مخزونين لاحتياط النفط وصناعته في العراق وسورية، وفوق كل هذا وذاك خبرة «قتالية عالية وحديثة». لو كنت مكان الإدارة الأمريكية وإسرائيل والعراق وزعماء الأكراد، وأنظمة الحكم في سورية والعراق والأردن وإيران والسعودية، لشعرت ليس بالقلق فقط، وإنما بالرعب من هذا «التسونامي» الذي اسمه الدولة الإسلامية في العراق والشام وبات يجتاح المنطقة وتتهاوى أمامه المحافظات والمدن والجيوش. عبد الباري عطوان