ليس هناك حاجة إلى التأكيد أن العالم العربي تحت المجهر الغربي في كل آن وحين،نظرا لموقعه الجغرافي ولموارده الطاقية والطبيعية.ولهذا ساهم "الغرب" مبكرا في صياغة خارطته السياسية،حيث دعم أنظمة سياسية معينة موالية،رغم استبداديتها،و حارب سرا وعلنا أنظمة سياسية أخرى ترفض أن تستظل تحت مظلة الوصاية والتبعية.هذه الوصاية تقوم على دعامتين أساسيتين لأجل استمراريتها،الدعامة الأولى هي منع أي انتقال ديمقراطي أن يتحقق وأن يأخذ مساره السليم في أية دولة من الدول العربية،والدعامة الثانية هي العمل على إفشال أي "دولة" تسعى إلى التمكن من أسباب "القوة الشاملة"،ونعني بها القوة التكنولوجية والمعرفية والاقتصادية والعسكرية وغيرها،وذلك منذ إسقاط دولة "محمد علي" بمصر في أواسط القرن التاسع عشر،مرورا بدولة "جمال عبد الناصر" وتجربة "ثورة الضباط الأحرار" في مصر أيضا، ثم وصولا إلى دولة العراق زمن "صدام حسين" وتجربة "حزب البعث" في العراق، صحيح أن الأساليب المستخدمة تغيرت،لكن الهدف ظل واحدا. لا يحتاج المرء إلى اطلاع واسع أو ذكاء حاد ليعرف أن هذه الأنظمة الاستبدادية التي سادت طويلا في العالم العربي،لا بد لها أن تنهار بفعل التآكل الداخلي الناتج عن سيادة الاستبداد وتفشي الفساد،وبفعل تطلعات شعوب المنطقة نحو الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية.إذن ف"الربيع العربي" كان متوقعا داخليا وخارجيا،ولا شك أن القوى الخارجية المهيمنة عالميا قد وضعت "سيناريوهات" للتدخل وللتأثير في مجرى "الأحداث" بما يخدم مصالحها اعتمادا على دول وقوى سياسية إقليمية تابعة. وهكذا،كانت الشرارات الأولى،4 يناير 2011،من تونس،التي انتشرت بفعل لهيب النار وهي تأكل جسد الشاب الغاضب "محمد البوعزيزي" في ولاية "سيدي بوزيد".ثم اندلعت الانتفاضات في "مصر" في 25 يناير،وفي 27 يناير انطلقت المظاهرات من جامعة "صنعاء" في اليمن التي سميت "ثورة الشباب"،ثم تحركت "بنغازي" بليبيا في 17 فبراير،وبعد ذلك قامت الأحداث ب"سوريا" في 15 مارس.طبعا انتشرت شرارات "الربيع العربي" في بلدان أخرى،عرفت مظاهرات شعبية، إلا أنها لم تترتب عنها تداعيات كبرى مثلما حدث في البلدان المذكورة،باسثناء "الجزائر" التي لن تتأثر بما يجري حولها لأسباب داخلية،أهمها أنها خرجت للتو منهكة من صراع داخلي دام وعنيف استمر طوال العقد التسعيني،و"لبنان" الذي هو أيضا جرب الحرب عليه من خلال الاقتتال الداخلي الطائفي قبل الجزائر بسنوات من 1975 إلى 1983.وكذلك دول الخليج التي ساهمت في إشعال الحرائق في هذه البلدان دون أي يتطاير في وجهها شرر لهيبها،إلا بلد "البحرين" الذي سبق "الربيع العربي" بسنوات ولا يزال يدور في حلقة مفرغة بسبب الدعم الغربي والخليجي للنظام الاستبدادي القائم هناك.لكن من المفيد أن نلاحظ أن "الربيع العربي" اتخذ صورا مختلفة في البلدان التي وصل إليها لهيبه،نظرا لخصوصية كل بلد في المجال السياسي والدبلوماسي والاجتماعي والثقافي. في تونس،لم تتمكن نيران "الربيع العربي" الملتهبة أن تلتهم أسس النسيج الاجتماعي التونسي،رغم تدخل أطراف إقليمية ودولية ومحاولتها تسييد اتجاه "الإسلام السياسي"،لم يتم ذلك لأسباب متعددة،أهمها : وجود شبكة مجتمع مدني قوي استطاعت إحداث التوازن السياسي في هذا البلد،استفادة الشعب التونسي من تعليم نوعي وجيد نسبيا،ساهم في إنتاج وعي مدني وسياسي متحضر،وجود عمل نقابي عريق ومتأصل،وجود تعددية حزبية متكآفئة،رغم سعي بعض أطرافها إلى إضعاف الطرف الآخر،وتجلى ذلك في اغتيال قياديين يساريين كبيرين ومؤثرين هما " شكري بلعيد" و"محمد البراهمي".ومن المثير أن نلاحظ أن بداية اندلاع "الثورة" كانت في محافظة "سيدي بوزيد"،وأيضا قيام حركة تصحيح مسار "الثورة" انطلقت من نفس المحافظة كذلك،حين انطلقت النساء في مظاهرات قوية صاخبة منددة باستهداف "الإسلام السياسي" لحرياتهن ومكاسبهن الاجتماعية والسياسية.لحد الآن،لا يزال المجتمع التونسي يبحث عن توازنه السياسي،ويعمل على الحد من تدخل القوى الخارجية،وفي هذا السياق يمكن أن نقرأ،مؤخراً،دلالة تضمين "الاتحاد العام التونسي للشغل" في قانونه الأساسي بندا يجرم "التطبيع مع إسرائيل"،ودلالة التصويت عليه بالإجماع.لكن ماذا حدث في مصر ؟ ليس في مصر قوى سياسية مؤثرة شعبيا بعد سنوات طويلة من استبداد "المؤسسة العسكرية"،الذي أدى إلى إفقار الحياة السياسية في مصر،إلا حركة "الإخوان المسلمين" التي ظلت متماسكة تنظيميا ومشاركة في الحياة السياسية البرلمانية،رغم أنها محظورة رسميا منذ زمن "عبد الناصر" سنة 1954،غير أن من أسباب تماسك هذا التنظيم السياسي هو أن "النظام العسكري"،منذ انقلاب "أنور السادات" على "الناصرية"،سمح لها بالقيام بنشاطها السياسي محاولا استمالتها واستغلال عدائها ل"القومية الناصري" ول"اليسار المصري" بشكل عام.إضافة إلى ذلك،يمكن أن نشير إلى أن هذا التنظيم وجد لكي يكون دعوة عالمية من خلال تنظيم عالمي،وذلك منذ المرشد الأول "حسن البنا"،رغم تعثره أيام الصراع الدموي مع "جمال عبد الناصر"،إلا أنه أعاد تنظيم نفسه بعد ذلك،وهكذا وجد ما يسمى "التنظيم العالمي للإخوان المسلمين" كحركة إسلامية عالمية.لقد كتب الكثير حول هذا "التنظيم العالمي" وعن أدبياته وأساليبه التنظيمية،رغم أن "يوسف ندا" أحد قادة "الإخوان المسلمين" كان قد أنكر وجوده في إحدى مقابلاته في إحدى المحطات الفضائية العربية قبل سنوات.لكن وجود مثل هذا "التنظيم العالمي" يفسره توسع الحركة الإخوانية خارج مصر وبناء فروع لها في كل الدول العربية تقريبا سرية أو علنية وغير العربية أيضا،منها تنظيمات ظلت مرتبطة سياسيا بالأصل المصري،ومنها أخرى اتخذت لنفسها ملامح سياسية تتلاءم وبيئتها الخاصة السياسية والاجتماعية والثقافية،لكن كل هذه التنظيمات الفرعية،في مجموعها،ظلت تكن الكثير من التعاطف السياسي مع التنظيم الأصل، كما يمكن أن نضيف ارتباطات هذا التنظيم بقوى خارجية،وذلك منذ تأسيسه خاصة النظام السياسي البريطاني،وحواره المستمر،فيما بعد، مع نظام "الولاياتالمتحدةالأمريكية".ما يهمنا هنا هو أنه للأسباب المذكورة كان تنظيم "الإخوان المسلمين" هو القوة السياسية الوحيدة القادرة على ملء الفراغ السياسي التي أحدثته "ثورة" 25 يناير،ولهذا عندما كان الشباب المصري يحتل الميادين العامة ويهتف للثورة وللكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية،كان قياديو هذا "التنظيم" يتفاوضون مع "العسكر" حول ترتيب المرحلة السياسية التالية،وهكذا خاض "الإخوان" الانتخابات برضى "المؤسسة العسكرية" وموافقتها،وكذلك بدعم من القوى السياسية المتواجدة في الساحة ضد عودة النظام السابق المتمثلة في المترشح "أحمد شفيق" المنافس القوي الوحيد ل"الإخوان".لكن ماذا حدث بعد ذلك ؟ ما الذي جعل "المؤسسة العسكرية" تنقلب على "محمد مرسي" بعد مرور سنة واحدة فقط على تنصيبه رئيسا للجمهورية المصرية؟ لا شك أن أهم الأخطاء السياسية التي ارتكبتها حركة "الإخوان" تتجسد،أولا، في عدم استيعاب مفهوم "المرحلة الانتقالية" سياسيا،وبالتالي عدم القدرة على حسن تدبيرها سياسيا،وهذا ما صرح به القيادي التونسي "راشد الغنوشي" الذي زار "محمد مرسيي" ضمن "لجنة" لتقديم "النصيحة" السياسية،التي تمحورت حول كيفية حسن تدبير "المرحلة الانتقالية" بإشراك أطراف سياسية أخرى واعتماد مبدأ "التدرج"،لكن "محمد مرسي" لم يصغ لنصيحة "اللجنة"،وتبين أن "القرار السياسي" لا يقف عند حدود "رئيس الجمهورية" بل يمتد إلى "مكتب المرشد العام" وإلى المرشد العام "محمد بديع"،وهكذا أدى تسرع "الإخوان" في العمل على الاستحواذ المطلق على القرار والمشهد السياسيين وإقصاء الأطراف الأخرى إلى أن يكون أحد الأسباب الأساسية التي عجلت بفشلهم.نضيف كذلك رغبتهم في الاستحواذ أيضا على "المؤسسة العسكرية"،وذلك عندما أقال "محمد مرسي" القائد العام للمجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية " المشير "محمد حسين طنطاوي"،وعين بدله "عبد الفتاح السيسي" وترقيته من رتبة "لواء" إلى رتبة "فريق أول" وتعيينه وزيرا للدفاع،وهكذا أصبح الرجل الذي سيطيح،فيما بعد،بحكم "الإخوان"،قائدا عاما للمجلس الأعلى للقوات المسلحة ووزريرا للدفاع بقرار "الإخوان" أنفسهم وبمحض إرادتهم.كما يمكن أن نضيف سببا آخر وهو الانخراط المتسرع في المشهد العام ل"الربيع العربي" الذي أصبحت تتحكم فيه عمليا وإعلاميا وسياسيا دول غربية وعلى رأسها أمريكا محركة حلفاءها الإقليميين خاصة قطر والسعودية وتركيا،وتجلى ذلك واضحا في الموقف مما يجري في "سوريا"،وذلك عندما صرح "محمد مرسي"، في ملعب لكرة القدم غاص بالجماهير، معلنا قطع العلاقات الدبلوماسية مع "سوريا" وإغلاق سفارتها،نعم إغلاق "السفارة السورية" وليس "السفارة الإسرائيلية" التي تلقت،على العكس من ذلك،تلقت رسالة تهنئة من "محمد مرسي" إلى "شمعون بيريز" يصفه فيها ب"عزيزي وصديقي العظيم" ويتمنى فيها السعادة ل"بيريز" ورغد العيش ل"إسرائيل".المهم هو أنه تم اتخاذ هذا القرار الخطير بخصوص "سوريا" في مشهد لا يخلو من "شعبوية" واستخفاف بخطورته ولا يخلو أيضا من تحريض "طائفي" عندما أشار "مرسي" في خطابه "الجماهيري" إلى شيعية "حزب الله"،وبذلك عبر عن استعداد "مصر" للانخراط في الصراع الدامي الدائر في "سوريا"،أي في المسار العام الذي رسمته أمريكا تطبيقا لشعارها "الفوضى الخلاقة" التي أطلقته قبل سنوات على لسان "كوندليزا رايس".لكن الملاحظ أن بعد أيام فقط من هذا الخطاب الانفعالي المتسرع الموسوم بالخطورة،أصدرت المؤسسة العسكرية بيانا يخالف تلميحا القرار الذي تضمنه الخطاب،ويؤكد أن "سوريا" هي جزء من الأمن القومي المصري.وكان ذلك إيذانا ببداية التباعد السياسي بين "حركة الإخوان" و"المؤسسة العسكرية".أضف إلى ذلك الجانب الاجتماعي حيث انتشرت ظواهر سلبية وخطيرة على النسيج الاجتماعي المصري،مثل تفشي حالة من العداء للمكون الاجتماعي القبطي المسيحي المصري،وللمكون الشيعي المصري،ومعاداة لا تخلو من عنف للمكونات السياسية اليسارية المصرية،وتهميش المثقفين حين تم تعيين "وزير" للثقافة لا يمت للثقافة بصلة ولم ينشر أي شيء ذي قيمة معرفية أو علمية،مما أثار حفيظة المثقفين المصريين،وكانوا أول من تحركوا للاحتجاج على "مرسي"،كما أنه تم تعيين أشخاص اتهموا بالإرهاب وسجنوا لأجل ذلك في مناصب مهمة،وهي خطوة لا تخلو من خطورة وتهور،ففي إطار سعي "الإخوان" للتحالف مع "الجماعة الإسلامية"، تم تعيين "عادل الخياط"محافظا للأقصر،وهو قيادي من "الجماعة الإسلامية"، كان قد سبق وأن قام بعملية إرهابية في الأقصر سنة 1997 بمعبد "حتشبسوت"،حيث قتل 58 سائحا أغلبهم من سويسرا واليابان،وهي "المجزرة" التي استنكرها وأدانها قياديين من "الجماعة الإسلامية" ذاتها مثل القيادي "أسامة رشدي" الذي أصدر بيانا يعلن إدانة "الجماعة" للعملية.ولذلك أثار هذا التعيين موجة من الغضب في مصر هدد من خلالها "هشام زعزوع" وزير السياحة بالاستقالة إذا بقي "عادل الخياط" محافظا للأقصر ذات الطابع السياحي.وهكذا بدأ العد العكسي لحكم "الإخوان" لمصر،لم يسلم،هذا العد العكسي،من عنف شديد عم البلد،كان بسبب تعنت "الإخوان" وتشبتهم بالحكم ودموية العسكر الشديدة،فيما بدا أنه نتاحر سياسي حتى الموت،وانتهى الصراع الدامي بين "السبحة" الدينية و"الخوذة" العسكرية،وأسدل الستار على سنة من حكم "الإخوان" بعودة "العسكر" إلى سدة الحكم،ويبقى الشعب المصري على موعد مع التاريخ،نحو تغيير أكثر جذرية يمس عميقا البنية العقلية والسلوكية للمواطن المصري،نحو وعي سياسي أكثر تطورا وفعالية. هذا ما أمكن رصده في بلدين عربيين مهمين،لكن ماذا عن حرائق "الربيع العربي" في ليبيا وسوريا واليمن؟وما هي أوجه الاختلاف بين ما حصل في هذه البلدان وما حصل في تونس ومصر؟ ولماذا ؟..وهو ما سنحاول تناوله في المقال القادم..