الكلمة فن راق يحقق للانسانية حياة أخلاقها، ويمثل للبشرية أسمى قيمها ويرسم للأمة منهاج حياتها. الكلمة الشاعرة تترجم بفلسفة عصرنا وآدابه وعلومه، فتراها كأنها قيلت مرة ثانية مِن فِي قائلها، تقرب من وجهت إليهم من إنسانيتهم القائمة بذاتها وتصحح أغلاط الزمن وأهله ، وأغلاط الناس في أناهم....وتجدها تحضنهم كالأطفال الذين غابت أمهم، فغاب ميزان طيشهم وتنافرهم وقانونهم الذي يضبط حياتهم ويحد من فوضاهم... الكلمة تبني وتهدم، ترفع وتخفض، تشعل نارا وتطفئ أنوارا، الكلمة تقيم وتقعد، تهدي وتضل، روحها روح قائلها وعظمتها من عظمته، وأثرها من صدقه وحكمته، وبلاغتها من صحة تلك الروح العليا بخصائصها العظيمة مجتمعة متساوقة لخدمة الإنسان الكوني وخدمة وجوده الروحاني على هذه الأرض، فيتلقف أسرارها المتجهة إلى الطبيعة ومن تم إلى النفس، فتعمل عملها في تصحيح كنه الإنسان ونفي الزيف عنه وتخليصه من الشوائب، ثم تصحيح الفكرة البشرية في الوجود ونفي الوثنية عنها والإرتقاء بها إلى عليين..... الكلمة إذا نظرت إلى معانيها و سبرت أغوارها، فانظرها في الخطاب الذي تضمنها وفي عمل قائلها، فإذا وجدتها ألفت قطعة بليغة من الكلام مزجت معانيه بالنفس وامتدت منها إلى اللفظ فتنفصل عن ناسجها وهي قطعة منه لتستحيل عند المخاطب بها قطعة من الحياة في لوحة تستثير الإدراك وتنير السبل أمام الحيارى في الأرض وتطرد الظلمة من دنياهم....... إني أرى أن الكلمة التي تفتقد الصدق والعذاب الذهني والألم الروحي المقدس ساهمت وتساهم بقوة في تردي إنسان هذا العصر، وما نراه اليوم من تمويه الإعلام ورذيلة الصحافة فإن سمو الكتابة فيه انحطاط فصيح لأن القارئ اليوم لا يخرج من حفظ القرآن وقراءة الحديث وتدبر الأمثال والحكم ودراسة كلام العلماء بحيث تصنع في النفس قانونها وتجعل معانيها مهيأة بالطبيعة لاستقبال تلك المعاني والإستجابة لتلك المباني الكبيرة في الدين والأخلاق والفضيلة والجد والقوة والإقدام، إن اشتغال الناس بالروايات والحكايات الفارغة، العارية من الوقار الكاسية بالخيبات والإحباطات، قد قاد الأمة إلى حافات الهلاك الروحي. وإن كلمات لا يسأل قائلها ما يقال عني في التاريخ؟ هي كلمات تظهر المخازي مكتوبة فيتنكر لها التاريخ وتتجاهلها الجغرافيا ويمحوها الإجتماع وتشطبها الأخلاق ويهوي بها الدين في قبور مظلمة!!!! قال صلى الله عليه وسلم:"إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا؛ يرفعه بها الله درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا ؛ يهوي بها في نار جهنم". رواه البخاري ومسلم يحتاج الإنسان الجديد إلى الكلمة المستقطعة من جمرات الروح والمشعلة جحيمها في أرواح العظماء الكلمة التي تسمو بخيالهم إلى الشفافيات الجمالية في الطبيعة والكون والحياة وتفجر فيهم قوى الإبداع وترتفع بها الأمم إلى مستويات راقية من الإدراك عالية من الفهم وتدفعهم إلى الإشتغال وتمنحهم قدرة على الإنتاج وإرادة على المقاومة والتغير... ومن ثم التصعيد الروحي نحو أفق أعلى وأسمى... إن آلام الأمة وأحزانها، كسلها الروحي وتمزقها الأخلاقي و"فوضى حواسها" وغياب ضميرها الثقافي يجعلنا نذكر بأن أية بداية حضارية أصيلة لا بد لها من روح دينية تحرك قواها الداخلية وتقود مسيرتها في أولى خطواتها، والفشل في التعبير عن همومها وأزماتها بالكلمة الدقيقة الحكيمة يقود إلى الإنفجارات المجتمعية العشوائية كما يفرز التطرّف في أنماط الحياة ويولد التشدد في الفكر لدى الجماعات التي أنهكها السكون والرضا بالتسول من مخلفات الحضارات الميتة!!!!! ولاستنهاض قوى الأمة الروحية والحضارية لابد من تحمل المفكرين لمسؤولياتهم الأخلاقية والأدبية لإبعاد الخطر عن حياتها الروحية وعن هويتها وبحركاتهم الإبداعية يأتي تأثيرهم في أصحاب الطاقات المنتجة وينتقل بريق هذه الطاقات من نفس إلى أخرى ومن روح إلى التي بعدها في تتابع مستمر قد يستغرق آمادا وقد يشمل أجيالا والمقصد من هذا التتابع هو قيادة الإنسان وتوازن المجتمعات والارتقاء بحياة الامم وبفكرها وسلوكها، إنها مهمة الكلمة المبدعة الراقية الكلمة المدرسة التي تكفل التربية الروحية والسلوكية للمواطن... إن التنكر لرواد الكلمة وإقصاء النوابغ والتضييق على المبدعين وركن المجددين وعزل المفكرين لن يزيد المجتمعات إلا تحللا وفسادا !!!!! بالكلمة الصادقة ينتبه الإنسان إلى نفسه. بها ينظر إلى طاقاته الهائلة الكامنة بدواخله، بالكلمة يستطيع المرء أن يجمع بين التنسك الروحي والإدراك العقلي، وبين ما يقدمه الجامع وماتعطيه المدرسة وهذا الخليط يصنع الإنسان الجديد.. الإنسان العالم العامل المنضبط الروحاني والمساهم في الإخراج الحضاري في أبهى تجلياته....